نقرأ أسباب نشأته، نخترق وجوده، نقيِّمه نتفكر فيه لمَ هو ثالث، وهل هو اتحاد الأول في الثاني والنتيجة يكون الثالث، لماذا هو كائن فيما يكون عليه، من هو الأول، وكذلك من يكون الثاني؟ وهل يخضع لنظرية الثنائية أي إنه لا بد من طرفين كي تكون هناك نتيجة، وما معنى النتيجة، وهل هي استهلاك؟ وماذا يعني الاستثمار في الاستهلاك؟ ومن يقع على عاتقه القيام بذلك؟.. نبحث في أسباب كلّ ذلك، ونسأل من أطلق عليه أسماءه وأرادها أن تكون دائمة وشاملة وملتصقة بإنسانه أينما حلّ وكيفما ارتحل، عالم ثالث يسكن على الجنوب، ولماذا كان منه فقط الشرق الروحي والمتجلّي على كامل عالم الجنوب، وعلاقته بالغرب المادي الذي أطلق عليه مسمّياته "الجنوب النامي أو المتخلف أو الثالث" لا يهدأ به النقاش حول الروح، وعودة المخلّص، فمتى يعود ميسيا اليهودي والمسيح المخلّص والمهدي المنتظر، ولذلك نجدهم يؤمنون بثقافة الانتظار ويعود أو لا يعود، وكذلك الصراع المادي منشئ الجدل الدائم، وبين هذا وذاك لا تختفي منه روائح الدماء والبارود، ومواخير العفن والتحلّل والتفسخ الفكري، عوالم من الخيال تتعلق بخيوط السماء التي تؤدي إلى الربِّ الإله، يسودها الدعاء والأيمان المغلّظة والصلاة والصيام دون قيام، والعبادات التي تحولت إلى عادات، ولم يعد هناك انتباه لما يحاك له من عمق التاريخ العاقل وحتى اللحظة، ذلك الذي يُنجز في عالم الشمال والغرب والذي يُقرّ فيه أن لا يتقدم إلاّ ضمن هوامش مراقبة تتجاذب في جُلّها صراع البقاء حول رغيف الخبز المدور، والجنس بقصصه الخفيّة التي تتحول إلى فضائح؛ ما إن تظهر إلى العلن متحولة إلى نقاشات تخصّ الشرف والدنس والحب المهزوم، والشرّ المتغلغل في الفكر، واللجوء إلى العرافة والشعوذة والجن والخير والشر من أجل طغيان الشخوص ضمن الحياة على بعضهم، وانتهاز الفرص للانقضاض وتبادل التهم دون فهم ثقافة التواصل والصعود والنزول من وإلى القمم، وإظهار الجحيم على شكل النعيم، وأفيون نظمه من شرقه إلى كامل جنوبه الفساد وجمع الملفات حول شخوصه، على الرغم من كثافته السكانية المقدرة بالمليارات، فكل إنسان له سِجل منذ لحظة ولادته يكبر معه ولا يُمحى منه شيء، يحفل بكامل أنواع الخطيئة، يُحفظ في خزائن الأسرار إلى أن يطلبه الكرسي أو حين إرادة لفظه عنه.
الفكرة التي نحن بصددها والمنجبة للسؤال الكبير؛ هي أن ماهية كوكبنا الحي قائمة على الإنسان الذي بدونه ما كان لنا أن نلتقي ونتبادل العلم والفكر وبه، أي بالإنسان تتكون الأسئلة، وعندما نتأمّل التكوين الإنساني نعلم أن العقل وُجد في أعلى الإنسان، أي في رأسه، والجنس والشهوة وُجدت في أسفله، بغضّ النظر عن حوامله، أي الأرجل، وأعتقد أن من خلال هذا التأمّل والتفكر في تكوينه استطاع تقسيم حضوره، فإما أن يكون متخلفاً يعيش في جنوبه أو أسفله بين الشهوة والمادة، وإما أن يعيش في شَماله ضمن عقله، وبينهما نسأل عمّا يتوسطه ألا وهو القلب وتأثيره المحدَث بين شماله وجنوبه، أي بين علمه وشهوته. وكذلك نتوقف - بكون بحثنا عن العالم الثالث - لنسأل أيضاً عن العالم الثاني: وهل وُجد حقيقة أم أنه مرَّ لبرهة واختفى، أم أنه موجود بشكل حقيقي، ولكنه ضئيل جداً، لم يمتلك لغة الحضور من خلال خوضه لتجارب لم تُكتب لها الحياة؛ إنما مازال يعيش في الخفاء متنقلاً بين الثالث والأول بين الروح والعلم والشهوة، يحتوي مئات العوالم بل آلاف امتلأت روحانيته بتقنيات الحروب البدائية؛ التي لم تصلها بعد مفاهيم السلم الإنساني الاجتماعي وقيم السلام المعرفي، لتبقى هذه العوالم تعيش تداخلات غريبة بين السلم والحرب، بين الحلال والحرام، بين العطور والأفيون، بين الزواج المقدس والمدنس، بين العهر والزنى، عوالم يعيشها الشرق والجنوب يمارس فيها كل ذلك، وبيده الكشف والغطاء عن الشجون والمجون والروادع والموانع والمباح ونُظم استباحة الممنوع.. عوالم يسودها منذ بدء عهد ما قبل الاستشراق، والذي كان هدفاً وغاية لاستكشاف مناطق المواد الأولية، والصناعات اليدوية، والأفكار والخبرات وطرق استجرارها من عالم الشرق والجنوب إلى عالم الشمال والغرب، ومن ظهور مفكريه الذين أوصلوه إلى القيام بالثورة الصناعية الكبرى، وقرارهم بإبقاء تلك العوالم على ما هي عليه من بدائية وتشرذم، تعيش ضمن ثقافة الاستهلاك واللهاث وراء البقاء الأجوف، ممنوع عليها الإنتاج أو الاستفادة من كنوزها وثرواتها وموادّها الأولية، وهي ملزمة بتصديرها إلى عالم الشمال والغرب دون تصنيع تعيد لها الفتات منه مصنعاً، وكذلك أوصى مخططو السياسات في العالم الأول على إبقاء عمليات الاستشراق، وأيضاً لا تنفك أجهزتها الأمنية تبحث عن المبدعين والمفكرين والخلاقين وإغرائهم لجذبهم من عالم الجنوب إليهم، وإذا حدث وبقي نفر من هؤلاء في بلادهم وعملوا على تطويرها فمصيرهم مجهول؛ إما القتل وإما الجنون، فكل شيء ممنوع، أما المبرمجون والعاملون على إبقاء التخلف والتبعية فهؤلاء هم المفكرون وهم المبدعون، ولذلك نجد أن الأدوار الثقافية لمفكري ومبدعي عالم الجنوب إما نقلية أو نقدية أو اعتراضية أو مؤيدة لسلطاتها من موائدها، وكلما عززوا ثقافة التسطيح لشعوبهم وعملوا على تعزيز الأنا نالوا من العالم الأول التكريم والحظوة والحماية.. إذاً، البناء الرئيسي لشعوب العالم الثالث قام
من قرار إبقائه على حاله، ولذلك تجنّد له نظم وأدوات فكرية وثقافية تبقيه فيما هو عليه، ويتم ذلك برقابة ذكية خفيّة، يستخدم فيه أفراد منه يتحكمون بالروابط بين الأدنى والأعلى، أي في مفاصل قراره وفواصله وإشاراته، ونقاطه الحساسة، فيحدّ بذلك من قدرته على التخطيط السليم أو الإنجاز الهادف.
عوالم مجتمعة في الشرق الروحي والجنوب المتنوع: أمريكا الوسطى والجنوبية وإفريقيا بكاملها وجنوب آسيا وبينهما الأقطار العربية، تتنافس بين بعضها، مذاهب وطوائف وأديان وعقائد فكرية مختَرعة في عالم الشمال، تَشدّد في القسوة وإفراط في اللين، وانقسام دائم في المبادئ والقيم، الأنا وحدها المنتصرة دائماً وأبداً، والشرّ جاهز ومهيأ في كل لحظة، يرمي بأخطائه متى أراد هذا أو ذاك، وعليه نراقب أن عالم الشمال قام بتقسيم الجغرافية وترك بينها التداخلات الجاهزة لإحضار الخلاف والاختلاف لحظة شاء، في حين إن شعوب عوالمنا نائمة لحين إرادته في إيقاظها، بكونها عائلية عشائرية قبلية متسرعة، سهل جداً تحريك النيران في عقول أبنائها مهما لبسوا من أثواب التحضّر، لا فكر لا مفكرين لا مثقفين، جميعهم عاملون بالتلقي لا بالإبداع الفكري، وإذا ما نجح أحد من عالم الجنوب والشرق في واحد من مشارب الفن السبعة فينبغي عليه إرضاء عالم الشمال والغرب، والرضا لا يتأتى ويحضر إلاّ إن كان به نقد لاذع لعوالمه أو مديح فائض لعوالمهم.
حينما نتطلع إلى عالم الشرق والجنوب عبر القرون الماضية - أي منذ ما سُمّي بعصر النهضة القائم في عالم الشمال- نرى أنه لم يستفد من ذاك العصر بل انحدر إلى الجنوب أكثر وقَبِل التخلّف والاستعمار، وكذلك نجده لم يقدر على تقديم أي مشروع علمي واحد، أو حالة إبداعية تنعكس تطوراً عليه أو على عوالمه؛ بل استسلم معتبراً أنه الكثرة.. وبنظرة متعمقة في تاريخه ترينا ظروف هذه العوالم، حيث نجد أن طفرات مؤقتة نجحت به، ولكن ضمن إرادة عالم الشمال والغرب، فتقدمت البرازيل في أمريكا اللاتينية لكنها مرتهنة إلى عالم أمريكا في الشمال، وسُمح بتقدم جنوب إفريقيا بعد تخلصها من نظام الأبارتيد (الفصل العنصري) ولكنها وقّعت على اتفاقيات خطيرة لعالم الغرب في الشمال، وأيضاً تحاول إيران في آسيا أن تخرج من عنق الزجاجة، أي الضغط الممارس عليها والحرب الخفية على تطورها أيضاً من ذاك العالم، ونجحت ماليزيا إلى حين، لتبقى في النهاية ضمن مستوى وجودها في العالم الثالث أي الجنوب الشرقي، بينما الهند صاحبة المليار ونيِّف من البشر مهما بلغت من التطور العلمي فهي في حالة تخلف هائل وروحانيات تتراوح بين البداية والمحافظة، فهي لم تستطع أن تتخلّى عن الخيال الروحي الهندوسي، ولا تعني وجود الندرة أنها متطورة، أما كوريا الجنوبية فتطورها استثمار أمريكي أوربي أولاً وأخيراً، إذا سحب أوراقه انتهت إلى غير رجعة.
لم يستطع أيّ مشروع ديني بصوَره البوذية والهندوسية واليهودية والمسيحية والإسلامية في عالم الجنوب والشرق أن يقدِّم أيَّ استثناء إيجابي لعوالمه، على الرغم من أنه صدَّر إلى عالم الشمال نخبة اليهودية والمسيحية، وبقي الكثرة منه في عالم الجنوب يدورون في فلكه، وكذلك حاول الإسلام أن يصدِّر دينه إلى عالم الشمال لكنه فشل على حدود أوربا وأسوار الصين، معتبراً أن الإسلام تسليم أي وقع ضحية القرار اليهودي والتقرير المسيحي، وأكثر من ذلك أُدخل نفق الاستهلاك للمنتَج القادم من الكيمياء اليهودية والفيزياء المسيحية، وبدقة أكثر إذا كانت اليهودية السحر العلمي أي المعادلة الكيميائية المنجزة للإبداع والإبهار، والمسيحية المسح أي الفيزياء وهي تطبيق جوهر الكيمياء وإظهاره إلى الحياة بشكله المادي، ليتقدم الإسلام يشتري ويبيع في المنتج القادم منهما، دون حاجة لاستخدام عقله العلمي، مستسلماً لقيمه الروحية الساكنة في قلبه فقط، فكان أن دار في فلك عالم الجنوب متطلعاً دائماً وأبداً إلى عالم الشمال، على الرغم من امتلاكه لأكثر من سبعين في المائة من المواد الأولية حاجة عالم الشمال.. هنا نلحظ أن الإنسان إنسان أينما حلّ وأينما كان، وغايتنا تحفيز عالم الجنوب، فنسأل عن آليات نجاح مشروع إنسان عالم الشمال؛ الذي قام بعملية الاندماج في فهم العلمية والعلمانية والروحانيات، فانتقل بالجذر الفكري مستلهماً الإيمان بأنه حالة إبداعية لا بالفكرة الصورية الدينية نحو الأفضل، منطلقاً من فهم فلسفة العلم الديني، منتقلاً إلى دين العلم والعمل والاشتغال التي يسكنها الفكر العلمي، جاذباً كامل تنوع الإنسان أي من كل القارات، ومانحاً إياه فرصة العمل الإبداعي والإنتاجي دون تدخله في المعتقد الذي يحمله، وبذلك نجد أنه أسكن الفكر العملي الفكرة الكونية الباحثة عن الحقيقة، ناتجة من خلالها إلى إنجاز عملية التطور المادي الهائل، والذي به استطاع أن يسيطر على العوالم الباقية بعد أن سيطر على جغرافيته الواسعة والشاسعة؛ مما يأخذ بنا للاعتراف بأن حجم العقل الصغير جداً هو المسيطر والمحرك والمحرض للجسد الكبير بالنسبة للحقيقة.
شرق وجنوب، استطاع خلق دول مجزّأة مفككة أو قابلة دائماً وأبداً للتفكيك وإشعال النيران فيها، بحكم بقاء العشائر والقبلية والطوائف والمذاهب والأديان على حالها، أي بدائيتها الأولى، حتى
العقائد والأيديولوجيات الحديثة والمستحدثة مثل: الرأسمالية والشيوعية والوجودية كل هذا مسكون في جوهر كل فرد ينتمي لهذا العالم، حتى وإن ظهر في مظهر المتحضر؛ إلا أن جوهره متخلف، والشيء الوحيد الذي فعله هو استسلامه للحدود السياسية التي أوجدتها اتفاقية سايكس بيكو 1916، أي أنه آمن بجغرافيته الوصفية الخاصة، والقادمة له من تأريخ صنعه، وصاغه وألّفه عالم الغرب في الشمال دون أن يدع له مجالاً للتفكير، وإذا فكر وحاول.. فهو قد يُمنح فرصة للظهور ومن ثم إما يعملون على تفكيكه، أو تدميره، أو إعادة استعماره من جديد، فسجل له إنجاز الدول وحصرها في أفراد تحكمه هي على شاكلته، محتفظاً بتعظيم الروحانيات، بدقة أكثر أشرح: الروحانيات كبيرة في دول صغيرة بفردية أفرادها؛ بينما عالم الشمال: عِظَم الدولة وضيق الروحانيات وأكبر العلم، فنرى الدول الصغيرة في عالم الشمال كبيرة من خلال فعلها العلمي، ونتاجها المادي المشكِّلين أولاً وأخيراً لقوة حضورها، بينما لايزال عالم الجنوب يملؤه خيال مؤلم ينجب المرارة، لماذا؟ لأنه مبدع ولم يستطع أن ينجز إبداعه أو يراه، وممتلك تاريخ الحضارة وحضورها ولم يعمل على الاستمتاع بها، بكونه لم يفهم قيمتها، حيث بقيت مساحات يستمتع بها القادمون من عالم الشمال والغرب، لا يزول حيث آلامه تخترق ليس فقط خريطة الجسد تاركة عليه الجروح والندوب والقيح؛ بل أكثر من ذلك تخترق تلافيف العقل، تنخر فيه، تؤخّره عن مواكبة الركب فيتجه فوراً إلى الروح علّها تشفيه ولن تشفيه، شرق وجنوب يدخل المغاور دون شمعة، تجذبه الإثارة والاندفاع غير العاقل، والشبق يحمل الجنس في عقله لا بين ساقيه، لذلك نجده يقتل باسم الشرف ويسرق ويَفْسد ويُفسِد أيضاً باسمه، لم يمتلك حتى اللحظة ولا يُسمح له أن يمتلك مفهوم الشرف الحقيقي الكامن في العمل، والكلمة الواقعة بين البدء الذي ظهر منه طبعاً وأقصد الكلمة، وأقرأ كي يفهم معناه وأنه إنسان أولاً وأخيراً، وأن عليه فهم أسباب وجوده ليس الإنجابي "الجنس فقط"، وإنما الإبداعي الفكري التأمّلي والتفكري فيما هو عليه، والمطلوب أن يستمر بما ينتج وينجب من ذاك الفكر المنتشر بين الأرض والسماء، والشائع ضمن موجودات الأرض الحيّة والجامدة، أي في النبات والحيوان والجماد، وأهمها ما يمتلكه الإنسان من مكوّنات وخريطة جسد ظاهري وجينات داخلية.
لننتبه ماذا فعل العالم الأول بعالمنا الثالث بعد أن استلب منّا تاريخنا الغني، ودفع إلينا بتأريخه المكتوب على هواه بفعل قوته، وكذلك يستلب كامل مقدّراتنا المادية بكونه لا يمتلك أيّ مقدرات، وأقصد طبعاً المواد الأولية التي يقتات عليها، وكذلك - كما ذكرت وأنا أسير في بحثي- قاموا بتصنيع كلّ شيء ولم يدعوا بين أيدي إنسان عالم الجنوب أيّ قدرة لتقديم جديد، صنعوا الإبرة والخيط، وكذلك الجوارب والأحذية، وبرامج الإطعام والكساء، حتى حليب الأطفال والدواء، وكامل أدوات ونُظم الزراعة والصناعة والتجارة، وأيضاً أسّسوا بدقة كبيرة لقواعد حكم العالم الثالث، فأنجزوا المؤسسات الإعلامية والصحفية التي لا تضاهى، ومنها يتم استقاء المعلومات وتوجيهها، وإدارة الفكر الثقافي والاجتماعي، وحتى السياسي، وكذلك المنظمات الدولية: بدءاً من
منظمة الأمم المتحدة، مروراً بوكالات غوث اللاجئين وحقوق الإنسان ومحاكم للقانون الدولي ومحاكم الأمن الجنائي، ناهيك عن مجلس الأمن والدول الخمس القابضة على القرار السياسي والأمني والعسكري، ومجموعة الدول السبع الاقتصادية، والتي أضافوا إليها واحدة لتغدو ثماني؛ تقرر النهب الإضافي كلما احتاجوا إليه، وللعلم أنهم استندوا في كامل عملياتهم إلى علوم الشرق والجنوب، فالخمسة صاحبة القبول والرفض في مجلس الأمن قامت من علم العدد خمسة، والذي يعني القبضة فلا يمكن لك أن تقبض بأربعة أصابع، وهم قبضوا على العالم أجمع من خلال الخمسة، كما أن التكوين الكوني قام من علم السبعة، ولذلك نجدهم أقاموا مجموعة الدول السبع الاقتصادية استناداً لعلم التكوين الروحي المنجز الكوني في سبعة أيام، وحينما أضافوا دولة جديدة إليهم بغية اكتمال بناء الدول الثماني اقتصادياً، والذي يعني السيطرة في علم العدد والرقم، وأنهم قادرون على إيقاف أي دولة تحاول اختراقهم أو الارتقاء إليهم، ليتربعوا على عرش العالم وليمنعوا تطور عالم الجنوب.
سؤال: هل يستطيع عالم الجنوب التمرد أو التطاول أو حتى الحلم بأن يصل إلى ذلك المستوى، هل هو قادر على امتلاك الفكر وتحويله إلى إبداع، هل فهِم عالم الجنوب علم الجمال وعلوم الفلسفة، أم بقي محارباً لها بجهالة أو بدونها، وارتضى الاستسلام لكامل أنواع الغزو الثقافي والفكري والعلمي والتاريخي والجغرافي؟، ما هي قيمة الإنسان في عالم الجنوب وقوته وحضوره، هل يستطيع أن ينتقد ذلك العالم أو أن يحاسبه أو أن يحاربه، أو أن يجريَ عملية تقاص مع ذلك العالم القابع في الأعلى، مثبتاً أنه العقل والفكر والإبداع والاقتراع، وأن الجنوب هو الجنس والشراب والطعام، أي إن الفكر إذا أراد أن يستمتع ينزل إلى عالم الجنوب والشرق، يقضي فيه وطره بكل أنواعه" الشمس والبحار الدافئة والجنس والجمال الأبدي الطبيعي، ثم يعود نشيطاً إلى عالمه المادي والقوة والاشتغال دون توقف، والتفكير الدائم هو إبقاء عالم الجنوب والشرق على روحانيته البدائية وخموله وكسله وتبعيته، وكذلك أيضاً إضعاف شعوره الوطني بضرورة التقدم العلمي والبناء الثقافي، وإبقائه ضمن دوائر الاستهلاك وثقافة النوم والتفكير بلقمة العيش وإنجاب الأبناء، حتى وإن كان في الخرائب والزرائب، أي بناء من أجل الاستهلاك وتعزيز الطهارة في الكنيس أو الكنيسة أو المعبد أو المسجد، والذهاب لشراء ثقافة خداع العقل والروح، والانتظار والانحصار بين الحياة والموت، وكل جمال مؤجل إلى عالم الآخرة، حيث هناك كل شيء ولا شيء. 
إذاً، نخلص ممّا قدمنا له إلى أن عالمنا الحي عالم منتظم جداً، تم تقسيمه إلى عالمين أول وثالث لا ثاني بينهما؛ من أجل إبقاء الهوّة كبيرة، عالم أول برّاق مبهر فضائي ذهبي وفضي، اختص باكتنازهما في خزائنه، كذلك أبيض ساطع، وعالم ملون يتدرج من البرونزي والحديدي إلى الحجري الأول، يستهوي بدائية الثالث ويتلاعب فيه كيفما شاء، وثالث يتطلع إليه يحلم بأن يساكنه يهاجر مخاطراً بكل ما يملك، وغايته الوصول إليه؛ لكنه وإن وصل يبقى في التقييم ثالثاً، ومهما بلغ من شأن تبقى أسُس المعايرة في الجنسية والمواطنة أول وثالث.. هي دعوة للتفكر نحن شعوب عالم الجنوب، مالكو عوالم الروح، والجنس والشهوة، والغيرة الجوفاء والحسد، والصراعات المذهبية والطائفية والعرقية والقبلية، نحن مالكو الله في الاعتقاد وغير العاملين بإيمانه، ولكننا نستخدمه كأيمان ضمن اللغة المتعددة والمتداولة.. كيف سنعمل للانتقال من هذا الواقع المسكون فينا، والمتجلّي علينا، حيث صورتنا وألواننا منصهرة تحت عنوان واسع وعريض يشكل ثمانين في المئة من عدد سكان كوكبنا الحي المسمّى في ثمانين في المئة من جغرافيته أيضاً: "العالم الثالث".
د.نبيل طعمة
المصدر : الباحثون العدد 58 نيسان 2012