ويكون نتاج مكونات ومتكونات، تجتمع في مجملها ليتشكل ويظهر في مجمله حرفان لا أكثر، وإن فقدت منه حاجة لا يكتمل؛ بل يكون في اللاشعور حاجة لحظية آنية، يبحث عنها من أجل الوصول إلى شيء منه، فالشهوة عدوّه اللدود التي تزول بعد الوصول لتبدأ من جديد. من منّا لم يحب عبر مراحل حياته، وهل يستطيع أيُّ أحد أن يعترف أنه أحب، وكم مرة اخترقته بالاختيار أو باللاشعور حالة حبّ، القلب يحب كثيراً بكونه باباً مفتوحاً، أما العقل فلمرة واحدة بكونها تخترق الذاكرة، تحفر فيه، وإن غابت لحين لكنها تبقى المسيطر الأول والأخير.
والحب ذوق لاندري حقيقته، ثوب فيه النقيضان هل يصبحان وفقاً أم يرتمي أحد ويكون الثاني الجاني قاتل قتلا، وأظلم أنواع الحب، الحب المتداخل أي حب ضمن حب، بكون الحب يسقط من العقل إلى القلب، وحب يتطلّع القلب فيه إلى العقل، يحدث التداخل مابين المظهر والجوهر ويكون وقره في القلب وتصديقه في العقل.
وإنه بوجود مسلمات في الحب موجودة بالفطرة، كحب الله، وحب الأم لطفلها، وحب الرسل والأنبياء، وحب الإبداع والعلم، وحب الظهور، وحب لفت النظر، يتشكل لدينا مسلمات تُحتَرم ويجب احترامها. فالذي يحب بفطرته هو الذي يحيا في النور ولاشيء يُسقطه، والذي يحب العالم بدون شهوته يسعد ويسعده المطلق الأزلي، وهذا ما يسمى الإيماني الروحي، يحيا في القلب بكونه مركزاً للعواطف، يتجيش تبعاً لخفقانه وتجرّده، أما الحب العقلي فيكون نتاجاً للاختيار والتجانس والتوافق والتكامل والتخصّص ممّا تسجله الحياة، وهنا يكون الحب الإبداعي، فنرى المحبين يشار إليهم، ونسمع أخبارهم، ونقرأ ما كُتب عنهم في عمق التاريخ وإلى ما سيأتي من الزمن.
ولا يسمى الحب حباً إلا إذا كان لذات المحبوب أي لجوهره، بالرغم من ضرورة الصورة وأشكالها. وجوده الإحسان، وفعل الخير، واللّهفة، والفدائية، وامتلاك لغة الإقناع.
وفي الخطاب الإلهي وعبر الرسل والأنبياء جاءت التعاليم ( من أظلم ممّن عبدني لجنة أو نار) فلو لم تكن الجنة أو النار لما عبدت. لقد مَّر عيسى عليه السلام بطائفة من العباد فقالوا له نخاف النار ونرجو الجنة، فقال لهم: مخلوقاً خفتم ومخلوقاً رجوتم، ومَّر بقوم آخرين كذلك فقالوا نعبده حباً له وتعظيماً لجلاله، فقال أنتم أولياء الله حقاً ومعكم أُمرت أن أقيم، فالمحبّون يراعون الظلال بكونهم يخافون على بعضهم، ويحنّون إلى غروب الشمس كما يحنّ الطائر إلى عشّه عند الغروب، والمحبة يَدَّعِيها كل واحد منا، وما أسهل الادّعاء، وما أعزّ المعنى، فللمحبة علامات ممهورة بالبراهين والأدلة، فهي شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وثمارها تظهر في القلب ليرويها العقل عبر اللسان والجوارح، فيشار إلى المحب من علامات الحب البادية عليه وفيضان آثاره على وجهه وحركته، كما الدخان يدلّ على النار، والثمار تدلّ على الأشجار.
ففي الحب تتولد الرقّة وشكلها الصبابة، وصبابة المحب رقة الشوق للقاء الحبيب، ووجوده أثناء لقائه يتحول لمشهد طبيعي مكتمل الصورة، وتتحفّز الأعضاء في جملتها الظاهرة لترى المحبوب ارتقاءً وخفة وشعوراً محمولاً على أكفِّ الهواء، لنشهد عند المرور للمحبين بالحب وعند التعمق بالعشق، نجد خلوصه في القلب وصفائه من الشوائب.
فحقيقة الشوق لا تتم إلا إلى المحبوب، فكل محبوب يشتاق إلى محبوبه في غيبته لا محالة، بكون الحاضر المشاهد لا يُشتاق إليه، فالشوق طلب وتشوّف إلى أمر والموجود لا يُطلب . والشوق يكون دائماً للمدرك وما لا يدرك أصلاً؛ فلا يُشتاق إليه وما أدرك بكماله لا يشتاق إليه. وكمال الإدراك الرؤية، كما أن الشوق يحدث بالمشاهدة، فقد لا يُكتفى بمشاهدة الوجه، وهو حاضر بين يديك، فتتشوق لمعرفة ما يجول في فكره، وتتشوق أكثر لسماع صوته ينساب في أذنيك، وتتشوق أكثر إذا وضعت يده بين يديك، لتبادل الحرارة وحصول حالة الأمان في اللقاء والمسير. وإذا ما ابتعدت يتولّد فيك الحنين بالتشوق، وهو درجة من درجات الحب، وشكله تسارع العودة إليه، وانجذابك الدائم لتكون بجانبه ومعه ومحيطه، فهو ملاذك وأرضك وصدرك الدافئ، يعطيك الراحة والأمان لتشعر أنك بداخله كما هو بداخلك، والحنين ذاكرتك المرئية في عقلك الباطن لا يفارقك في لحظات الفراق والابتعاد، ليحملك على انتهاز الفرصة والعودة إليه، بالرغم من أنك قد تكون ما ابتعدت عنه إلا منذ لحظة أو زمن أو أزمان .
أما الغرام، والذي يحمل صوراً متقلبة وحاجة متفتّحة لا تعرف حدود النهاية، فهو الجشع في الحب كما النار تحتاج لتزداد اشتعالاً وقوة وأزيزاً، وفيه الخطورة بكونه يمرّ من نفسه آنياً ولحظياً، فلذلك الحب يحتاج الرضا، فهو ثمرة من ثمار المحبة، وحقيقة غامضة على المحبين، ولننتبه فهو يخالف الهوى إن لم يحدث فيه الرضا والوفاق.
أن ألطف وأجمل أنواع الحب، هو حب الانشغال بالحب ذاته، ويعني ذلك أنه حبٌّ من أجل الحب لا من أجل الجسد، وبمعنى حب الجوهر الذي ينطلق منه إلى المظهر، ومن صفات الحب الغيرة، وهي تطلب التملّك والاستئثار بالمحبوب وتحاول التستّر، ولكن يفضحها شكل الحب وانفعاله وحركته؛ فلا يستطيع المحبّون أن يحدِّدوا حبهم أو يؤطروه، فهو في الحقيقة من الأمور التي لاتحدّ فيعرفها من قام بها، ومن حمل صفاتها ليعرف الآخرون عنه ما به.
وإن أول ما يحب الإنسان يحب نفسه وذاته، فحبّه لنفسه وذاته موجود في طبعه الباحث دائماً، والطالب لدوام وجوده، ومحاولاته الدؤوبة لنسيان أن لابدّ من الوصول لعدمه وانتهائه.
فلذلك يحب دوام الوجود، ويكره الموت والقتل لا لمجرد ما يخافه بعد الموت؛ بل يخاف ألم الحياة، ويتمنّى لو أنه يُختطف في حالة الصفاء الذهني من غير ألم. وبالنتيجة إنّ دوام الوجود محبوب المحب، والحب الحقيقي هو الحب البالغ الذي يوثق بدوامه، فالجمال محبوب بالطبع، ولا أحد ينكر ذلك، وكل الاعتقاد بأن الله جميل، فلذلك هو محبوب لا محالة ودون أي شك. لنقل ذلك معكوساً: "إن الله جميل يحب الجمال، وهو خالق الإنسان، فلذلك يحبه وكيفما كان الإنسان، ولذلك أوجد له الرحمة والعفو والغفران".
ويشترك الناس جميعاً في أصل الحب لاشتراكهم في أصل المحبة، ولكنهم يتفاوتون بسبب تفاوتهم في المعرفة، وفي الحب كما الأشياء تتفاوت أسباب وجودها، والتفاوت في المحبة هو السبب للتفاوت في السعادة وإسعاد الآخرين.
ويكون الحب لذاك التراب الذي يُغرس الحب فيه ليعود فينجب حباً، ولتلك الأنثى التي تبحث عنه، لتلك الشجرة ليجري الماء فيها فتحمل ثمراً للأب المعطاء، للأم الحنون، للولد المطيع، وللوردة بتداخل ألوانها، وللسماء بصفائها وتوضّع نجومها، لذاك القرص الملتهب صفرة مشوبة بالاحمرار، والحب الأعظم للمحيط المطلق، للكلّي المتجلّي في كل شيء، للذي أوجد الحب وطالبنا بإشاراته إلى الموجودات فتعلمنا الحب.
والحب فعل اللقاء، فهو لا يعترف بالحدود ولا تمنعه الشعارات والقوانين والورق، ولا يهتم بالطول أو القصر ولا ينتبه للّون ولا للفتن، يعيش أبداً لا يفنى، مؤمن بأنه ممّن خلق صدود مَنُوع لا يخترق، مُكِرٌ مقبلٌ مدافعٌ أمين لمن أحبَّ وامتلك.
وهو غير الزواج، بمعنى أنه قد يأتي قبل أو بعد أو مع الزواج، ويكون للزوجة والأبناء، وقد لا يكون، فالزواج تكوين شرعي له قوانينه ومباركاته؛ بينما الحب خفيُّ مفضوح بين المحبّين ومفضوح مستهجن على المراقبين .
معادلة رباعية الأطراف، تسكن القلب لتبني الأحوال وتنشئ الظروف وتظهر المتغيِّرات، وإن أول ما يقع ويسكن في القلب يسمّى الهوى، ومعنى الهوى السقوط من العقل إلى القلب، وسقوطه يكون سقوط النجم من السماء إلى الأرض. والهوى استفراغ الإرادة في المحبوب والتعلق به في أول ما يحصل في القلب.
والودّ الذي يستقر في القلب نتاج السقوط العنيف، لينشئ تجويفاً كالبيت يسكن فيه ويثبت، ويكون هذا الثبات على شكل القفل والمفتاح، وسُمّي وداً بكونه ثابتاً فيه.
فهكذا نجد أن الحب فطري أي: طبيعي وهو منتج مع الحياة وتكوينها كالأسرة والوطن المتجسِّد بالأرض والسماء وطعم الماء، وعقلي ويتجسَّد في الاختيار والانتماء؛ من أجل التكامل وتبادل العطاء للفكرة، واختيار الشريك للحياة، والاختصاص، والعلم والمعرفة من أجل زيادة النسبة العقلية لتطوير الحياة والحفاظ عليها.
د.نبيل طعمة
المصدر : الباحثون العدد 58 نيسان 2012