بما أننا ندور في فلك أسس المفاهيم التي بُنيت عليها عمليات التطور في العالم الأول بصنوفه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وكذلك من خلال اعتمادها وتطبيقاتها بعد إحداث الثورة الصناعية الكبرى في أوربا من 1750م، والتي استمرت في التطور والتقدم ولم تتوقف من بدايات المكننة الزراعية وصولاً إلى الفضاء متابعة في قضايا الذرة والليزر؛ والتي رافقتها أيضاً ثورات في البناء الفكري الاجتماعي والمعماري المادي.. فإننا نجد أن هذه العمليات ما كانت لتنجح لولا انضوائها تحت عنواننا الواسع والعريض "مؤشرات ومعايير وقياس الأداء للسياسات الاقتصادية والاجتماعية" والذي يدعونا بقوة لتملّك مضامين هذا العنوان والاشتغال بمفرداته، من خلال تحويلها ضمن التخصّصات إلى ممارسات علمية عملية، لا الاكتفاء بتخزينها فكرياً ونظرياً، وإلا لن نجني منها إلا الدوران في حالة الفراغ، أو المسير البطيء أمام تسارع حركة تطور الشعوب والأمم. وبما أن المكون العلمي المعرفي، والأداء المهاري التنفيذي العملي، والوجدان الأخلاقي المنتمي مثلثٌ؛ أضلاعه تتحول إلى أدوات فكرية، تسكن أيَّ رؤية مبرمجة وممنهجة، تعمل من أجل الوصول إلى المستقبل، عبر تحقيق الحلم المنشود، والتصوّر الهيكلي لعملية الإنجاز والتطوير، أو تحديث هيكلية الدولة، بمحاورها الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، وبما أنَّ الإستراتيجية فنٌ يستخدم الوسائل عنوان حواريتنا هذه، فيقع على عاتق المشتغلين في حقول الدولة والمسؤولين دائماً وأبداً عن آليات الحفاظ على جوهرها، ومظهرها، وربطهما بكافة العمليات الإنجابية والإنتاجية والفكرية، نجد ضرورة فتح باب الامتلاك العلمي لمحاورها، وبدون ذلك يبقى العملُ لحظياً مؤقتاً، يخضع لظروف وعوامل المتغيِّرات المفاجئة، والظروف الطارئة، أي: يتخبّط، بكونه لا يمتلك لغة المواكبة لحركة النموّ والتطوّر والمحيط.. عليه أبيّن أن ما نتحدثُ به غايتُه الأولى والأخيرة تقييمُ الأداء، الذي يعزِّز الولاء، ويُظهر قوة الانتماء، فلا ولاءَ بلا أداء، ولا انتماءَ بدونهما. من كلِّ ذلك يتضح أن ضبط الإيقاعات على كافّة المحاور؛ لا يتمّ إلاّ بالاعتماد على الأداء، المرتكز أساساً على ثقافة البناء الوطنيِّ الحقيقي، الذي يتكئ على أبنائه الخُلَّص الممتلكين حقيقة علم؛ بل علوم مقايساته المتناسقة، ومعاييره الدقيقة، التي ستنعكس مؤكدة أن مؤشراته حقيقية، وغير وهميّة، رافضة تماماً الاعتماد على الوجبات السريعة، والوصفات المستوردة، والتي تؤدي إلى الانهيارات المفاجئة، والهزّات الاقتصادية والاجتماعية العنيفة.
وحينما نشرح أن هناك نظاماً وانتظاماً في دولة ما، أو مؤسسة تشريعية، أو تنفيذية، أو قضائية ناجحٌ ومستمرٌ ومتحمِّلٌ للعواصف والظروف الطارئة؛ ندرك أن هذا النظام مصمَّمٌ بشكل تقني علمي، يراقب حركته بشكل دائم من خلال المؤشرات، كلّ في مجاله، والمعايير التي تنضوي تحت المؤشرات والمقايسات؛ التي تمنح الشكل النهائي لعناصر تقييم النجاح، ومعنى النجاح: أن الأداء كان جيداً، ويتراوح بين المقبول والممتاز، وبدونها بالتأكيد الفوضى حاصلة لا محالة. هنا نسأل كيف نمتلك النجاح، ومتى يحدث الفشل من باب "أن المسؤول الأول والأخير عن كلِّ ذلك
هو الأداء الذي يدعونا إلى منحِهِ النصيب الأوفر والدائم من الاهتمام، عبر تعميق امتلاك المعلومات وبشكل دائم، وتقديم الوسائط، بكونه جوهرَ عملياتِ الحضور- ضمن الدولة أولاً، وبين الدول ثانياً- وبما أن الأداء هو مجموعة المسؤوليات والواجبات والأنشطة، والمهام التي يتكون منها عمل الفرد أو المؤسسة بمحاورها المتعددة، فمن الضروري تقييم نتائجه العملية من خلال إخضاعها لأدوات مثل المعايير والمؤشرات والقياس.
وحينما نُخضع مفهوم الأداء لمعايير الكفاءة والفاعلية، نتوقف عند مفهوم المعيار، والذي هو مؤشر كمّي (نموذج للأداء) يمنحنا فهم نِسَب ارتباط المحاور أو الوحدات، أو بيئة عمل أو منتَجٍ ما ببعضها، والغاية تشكيل مكوِّنٍ ماديٍّ ضمن شروط ومتطلبات موضوعة ومحدّدة مسبقاً.
في التطبيق العملي (الأداء) نأخذ العينات ونُخضعها للمعايير، نراقب اختلافاتها أو توافقيتها، مما يمنحنا فرص تعزيز لغة الاستمرار، أو ضرورة معايَرة الواقع من جديد، وهذا ما يتبيّن لنا بعد أن نضعها على جدول المؤشرات، فالمؤشّرُ يختلف تعريفه بحسب المحور المستخدم به، فمثلاً أن يتجه إلى معدّل النموِّ السنوي للسكان حينما نتحدث عن بلد ما، وهو أي: المؤشر الذي يدل أو يلفت النظر إلى شيء ما بدقة معينة، فالتحولات الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية التي رافقت ظهور العالم المادي الجديد بثورته الصناعية الهائلة؛ أوجدت معها أدوات دقيقة ترافق نموّها اللحظي، بل أكثر من ذلك، دخل حيّز رسم سياسات المستقبل اجتماعيةً واقتصاديةً، وعليه نستطيع أن نتحدث عنه بأنه: تقنية تعطي للمتحكِّمين بإدارة محاور المجتمعات نظرةً شاملةً على عملية التطور، أو التوقف للمحاكمة، وإعادة تقييم الأداء، ولذلك نرى قوة ارتباط المؤشر بالمعيار، وعلاقته بالإدارات الاحترافية القائمة من تنفيذ الشروط الدقيقة لفنِّ الإدارة، كما علاقته وثيقة بآليات الإنتاج، وأكثر ما يتحرك على جداول المال، أي أسواق البورصة والأسهم، وهي قادمة في طبيعتها من عمليات اقتصادية ناجحة، أو متوسطة النجاح، أو سائرة إلى الإفلاس. وشروطُ تَوفّر المؤشر الجيد تتطلب وجود الخصائص التالية:
- حجم العيّنة القادمة من المعيار (المسحوبة من أي محور من محاور الدولة مجتمع. اقتصاد. سياسة. إدارات إنتاج) وكلّما كان حجم العيّنة كبيراً نجح المؤشر بإخراج نتائج أدق.
- ينبغي أن يعبِّر المؤشر عن الشريحة الكبرى من المجتمع، وأن لا تقتصر العيّنات المسحوبة منه على شرائح محددة فقط (النخبة مثلاً أو الشركات الكبرى).
- لنجاح المؤشر ينبغي أن تكون وحدات القياس والمعايير مناسبة، وبشكل أدق في سهولة تحليلها، والتوصل منها إلى إجابات ملائمة على الأسئلة المثارة.
لنطلع على بعض الأفكار التي تضيء لنا مضامين سريعة عن عدد من المؤشرات العالمية التي رافقت النهضة الصناعية الكبرى، مثل الداوجونز، الذي بدأ عمله في 3 تموز 1884 ونُشر في صحيفة الول ستريت، وهو مؤشر صناعي لأكبر ثلاثين شركة أميركية، أول شركاته كانت جنرال ألترك، وفي عام 2008 أضيفت إليه شركتا شيفرون وبنك أوف أميركا، وكذلك استاندر أند بورت، ومؤشر فاليو لاين، وكذلك مؤشر فاينانشال تايمز للأوراق المالية (FTSE)، والمتخصص في بورصة لندن وهو مكون من مئة شركة من شركات بلوشب ومؤشر النيكاي، والكثير منها.
إن فهمنا لمضمون عنواننا الواسع والعريض يدعونا لإجراء عمليات القياس عليها، والذي يقدّم بدوره أدوات التحليل الأساسية ومنهجية العمل، والقيم الفعلية المستفادة من إجرائها، بكونه: أي المقياس، يسعى لتنمية المدارك المتصلة بالبناء الاقتصادي الشامل، والظروف الاجتماعية وأبعادها على مستوى التحليل والمعرفة، ولنحاول من هذا التعريف أن نقيس المنفعة الحاصلة لكلِّ من يقرأ يحثنا هذا.
لا شك، إن أيَّ عملية قياس للأداء، نعتبرها عملية أساسية ضمن محاور نُظم إدارة العمليات، كاتخاذ القرار واختيار فرق العمل، ورسم خطط الإنتاج، والغاية من الوصول إلى الأهداف، لذلك نجد أن هناك علاقة قوية بين التخطيط والتطبيق، استناداً إلى نتائج المقاييس؛ التي تُعتبر المسار الحقيقي لمدى القدرة على تحقيق القرب أو البعد من هدف معيّن من الأهداف.
إن تحقيق الروابط بين أدوات البحث، وامتلاك الأبعاد العلمية، والمعرفية، والفهمية لضرورات وجودها بين محاور الكيانات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإدخالها أولاً ضمن كلِّ محور، ومن ثمَّ ربطها ببعضها يؤدّي إلى نجاح الدولة، وإن الحصول على النجاح لا يلغي هذه العناوين؛ إنما يعزز حضورها والتعلّق بها أكثر فأكثر، من أجل ديمومة المسير إلى الأمام، والصعود إلى الأعلى، وإن الاستفادة الحقيقية من تجارب العالم الاقتصادي الأول، والسياسي الأول، والاجتماعي الأول، يفيد مجتمعاتنا حينما نسعى للاستفادة من المفيد منه، أي إن تجارب الآخرين قد لا تعني بالضرورة تطابقها الكلّي مع حيثيات وظروف نشأة وواقع مجتمعاتنا، مما يدعونا إلى تطوير الأداء وتعزيزه إيجابياً، من خلال امتلاك اللغة العلمية على اختلاف تخصصاتها، وفهم مقتضيات التخصّص، وربطه بحاجات المجتمع الحقيقية والضرورية من باب "برمجة الأولويات".
أيضاً أشرح: إن غياب الرؤية لمشروع أيِّ مؤسسة وعدم امتلاكها ضمناً خططاً تفصيلية منارة ومعتمدة على أدوات ومفاهيم راسخة، تراقب وتقيس عملها وحركته وأفراده؛ تؤدّي إلى عملية غير ناجحة أو عشوائية.
حتى اللحظة لم نشهد في محاورنا السورية تطبيقات حقيقية وعملية، لنظم المعايير والمقايسات والمؤشرات، على الرغم من امتلاك الكثيرين من كوادرنا العلمية لمفاهيمها وعلومها، حيث بقيت المحاولات خجولة، فمثلاً: كم من جهة من جهاتنا الإنتاجية امتلكت نظام مقايسات الآيزو، والبورصة السورية مازالت مؤشراتها تحبو بطيئة، ومقايسات ومؤشرات مؤسساتنا العامة تعتمد على نظام الدولة، ولم تعتد الاعتماد على ذاتها، والقطاع الخاص وإسهاماته النوعية إنما بقي حالات فردية لم تحوِّل الظاهرة أو الطفرة إلى منهج ممنهج، لذلك إن حاولنا وضع مؤشّر يستند إلى المعايير والمقايسات، نجد صعوبة لدى محاولاتنا لقراءته.. ممّا تقدّم نصل إلى أن الاعتماد على الخبرات الخارجية مازال مظهراً - ليس من مظاهر وطننا فقط- وإنما في العالم النامي برمَّته.
د.نبيل طعمة
المصدر : الباحثون العدد 66 كانون الأول 2012