الذاكرة الإنسانية لا يمكن لها أن تنسى هذا الاسم الفرنسي، حيث سكنها وتناقلها من خلال ما فعلته وأنجزته صاحبته "جان دارك" التي استحقت لقب المناضلة، وهي ابنة التاسعة عشرة من عمرها، حينما أحرقها قرار قضائي إنكليزي في لندن في الثلاثين من أيار عام 1431 ميلادي، ولم يكن ذلك الحكم بسبب قواها الروحية الهائلة وحوارياتها مع السماء، وخوفهم من جمال إيمانها، وبحثها المبكر في أسباب وجود الذكر والأنثى، ومساحة تفضيل الذكورة وتقليصها لها عبر التمرّد على الملابس النسائية وارتدائها للبنطال، وتمسكها بالمساواة؛ من باب أن الأنثى تستطيع أن تلبس ملابس الرجل والعكس لا يقدر عليه، فكان من ذلك أن أنذرتها السلطات الإنكليزية لعدة مرات معتبرة إياها أنها تتشبّه بالرجال فوعدت بعدم العودة إليها.
لكن تم اعتقالها رغم ذلك وأودعت السجن، وضمن ترتيب القضاء، وقبل تنفيذ الحكم المقرر سلفاً عليها؛ قام سجانون بتجريدها من ملابسها الأنثوية ورموا لها بثياب ذكورية، مما اضطرها لارتدائها، وحينما قادوها للمحاكمة، ومن خلال تعصب القاضي ووقوفه ضد قضيتها المتمثلة في ارتداء البنطال، وضبطها في المحكمة بالجرم المشهود قضى بإعدامها حرقاً ودون أن يرفّ له جفنُ عين.
وبعد جان دارك نستذكر أيضاً الأديبة الفرنسية "جورج صاند" واسمها الحقيقي "أمانتين أورور لوسيل دوبان" وقضية نضالها قبل ما يقرب من مئتي عام من أجل ارتداء المرأة للبنطال حيث كان في فرنسا قانون يمنع النساء من ارتدائه أو ارتداء أزياء الرجال، وإذا كان وحدث، فعلى المرأة أن تحصل على رخصة، وتجديدها كل ستة أشهر، واستثنى القرار مَن تركب الجياد أو الدراجات الهوائية، وللعلم إنه مازال حتى يومنا هذا القانون ولم يُلغَ؛ إنما بحكم المجمّد، وأسباب صدوره في ذلك الوقت أن من ترتدي البنطال تعرف بأنها سيدة المنزل أو بالعامية "سي السيد" أليس غريباً أن تُحَوِّلَ فرنسا في العصر الحديث اسم تلك المناضلة "جان دارك" إلى بارجة تحمل أسلحة الدمار الشامل، وترسل بها لاحتلال قناة السويس من أجل السيطرة على أهمِّ معبر مائي عربي عالمي، أثناء العدوان الثلاثي على مصر، ومن المفارقات النوعية في التاريخ الحديث أن يقوم ضابط سوري اسمه "جول جمال" بعملية تدمير لتلك البارجة في قناة السويس، من أجل الحفاظ على إشعاع تلك القديسة المناضلة، حيث امتلك في جوهره غايتين: الأولى الانتصار لمبادئ وطنه وعروبته، والثانية إعادة كرامة تلك المناضلة.
إذاً، هل القضية قضية بنطال، أم قضايا الفكر الساعية للانعتاق من التخلف والتبعية التي تحققت المطالبة بها، أو اتجهت الشعوب للبحث عن آليات الخلاص منها؟.. لذلك نجدها تهيئ خدع أسلحة الدمار الشامل من أجل إحداث التغيير في الدول الساعية لامتلاك إرادتها وسيادتها وقرارها المستقل.. ولحظة مقاربة عنواننا وإسقاطه على الواقع؛ نجد أن القوانين التي استُخدمت ضد جان دارك والصورة البنطال يتم استحضارها في أوقاتنا الراهنة، لتستعمل في حال تضرّر مصالح الدول الكبرى القابعة في عالم الشمال، تضيف في استخدامها أدوات استسلمت وارتضت أن تكون تابعةَ تسلّطها على الشعوب تحت مسمّيات الخروج عن النظام العالمي أو خرقه، وتهديد السلم والأمن الدوليين.. نظام عالمي يستنفر كامل أسلحته متأبطاً قانونه المفصّل له وعلى مقاسه كبنطال جان دارك، يستحضر له القضاة من أصقاع الأرض المتعصبة لمبادئه غير السامية والمستأجرة، تُصدّر الأحكام، ويصادق عليها ممثلو منظماته المتعددة، والضحايا هي دول عالم الجنوب أو العالم الثالث، مالك الثروات والباحث عن النمو أو السائر إليه، فشعارهم: "ممنوع الوصول إلى الأعلى"، وإذا تنفّست هذه الدول البسيطة الصعداء يرهقونها كي تعود للّهاث من جديد.
القضية ليست قضية بنطال؛ إنما قضية الفكر والتفكير في المستقبل؛ الذي يبحث عن المساواة والعدالة، وهنا يتدخّل المنع، أي: ممنوع التطور وامتلاك ثقافته إلا في حال استسلامه لذاك العالم، وتحويل وجوده إلى مستهلك ومجترٍّ لنتاجهم، ومؤمن بقوتهم وخضوعه لرحمتهم.
إنّ نضال شعوب العالم الثالث برمّته متشابه، فالكلّ يسعى للخلاص والانعتاق من تسلط وسيطرة العالم الأول عليه، وعلى مقدراته، بغناه المادي والروحي وفقره العبثي.. ولذلك تجدني قاربت بين قضية نضال المرأة الباحثة عن مساواتها بالرجل، والتشابه في النضال من أجل حقوق العالم الثالث في الحياة الكريمة، وكذلك قضية البنطال والفستان مع جان دارك وجورج صاند.
د.نبيل طعمة
المصدر : الباحثون العدد 66 كانون الأول 2012