لطالما أخذت عهوداً على نفسي ألا أكتب في موضوعين اثنين طوال حياتي هما الجنس والسياسة، ومنذ عقود وأنا ألزم نفسي بهذه العهود والمواثيق الصارمة، لا لشيء إلا أنني قد نذرت نفسي للعمل في مجال العلم والتقنية، وكل ما من شأنه أن يأخذ بيد شباب هذه الأمة نحو رفعتها وتقدمها. وأن نقول للآخر إنه لدينا منابر للعلم والقلم، كما كان لأجدادنا من قبل.
ولطالما عرفني الكثيرون بحملي للواء العلم والتقنية، سواء عبر منبر "الباحثون" أو عن طريق غيره من المنابر، بحرصي على تقديم المقالات العلمية الشائقة والمميزة والمبسطة.
وربما تساءل أحدهم وتعلو وجه الدهشة: ما دخل مشاهدة المواقع الإباحية بقلمك؟ وما هي العلاقة بينهما وبين السياسة؟
بعملية استقراء تاريخية، نجد أن العلم لم ولن ينفك يوماً ما عن السياسة، فما من ملك دعم وشجع العلم في عصره إلا أينع وأثمر وقطف ثماره كل المجتمع بمن فيها العسكريون. واليوم نجد أن العقوبات التي تفرضها القوى الكبرى على بعض الدول تضع في أولوياتها العقوبات العلمية والتقنية. والسبب في ذلك أن العلم قوة تعمل بهدوء وصمت، يمكن أن تتحول نتائجه لسلاح فتاك أو علاج لسم زعاف، حسب الاستخدام.
بين الكلمة والصورة
مثل غيري ممن يهتمون بشؤون الثقافة أتابع بشكل دائم ما يصدر من إحصائيات عن مراكز ومؤسسات موثوقة؛ فتخرج لنا الكثير من الدراسات الحديثة لتشير إلى العزوف التام عن المطالعة وقراءة الكتب لدى المواطن العربي.
حيث تشير الإحصائيات أن الدول العربية مجتمعة تنتج فقط واحد بالمائة من معدل الإنتاج العالمي للكتاب .وأن ثلاثمئة مليون مواطن عربي: ستون بالمئة منهم أميون، وعشرون بالمئة لا يقرؤون أبداً، وخمس عشرة بالمائة يقرؤون بشكل متقطع وليسوا حريصين على اقتناء الكتاب، ونسبة خمسة بالمئة فقط هم المواظبون على القراءة، بل تشير إلى أن كل ثلاثمئة ألف عربي يقرؤون كتاباً واحداً.
وتشير بعض التقارير (ربما مع المبالغة) بأن الألمان ينفقون قرابة 16 مليار يورو على شراء الكتب سنوياً، ويوازي عدد الكتب المطبوعة مثلاً في إسبانيا سنوياً ما طبعه العربُ منذ عهد الخليفة المأمون منذ حوالي ألف ومئتي عام حتى يومنا هذا.
وأنه لا يتجاوز معدل قراءة الفرد العربي من الكتاب ربع صفحة سنوياً, بينما تصل إلى 11 كتاباً للفرد الأمريكي و35 للأوروبي و40 كتاباً للمستوطن الإسرائيلي في الكيان الصهيوني.
وتذكر منظمة اليونسكو في تقرير صادر لها أن معدل نشر الكتاب في العالم العربي لا يتجاوز ما نسبته 7%, وأن نصيب كل مليون عربي من الكتب لا يبلغ 30 كتاباً في حين أن هناك 584 كتاباً لكل مليون أوروبي.
وأن عدد النسخ المطبوعة من الكتاب العربي يتراوح ما بين 1000 و 3000 نسخة في أعلى معدلاتها, بينما تصل إلى عشرات الآلاف في أمريكا وأوروبا.
هذه الإحصائيات طبعاً لا تناقش أو تدخل في الأسباب، رب قائل إن الشابكة (المقابل العربي لـ الانترنت) هي السبب في ذلك، لكن آخر إحصائية صادرة عن مؤسسة الفكر العربي في بيروت تقول: إنها راقبت عدد كلمات البحث لدى العرب لمدة شهر فكانت النتيجة أن البحث عن مشاهدة المواقع الإباحية جاء في المرتبة الأولى من حيث الاهتمامات، ثم تلاه البحث عن مواقع الطبخ والطعام، ثم تلاه البحث عن مواقع التربية والتاريخ.
فهل يعني هذا أن الحاجات الأساسية للإنسان العربي غير مشبعة، حسب هرم ماسلو للحاجات الإنسانية؛ فالقراءة والإبداع والفكر يأتي في رأس الهرم وليس في أوله. وكم كنت ولازلت أعاني من ندرة - وأحياناً من عدم- حضور أي شخص لمحاضرة علمية في المراكز الثقافية العربية. وكان يبرر لي مدير المركز أن الناس مشغولة بلقمة عيشها، ولا وقت لديها "للترفيه الفكري".
حالات الإخصاء المعنوي الثلاث
قد يكون عنواناً غريباً لهذه الفقرة، لكن لي ما أبرره- حسب وجهة نظري- في سبب اهتمام العرب بمشاهدة المواقع الإباحية، فالمواطن العربي يتعرض يومياً لثلاث حالات من الإخصاء التي تضرب بفحولته عرض الحائط، وتشكك برجولته وذكورته. طبعاً وكرد فعل على هذه الحالات يضطر بينه وبين نفسه ليثبت أنه لا يزال رجلاً وذكراً أيضاً:
الحالة الأولى
والتي تشعره بفقدان قدراته الرجولية ما تصدره الحكومات يومياً من قرارات وتعديلات وفرمانات.. وما أكثر من الـ (ات) جمع المذكّر المريض لدينا.. فيبدي عقمه أمامها وعجزه عن التصرف حيالها بأي شيء.. الثمن غالٍ.. فربما كانت المواقع الإباحية متنفسه الوحيد.. ليقول: إنني لا زلت فحلاً.. نزوة تزول مع إغلاق صفحة الموقع ليجد نفسه أمام إخصاء آخر...
الحالة الثانية
ما يلاقيه يومياً من مسؤوليات وأعباء مالية تطارده عن يمينه وشماله من كل حدب وصوب.. الأجور بخسة والعمل كثير – إن توافر- والمصروف كبير..
وتحت عباءة: ألستَ موسوماً بالرجولة؟.. ألستَ ذكراً..؟ عليك أن تدفع الثمن.. تراه يلهث ويلهث طوال النهار وفي آخر الليل رزق الكفاف.. فإذا كان لديه حاسوباً ربما جلس بينه وبين نفسه ليقول: نعم مازلت رجلاً ما زلت أتمتع ببقية فحولة أمام أحد المواقع الإباحية.. وما إن يغلق صفحة الموقع حتى يجد نفسه أمام إخصاء ثالث بانتظاره..
الحالة الثالثة
يقرر أن يعفّ نفسه ويتوقف عن مشاهدة المواقع الإباحية ويعتقد أن الزواج هو الحل.. يكدح ويشقى ويمضي سنوات من عمره من التعب في إحدى دول الخليج تحت مذلة (أبغي وما أبغي).. وما أكثر غيهم وبغيهم.. وفي النهاية يلملم شعثه ويجمع مهر زوجة العمر.. التي ربما ستجعله يندم على اليوم الذي قرر أن يُظهر فحولته أمامها.. ناهيك عما قد طلبته منه من الملايين كمقدم ومؤخر والبيت والسيارة وغير ذلك مما لا طاقة لصاحبنا فيه.. في النهاية سيحظى بزوجة تجعله يتوقف عن مشاهدة المواقع الإباحية وينتقل من النظر إلى الفعل..
يستمتع أول شهر (عسل) ويكمل بقية حياته (بصل في بصل)، وهنا يخضع لحالة الإخصاء الثالثة الأشد والأعنف من الحالتين السابقتين، فالزوجة كل يوم لديها طلبات وكل يوم لديها قرارات ولأنك "رجل البيت" والفحل والبعل عليك الإيفاء بهذه المتطلبات.. وتثبت ذكورتك في الوقت نفسه.. لكنه غالباً ما يجد نفسه مطعوناً في ذكورته آخر الليل أمامها.. فالتعب والإرهاق والجهد طوال النهار أخذاً منه كل قوّة .. لقد عاد للإخصاء.. بعد أن حلم أنه سيتخلص منه وإلى الأبد..
أعتقد أن هذه هي الحالات الثلاث التي تسبب الإخصاء للمواطن العربي، وهي أقوى الأسباب التي تجعل منه يبرر لنفسه أن يبحث عن مواقع إباحية يفرّغ فيها شحنته، ولو بالوهم، التي عجز أن يفرغها في الحقيقة.
المصدر : الباحثون العدد 67 كانون الثاني 2013