سمتان هامتان في السيرة الذاتية، سبق إليهما علماؤنا الأوائل فاتّسمت بهما أعمالهم الإبداعية في سائر ما أنجزوه في ميادين العلوم والآداب والفنون...
تحفل أعمال هؤلاء الروّاد بصور متألقة تعكس هاتين السمتين بجلاء، ويطول الحديث إن عرضنا سيرهم ومنجزاتهم ولكن بحسبنا أن نختار نماذج توضّح تلك الصور الراقية.
هذا ابن حزم علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهريّ (384 – 456هـ) أبو محمد، عالمٌ أندلسيٌّ وإمامٌ من أئمة المسلمين، حتى أنّ الكثيرين من مسلمي الأندلس انتسبوا إلى مذهبه وسُمّوا «الحزميّة»، وكان من أهل الوزارة في الأندلس، له مؤلّفاتٌ كثيرةٌ في الفقه والأدب منها «طوق الحمامة».
* مثال يُحتذى في كرم الطبع:
شرح ابن حزم عواطفه في «طوق الحمامة».. وكان من مصنّفي الأندلس الذين سجّلوا لنا تجاربهم وأحاسيسهم في تآليفهم، ويُعدّ أكبر عقليّة إسلاميّة ظهرت في الأندلس.. ويُعدّ طوق الحمامة كتاباً رائعاً في الحبّ «كتبه فقيه من فقهاء الأندلس كان شديد العارضة في المدافعة عن الدين»، صرف حياته في المجادلات الفقهيّة العنيفة. كما يُعدّ اعترافاً صريحاً للكاتب.. وتجارب في الشؤون العاطفية يُستفاد منها، ويقول ابن حزم بصراحة: إنّه أحبّ في صباه جاريةً شقراء الشعر، ولم يكن يستحسن صاحبة الشعر الأسود آنذاك.. وربما كان هذا الاستلطاف قد ورثه عن أبيه. وذكر ابن حزم أنه تربّى في جحور النساء، ونشأ بين أيديهنّ.. ولم يُجالس الرجال إلا في شبابه، واعترف بكل صراحة أنه جرّب اللذّات كلها فقال: «ولقد جرّبت اللذّات على تصرّفها، وأدركت الحظوظ على اختلافها، فما للدنو من بعد الخوف ولا للتروّح على المال من الموقع في النفس ما للوصل، لاسيّما بعد طول الامتناع، وحلول الهجر حتى يتأجّج الجوى ويتوقّد لهيب الشوق وتتضرّم نار الرجاء.
إنّ ابن حزم يرى الحبّ «ليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عزّ وجل.. كما رآه شيئاً ألفه الناس، ولا يصحّ أن يكتموا أسراره، وما يحيط به، وقد كانت هذه طريقته في الدرس والتمحيص ولا يريد التشهير بأحد، فنحن نشعر أننا أمام إمامٍ من أشهر أئمّة الإسلام وله قلبٌ يخفق بالحبّ.. وقد أحدث هذا الكتاب رجّةً عنيفةً جداً في أوروبا، وتناولته المجلاّت الأدبيّة بالنقد والتحليل، ويعلّل د. زكي مبارك ذلك، لأنّ أوروبا كانت في القرن العاشر الميلادي تفتقر إلى الشؤون الوجدانيّة، وقد سبقها إلى ذلك عالمٌ عربيٌّ، وإمامٌ من أئمّة الدّين، ومثالٌ يُحتذى في أدب النفس، وكرم الطبع ومتانة الخلق. ويُتابع زكي مبارك موازنته.. فيرى أنّ العرب كانوا ينظرون إلى الحبّ في القرن العاشر بنفس العين التي كان ينظر بها الأوروبيون إلى الحبّ في القرن التاسع عشر. هذه النظرة هي امتدادٌ لنظرة العرب في المشرق، ولا شكّ فإن الإسلام هو السبب في ذلك، فهو دينٌ يجمع بين الروح والجسد، ففي قوله تعالى شرحٌ وافٍ لذلك: « وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» [الروم : 21]. وقد شرح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم نظرة الله سبحانه وتعالى إلى هذه الناحية في قوله: «عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأتِ فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تُصبح» متّفق عليه.
* تصوير رائع للنفس البشرية:
هناك كتاب «المنقذ من الضلال» للغزالي (محمد بن محمد الغزالي الطوسيّ (450 – 504هـ) أبو حامد، حجّة الإسلام.. كان فيلسوفاً متصوّفاً، ألّف أكثر من مئتي مصنّفٍ.. وُلد ومات في الطابران (بخراسان)، ومن كتبه «تهافت الفلاسفة» و«المنقذ من الضلال» وغيرها.
ألّف الغزالي «المنقذ من الضلال» بعد الخمسين من عمره، فهو عمل الشيخوخة، ولذلك نرى اعتدال أسلوبه ووضوح إشاراته وتخيّر ألفاظه وائتلاف معانيه.. يصوّر الغزالي النفس البشريّة تصويراً رائعاً بدقائقها وجزئياتها.. وما ينتابها من مشاعر بتلك العفوية والبساطة، بعيداً عن التكلّف والصنعة والسجع فمن ذلك قوله: لا تصفو لي رغبةٌ في طلب الآخرة بكرةً، إلا ويحمل عليها جند الشهوة جملةً فيفترها عشيّة. فصارت شهوات الدنيا تجاذبني سلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان يُنادي الرحيل! الرحيل! فلم يبق من العمر إلا قليلٌ، وبين يديك السفر الطويل، فمتى تستعد؟.
* للصداقة صورتان:
من أدبائنا القدماء أبو حيّان التوحيدي (توفي نحو عام 400هـ) الذي صوّر آلامه ومعاناته لفقد الأصدقاء في رسالته الشهيرة «الصداقة والصديق» وقد كان يائساً من وجود صديق له فيقول: «وقبل كل شيء ينبغي أن نثق بأنّ لا صديق ولا مَن يتشبّه بالصديق». وذكر أبو حيّان قول الفلاسفة: «قيل لفيلسوف: مَن أطول الناس سفراً؟ قال: مَن سافر في طلب صديق». وقد قدّم أبو حيّان لنا في رسالته هذه الصورة للصداقة ذات وجهين. صورةٌ حلوةٌ تنمّ عمّا في الصداقة من معنىً، وما لها من مكانة في نفس أبي حيّان، ونفس كلّ إنسانٍ يحلم بصديقٍ قريبٍ إلى قلبه وروحه، وعدم تفانيه في خدمة الناس، وهو في رسالته هذه يصوّر نفسه المسكينة التي تفتّش عن صديقٍ لها في هذه الحياة المملوءة بالمتناقضات، إنّه يحبّ الصداقة من صميم فؤاده ويقدّسها، ولكنّه يهيم في هذا العالم المملوء بالشرور والآثام يفتّش عنها. كان أبو حيّان متشائماً سوداويّ المزاج، لا يهنأ له بالٌ ولا يرتاح لأحدٍ، ولعلّ حظّه التعس في المجال الأدبي جعله يرى مَن لا يستحقّ يصل إلى المرتبة التي يتمنّاها لنفسه. ولكن لم تكن الحال حال أبي حيّان وحده بل كثيرون مثله في هذا العالم الذين لا يُعرف قدرهم إلا بعد الموت، ولعلّ الموت يرفع من شأن الناس!!..
كما كتب أسامة بن منقذ (أسامة بن مرشد بن عليّ بن نصر بن منقذ الكناني الكلبي الشيرازي (448 – 584هـ) أبو المظفّر)، كان أميراً من أكابر بني منقذ أصحاب شيزر قرب حماه، وكان عالماً شجاعاً، وُلد في شيزر، ثم سكن دمشق، وانتقل إلى مصر، وقاد عدّة حملات ضد الصليبيين في فلسطين ثمّ عاد إلى دمشق.. عاصر الكثيرين من السلاطين، وكان مقرّباً منهم كصلاح الدين الأيوبي وغيره.. له مؤلفات كثيرة منها «الاعتبار» الذي تُرجم إلى الفرنسيّة والألمانيّة. وقد ضمّن سيرته الذاتيّة في «الاعتبار» ما مرّ معه من أحداثٍ تصوّر مرحلةً معيّنةً من تاريخ الأمّة الإسلاميّة أيّام الغزو الصليبي في القرن السادس الهجري.. فقد ضمّن سيرته حكايات واقعية فيها صدق المعاناة والعاطفة كتبها رجلٌ مؤمنٌ بالقدر.. فقد «أتقن أسامة الفنّ القصصيّ وأبدع في إيراد نكته كلّ الإبداع».
* وماذا عن الجوانب المخفية:
في العصر الحديث كتب د. طه حسين سيرته الذاتية «الأيام» فقد صدرت عام 1929.. ولكنه لم يكن صريحاً في عرض سيرته تلك، ففي الجزء الثالث من أيامه أهمل ذكر بعض أحداث حياته. بالنسبة لتطوّر تلك الحياة، ولقد كانت تلك الأحداث غنية بالتغيير الجذري الذي طرأ على شخصيّة طه حسين.. ومع ذلك لم يشرح لنا جوانب حياته التي عاشها في فرنسا. وهو المكفوف الذي تعرّض حتماً لتجارب عنيفة ربما هزّت كيانه آنئذٍ.. كنّا نشعر من خلال سيرته بعمق الألم الذي تركته العاهة في نفسه، مهما تظاهر بإخفائه، أين منّا أن نرى تجارب طه حسين وهو في مدينةٍ رائعةٍ لاهية كباريس قبل قرنٍ من الزمن تقريباً؟!.. كذلك فإنّه لم يصوّر لنا بدّقةٍ تعلّقه بالفتاة الأوروبية «سوزان» تلك المرأة التي أبصر بعينيها، والتي أصبحت زوجته فيما بعد!!. بل كان يصمت في مواقفه الكثيرة معها، ولم يهتمّ بتساؤلات القارئ وتطلّعه المزيد والتعمّق في الأمور.. «أيريدنا طه حسين أن نصدّق أن الجانب الوحيد من هذه العلاقة النبيلة إنّما هو الجانب الظاهر الذي أومأ إليه إيماءً ولم يستقصه؟ وماذا تكون السيرة في هذا المجال إن لم تكن كشفاً وتعريّةً».. لقد خفق قلب طه حسين عندما سمع صوت ميّ في حفل تكريم خليل مطران..» ولم يرض الفتى عن شيء ممّا سمع إلا صوتاً واحداً سمعه فاضطرب له اضطراباً شديداً وأرق له ليلته تلك. كان الصوت نحيلاً ضئيلاً وكان عذباً رائقاً»
وصف لنا طه حسين حبّه لمي من خلال صوتها، وهو الإنسان المحروم من المرأة.. وكيف أخفى عنّا مغامراته في فرنسا؟!.. وكان يمكنه أن يعرّي قسماً منها، ولكنه يخشى عواقب الأمور لا كما قال في نهاية سيرته إنه «لم ينكر في مسيرته شيئاً ولم يندم على فعلٍ فعله أو قولٍ قاله». أيقصد طه حسين الإنكار فقط فيما كتبه؟! أم أنّه الإنكار لحقائق بعد عنها ضنّاً منه على القارئ.. وخوفاً من المجتمع القاسي الذي لا يرحم وكان يرى «الحيدة في ذلك جبناً ونفاقاً» وهو الذي يرى نفسه «أطول الناس لساناً».
أكان طه حسين طويل اللسان في المشكلات العامة، وقصيره في مشكلاته الخاصة.. في دقائق قلبه المفعم بالحب؟! لا شكّ أن وصفه الأول لصوت امرأةٍ سمعه قد حرّك لواعجه بتلك الصورة الرائعة، فأين طه حسين هناك في بلدٍ غريبٍ عنه.. بعيدٍ عن عيون الناس، وعن مجتمعه المتخلّف؟! ماذا فعل طه حسين هناك؟؟!! طه حسين الرجل الريفيّ ذو العقل المتفتّح والبصيرة المتألّقة، كيف أخفى عنّا مشاعر قلبه الكبير المملوء بالحبّ والعطف والإحساس والشعور؟! كيف أصمّ أذنيه؟! كيف عقَل لسانه؟! فقد كتم الكثير.. ولم يكن صادقاً وصريحاً في سرد قصّة حياته.. وقد اقتبس طه حسين هذا الفن من الغرب وحاول شرحه.. ولكنّ تقاليده وعاداته أوقفته وشدّته إلى بيئةٍ نشأ فيها، وعاد إليها.. كتم هذا خوفاً من مجتمعٍ قاسٍ متخلّفٍ يحاسب الإنسان على كلّ هفوةٍ يعدّها في رأيه جريمةً في حق الدين والحياة والمجتمع المتزمّت الذي يخالف طبيعة تعاليمنا الدينيّة والتربويّة في صدر الإسلام.
* نار الحب مستعرة أبد الدهر:
كتب ميخائيل نعيمة سيرة «جبران خليل جبران» في خمسينيات القرن الماضي فقد صوّره إنساناً، وذكر على لسان فتاة لم تقرأ لجبران سوى «النبيّ» فكانت تراه مثلاً أعلى لها.. ولكنّها وجدته كسائر الرجال «أليس الإيمان بالكمال وهماً والمحافظة على الطهارة ضرباً من البلادة؟»
وقد استهدف نعيمة من وراء تصوير جبران في سيرته، موت جبران النبيّ وبعث جبران الإنسان بمشاعره وأحاسيسه ونوازعه البشرية، فها هو جبران يخاطب ميشلين قائلاً: «لقد سئمت نفسي الخصام، فارحميني وارحمي نفسك، واصفحي عن مرارةٍ في قلبي لا يزيلها إلا حبك أنت رفيقتي إلى الأبد.. يا ليتك تعرفين بعلبك.. ستعرفين لبنان – لبناني– أوَ تدرين ما يجول في خاطري؟ قصة خيالية أجعل بعلبك مسرحاً لها، ومحورها حبٌّ قديمٌ بين ابن كاهنٍ من كهنة عشتروت وفتاةٍ كميشلين. وكيف كان هذا الحب يتجدّد على ممرّ الأجيال، يموت الحبيبان.. ولكنهما يلتقيان ليكمّلا أنشودة الحبّ القدسيّة خليل وميشلين، وقد اخترت لقصّتي عنواناً جميلاً «رماد الأجيال والنار الخالدة» تحترق الأجيال وتمسي رماداً أمّا نار الحبّ فمستعرةٌ أبداً. ما قولك»
أين جبران النبيّ إذن؟! وهو يرى نار الحبّ مستعرةً أبد الدهر.. وهو الذي يخاطب نفسه قائلاً: «ما أزال جائعاً إلى طعامٍ لا يبلى..» نجد نعيمة يصف جبران الإنسان بصراحةٍ وصدقٍ، كما صوّر غرائزه البشرية، وجعله إنساناً سويّاً يتحرّك على هذه الأرض، معتمداً في ذلك على كلمات جبران نفسه، فكان صادقاً في نقله لصورته.. ولعلّ الاعتدال في المدح والذمّ يدخل في مجال الصدق والصراحة في السيرة.. وقد كان نعيمة حكيماً في استخدام الإطراء والمدح في سيرة جبران بل كان منصفاً له دائماً، فرفع عنه كما ذكرنا – هالة التقديس والنبوّة، وجعله إنساناً يعيش بنزواته، ولم يذمّه أيضاً كما ظنّ النقّاد الذين هاجموه ونعتوه بأنه قصد تجريح جبران وإظهار نفسه.. ويجد نعيمة أن الصورة التي لا تحوي الظلال، تلك الظلال التي يعدّها الناس أوهاماً هي حقائق ووقائع.. وبدون تلك الظلال «لا يظهر جبران الكامل على حقيقته».. ويتّضح لنا ممّا ذكرناه ومن غيره أنّ نعيمة الذي عاش في المجتمع الغربي المتطور، وتأثّر بتلك العقليّة المتفتّحة، لم يسلم من هجوم مجتمعنا المتخلّف في العالم العربي، هذا المجتمع الذي هاجمه بشدّة ولم يرحمه أبداً، وربما كان هذا الهجوم سبباً أساسيّاً في خوف الكتّاب العرب أن يتّبعوا خطى نعيمة في كتابة سير الآخرين!!..
* الاعتدال والصراحة يضفي على السيرة واقعية:
هكذا يبدو لنا أن هذه السمة (الاعتدال في المدح والذمّ) في السيرة هي التي تضفي عليها الواقعية، فتقدّم الصورة بكلّ ما فيها من نقيصةٍ وكمالٍ ويا ليت كتّابنا الذين يكتبون سير الآخرين يلتزمون بها!..
كما أنّ نعيمة حاول أن يكون صريحاً وصادقاً في سرده حكاية عمره، فتحدّث عن حبّه لـ «فاريا» و«بيلاّ» و«نونيا» وعلاقته بنساءٍ أخريات.. ولكنه وإن فعل ذلك فإنّه لم يكن صريحاً الصراحة الكافية كما فعل عند كلامه عن جبران!!.
وحاول بعض الكتّاب أن يكونوا صادقين في سردهم قصص حياتهم، بينما كان بعضهم الآخر يشوب أحداث حياته بالغموض، فهذا مراد السباعيّ لم يتخرّج في مدرسةٍ قط.. وكانت لغته ضعيفةً تضطرّه للاستعانة بأستاذ يهذّبها.. ومع ذلك فقد استطاع أن يدخلنا في ذاته المضطربة حين أحبّ فتاةً مثقفةً، ورأى من الواجب أن يجاريها في ثقافتها. وحاول أن يقرأ باستمرارٍ ليفهم «الأفكار المعروضة» داخل صفحات الكتاب، بينما كان طه حسين يخفي عنّا مغامرات حبّه في باريس مثلاً.
وهذه الصراحة التي لجأ إليها السباعيّ خلال صفحات كتابه، لم نعهدها في أدبنا الحديث وخاصةً عند كتّابنا الناشئين فهي لذلك جديرةٌ بالاحترام!..
* ما بالُ كتّابنا المحدثين:
هكذا يتبيّن لنا من خلال توضيح الخصائص المتميّزة بالصدق في رواية السيرة بنوعيها الغيري والذاتي الصدق الذي حضّ عليه القرآن الكريم في آياته البيّنات فقال: « وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ» [الشعراء: 84]، « وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً» [الإسراء: 80]، ومن ثمّ قَدِم محمد صلى الله عليه وسلم فحضّ على الصدق.. عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الصدقَ يهدي إلى البرّ وإنّ البرّ يهدي إلى الجنّة، وإنّ الرجلَ ليُصْدِقُ حتى يُكتب عند الله صدّيقاً، وإنّ الكَذِبَ يهدي إلى الفجور، وإنّ الفجورَ يهدي إلى النار، وإنّ الرجلَ ليَكذِبُ حتى يُكتبَ عند الله كذّاباً». متفّقٌ عليه.
وكما رأينا أنّ ابن حزمٍ كتب سيرته في «طوق الحمامة» فصوّر معاناته بالحبّ.. وكان صادقاً وصريحاً بتصوير خلجات قلبه لأنه يجد أن الحبَّ «ليس بمنكرٍ في الديانة» لم يخش ابن حزم الناس، وهو إمامٌ وفقيهٌ من فقهاء المسلمين في الأندلس، وكان لكتابه هذا رجّةٌ عنيفةٌ في أوروبا.
كان هذا في القرن العاشر الميلادي، ولا شكّ أن الفضل يرجع إلى الإسلام، لأنه لم يفرُق بين الروح والجسد، بل أعطى كلاً منها حقّه. فما بال كتّابنا المحدثين الذين ينمّقون ويبتعدون عن الصدق والصراحة خوفاً من المجتمع والإنسان الذي لا يرحم الكاتب ولا يقدّر عواطفه ومشاعره.. فهو معجونٌ من دمٍ ولحمٍ وشعورٍ!!.
أرجو أن يعيد الكاتب العربي الحديث صور السير القديمة الحافلة بالصراحة والصدق بعيداً عن النفاق والمغالاة.. مضيفاً إليها تطوّر هذا الفن ليُعيد إلى السير العربيّة ألقها وفائدتها واستمراريّتها، لتكون عبرةً للأجيال العربيّة ولتجد لها مكاناً تحت الشمس يصبو إليه كلّ فردٍ يعيش فوق هذه الأرض الخيّرة.
المصدر : الباحثون العدد 67 كانون الثاني 2013