في تاريخ البشرية أحداث فاصلة مثّلت نقطة واسعة في حياة الإنسان، وثورة مدويّة في ميادين التقدم العلمي، ما تزال معطياتها الهامة تتابع وتقود إلى فتوح جديدة، ومنجزات باهرة في ميادين الكشف والاختراع، وبالتأكيد فإن غزو الفضاء، وسبر مجاهل الكون القصية، تحتل المرتبة الأولى في أعلى سلم الفتوح العلمية المعاصرة. وبدءاً من 12 نيسان (ابريل) 1961، يوم طاف «يوري غاغارين» بمركبته «فوستوك» في الفضاء الرحيب، فتَح العالم سجلاً جديداً يراكم فيه منجزات الملاّحين الرواد، ويختزن المعلومات الهائلة التي ملؤوا بها جعبهم، وهم يتجولون بين الكواكب، يصوّرون ويسجلون مشاهداتهم، ويعودون بها إلى الأرض، ليحلّلها الخبراء والعلماء ويتعرفوا على ألغاز العالم القصي وأسراره الخبيئة. ومن بين أبرز أهم تلك المحطات المدهشة في تاريخ الفضاء كانت الرحلة الأولى إلى القمر، والنزول إلى سطحه والمشي على ترابه..
1) آرمسترونغ والخطوة الأولى على القمر
شكّل بلوغ القمر والتجوّل على سطحه واحداً من أقدم أحلام الإنسان، ومن عصور مبكرة شغل الأمر كتّاب الخيال العلمي، وصار محور بحوثهم، ولكن كان لا بد من مرور زمن طويل حتى يتحول الخيال إلى واقع، ويتحقق الحلم المثير.
في النصف الثاني من القرن الماضي، كانت الحرب الباردة قد استعرت بين قطبي العالم: الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، كما اشتدّ التنافس على ارتياد الفضاء.
كانت موسكو من جانبها قد سجلت نقاطاً بالغة الأهمية يومذاك، بفضل الصاروخ الروسي الشهير «سيوز» الذي اعتبر الأفضل والأكثر أماناً ونجاحاً في تاريخ غزو الفضاء (أُطلِق أكثر من 1150 مرة بنجاح) وكان الروس قد حققوا سبقاً مشهوداً تمثّل في تثبيت أول قمر صناعي في المدار الخارجي، وهو «سبوتنيك» عام 1957، كما تقدم الروس بفارق شهر واحد على الخصم الأمريكي في مجال إرسال أول إنسان إلى الفضاء الخارجي وهو الملاح الكوني (يوري غاغارين) في نيسان من عام 1961... لقد دفع ذلك الإنجاز، الرئيس الأمريكي «جون كينيدي» إلى تسريع مشروع إرسال أول إنسان إلى القمر، على أن يتم ذلك قبل نهاية ستينات القرن العشرين، وعكفت وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» على تنفيذ برنامج «أبولو» لكن الرئيس كينيدي اغتيل بعد عامين (22/1/1963) ورحل من دون أن يرى حلمه قد تحقق، وانقضت الشهور الستة الأولى من عام 1969، ولم يبقَ غير شهور من العام للوفاء بتنفيذ المهمة بالتاريخ المحدد لها (نهاية ستينات القرن) ليتم ذلك فعلاً في صيف عام 1969 (عهد الرئيس نيكسون).
* خطوة صغيرة.. وقفزة كبيرة:
الزمان: 16 تموز (يوليو) 1969، وصل مشروع «أبولو » لبلوغ القمر إلى مرحلته النهائية، 400 ألف عالم ومهندس وتقني في قاعدة «كاب كانا فيرال» بولاية فلوريدا، يشرفون على اللحظات الأخيرة لانطلاق الصاروخ: «Satorn 5» (ارتفاعه 111م من المنصة)، حاملاً مركبة الفضاء «أبولو 11» التي تزن 17 طناً، وعلى متنها الرواد الثلاثة: نيل آرمسترونغ، مايكل كولنز، وأدوين الدرن...
* اليوم 20 تموز (يوليو) 1969، الساعة العاشرة صباحاً، العالم بأسره محتشد ومُسمّر أمام شاشات التلفزيون، والعيون مفتوحة على آخرها انبهاراً، لتتبع المشهد الكوني الخارق: مركبة الفضاء «النسر» تحط على بحر الهدوء في سطح القمر (على مبعدة 384.400كم من الأرض)، ورجل من لحم ودم يهبط منها، ويطأ بقدميه أرض الكوكب... يمشي خطوات ثم يردد عبارته التاريخية المأثورة: «إنها خطوة صغيرة لشخص، وقفزة كبيرة للجنس البشري»..
لحق الملاّح «آلدرن» برفيقه «آرمسترونغ» وأمضيا 22 ساعة يستكشفان ويجمعان نماذج من التربة والصخور، ويجريان بعض التجارب، في حين بقي رفيقهما «كولنز» خلف مقود مركبة القيادة «كولومبيا» التي بقيت في مدارها حول القمر.
* اليوم 24 تموز (يوليو) 1969، عاد الملاحان إلى قمرة القيادة التي انطلقت بالرجال الثلاثة في رحلة العودة إلى الأرض، لتهبط بسلام في المحيط الهادي، حيث كانت في انتظارهم حاملة الطائرات «هورنيت»، وفي انتظارهم الرئيس الأمريكي «نيكسون» الذي بادرهم بعبارات التحية: «لقد كان أعظم أسبوع في تاريخ الولايات المتحدة منذ إنشائها».
ما تزال أسرار كثيرة مخبوءة:
استمر برنامج «أبولو» إلى عام 1972، حيث قام ملاحو الفضاء بست رحلات ناجحة للهبوط والتجوال على سطح القمر، وتتابعت بعدها رحلات المسابر الفضائية الأمريكية والروسية والأوروبية واليابانية والصينية، تدرس تضاريس القمر وتركيبه الجيولوجي وثرواته المعدنية واحتمال وجود ماء في مناطقه القطبية. كذلك تمّ إرسال مسابر فضائية إلى كواكب أبعد بآلاف المرات من القمر مثل كوكب المشتري، الذي دخل إلى غلافه الجوي السميك المسبار «غاليليو» وأرسل إلى الأرض صوراً دقيقة ومعلومات قيّمة عن تركيب الكوكب العملاق في المجموعة الشمسية، وتعددت رحلات المركبات الفضائية ليصل بعضها إلى حواف النظام الشمسي.
لقد كان الهبوط الأول على سطح القمر حدثاً علمياً مذهلاً، وحدثاً سياسياً وثقافياً، كان لحظة تاريخية، ما يزال الناس يستعيدون تفاصيلها، ويترقبون بانبهار الخطوات التالية للإنسان في ذلك العالم القصي الذي ما يزال يختزن في أرجائه الكثير من الأسرار والمفاجآت، ثم كان الحدث الخارق الجديد…
2) أعلى وأسرع وأطول قفزة في التاريخ
«أعلم أن العالم بأسره يشاهدني الآن.. أتمنى لو كان بإمكان الناس جميعاً أن يروا ما أراه الآن، أحياناً يتحتم على المرء أن يصعد عالياً عالياً، ليفهم فعلاً كم هو صغير وضئيل… حان الآن وقت العودة»
* نعم لقد فعلتها:
- بهذه العبارة البسيطة، أوجز المغامر النمساوي «فيليكس بومغارتنر» إنجازه المشهود الذي حقق فيه أعلى وأسرع وأطول قفزة في التاريخ على حافة الفضاء، وأمام أنظار الملايين من الناس في مختلف أصقاع العالم، وقف «فيليكس» على درجة الكبسولة الصغيرة يترقب اللحظة الملائمة ليقفز قفزته الباهرة نحو الأرض.
لحظات حاسمة انحبست فيها الأنفاس، واستعادت البشرية خلالها ذكرى الحدث التاريخي الذي تحقق عام 1969 مع خطوة الملاح الكوني الأمريكي الراحل «نيل آرمسترونغ» العملاقة على سطح القمر..
بطلنا الجديد «فيليكس» المعروف بمغامراته المجنونة، تدرّب منذ خمس سنوات على هذه القفزة الخطيرة والمذهلة من علو نحو 40 كم، وقام في شهر آذار 2012 باختبار للمهمة، لكن المسافة كانت حينها 71 ألف قدم فوق سطح الأرض. ويعتبر «فيليكس» أول شخص في العالم يتجاوز سرعة الصوت بجسده دون أن يكون في مركبة أو طائرة.. ولكن بجسده فقط.
* «البدلة» التي يسّرت الإنجاز:
صُمّم لهذه القفزة التاريخية بدلة مكتملة الوظائف، هدفها الأول الحفاظ على حياة «فيليكس» في مواجهة كل الظروف، فقد صُنعت من الألياف الزجاجية خفيفة الوزن، تتميز بصلابتها وقوتها ومقاومتها للصدمات القوية، وبلغ وزنها 100 باوند، ما يعادل 45 كيلو غراماً تقريباً، والبدلة مزودة بالأكسجين اللازم لعشرين دقيقة، وبنظام تحكم بالضغط الجوي (تتحمل درجة حرارة تصل إلى 70 درجة مئوية)، وتحتوي على كاميرات عالية الجودة، وجهاز تعقّب المواقع، وجهاز لقياس السرعة، كما زوّدت الخوذة بقناع متطور يحمي من أشعة الشمس، وميكروفون وسمّاعات تمكّن الرجل من التواصل مع غرفة التحكم الموجودة على الأرض.
* نقطة بيضاء في الفضاء:
حلّق المغامر إلى الفضاء بكبسولة صغيرة رُبطت ببالون ضخم، وعبّئت بغاز الهيليوم، واستغرقت رحلة الصعود إلى الفضاء ساعتين ونصف تقريباً، حتى بلغ فيليكس الهدف على ارتفاع 128 ألف قدم فوق سطح الأرض (39 كيلو متراً)، ثم قام بالخروج من الكبسولة والقفز في الفضاء، وقد بلغت سرعة سقوطه حوالي 1342 كيلو متراً في الساعة، متجاوزاً بذلك سرعة الصوت البالغة 1236 كيلو متراً في الساعة. واستغرق هبوطه الكامل 10 دقائق فقط.
لحظات قليلة مرّت، تحوّل الرجل خلالها إلى نقطة بيضاء، تهبط بسرعة شديدة بلغت 8339 ميلاً في الساعة (1.24 ماخ)، وما لبثت الأنظار أن شاهدتها تدور وتدور حول نفسها لثوان، ظنّ الجميع لحظتها أن «فيليكس» لن يتمكن من الهبوط إلى الأرض، لكنّ المشهد ما لبث أن تبدّل، حين علا صراخ من كانوا في غرفة المراقبة ومعهم ملايين المشاهدين.. ومع استعادة المغامر الجريء السيطرة على توازنه أثناء هبوطه السريع، وبعد انقضاء مدة 4 دقائق و22 ثانية على هبوطه الحر، فتح «فيليكس» مظلّته، وتابع هبوطه باتجاه صحراء «نيومكسيكو» الأمريكية، وفاجأ الجميع وأثار دهشتهم حين هبط على قدميه، ولم يتوقع أحد أن يبقى هذا المغامر في صحة تامة، ومن دون أية آثار لهذه القفزة «المجنونة» فلا إعياء ولا تعب، بل فرحة غامرة بهذا الإنجاز الهام والخارق.
* لقد فعلتها حقاً:
حطّم «فيليكس» في إنجازه العظيم ثلاثة أرقام قياسية، محققاً أعلى وأسرع وأطول قفزة في التاريخ.. ولقد صمد في وضعية السقوط الحر مدة 4 دقائق و22 ثانية، ثم قام بفتح المظلة، ومع هذا فإنه لم يحطم الرقم القياسي الذي سبق وحطمه الكولونيل «جوكيتينغر» وكان 4 دقائق و36 ثانية، سجّله عام 1960 في مسافة 31 كم فقط.
«لقد فعلها حقاً، وأنجز (فيليكس بومغارتنر) مغامرته التاريخية المذهلة، التي مثّلت حدثاً تاريخياً هاماً، ستُفتح معه آفاق جديدة للأجيال القديمة..
فماذا بعد؟!
المصادر:
* الموسوعة العلمية الحديثة – العدد/4/ نيسان 2009.
* أربعون عاماً على أول خطوة إلى القمر – مجلة المرأة اليوم، تموز 2010
* العالم الغامض لم يعد مجهولاً – د. سامي وجدي – دار العلوم 2008
* أعلى، أسرع، وأطول قفزة – جريدة الرأي – 1208 – تشرين أول 2012
المصدر : الباحثون العدد 67 كانون الثاني 2013