الحديث عن الأندلس حديث ذو شجون يهز القلوب ويهزنا نحن أهل الشام بوجهٍ خاص. فالأندلس اسم جميل لبلد رائع، فيه مدينة راقية عربية السمات أسّس صرحَها الأجدادُ من بني أمية، وآثارنا في الأندلس شواهدُ دولة عظيمة وحضارة أمة عريقة بقيت مسار الاعتزاز والفخر على مدار الزمان.
* إن أول البصمات التي تستدعي اهتمام زائِر الأندلس، هي الشبه الكبير في التكوين الخلقي بين سكان مدنها وقراها، وبين (أهل الشام) - خاصة في الطباع، فالناس هناك ذوو عيون سوداء جميلة وشعر كثيف وبشرة حنطية وقامات معتدلة في أكثر الأحيان، ويلفت النظر: الكرمُ الأصيل والشهامةُ والمروءة والتسامح في المعاملة وحُبُّ الموسيقا والغناء والسهر، والحرص على القيلولة، لتشابه المناخ، ومازال الرجل الأندلسي يتصف بالنخوة. والمرأة عندهم محتشمة باللباس وراقية في التعامل مع الآخرين.
ويُلاحظ اعتزاز الأندلسيين بالدم العربي حتى لون أن أحدهم حَكّ جلده، ظهر جلد آخر عربي، فهم فخورون بالانتساب إلى كنى عربية يحملون اسمها مثل أسرة القصير- بني أمية- المدوّر- القلعة، وهناك بعض المواقع والقرى التي شيدها العرب لا تزال محتفظة باسمها العربي مثل «المنكّب»: وهي مدينة ساحلية بالقرب من مدينة «ملقَّة» العربية أيضاً والتي نزلها عبد الرحمن الداخل سنة 756م. وهناك بلدة (طريف) الساحلية على اسم القائد العربي طريف بن مالك. ومدينة جبل طارق التي بنيت على سفح الجبل المسمى باسم طارق بن زياد، وهناك في مقاطعة البسيط قرية تدعى «الكرز» مشهورة بفاكهتها وجودة كرزها. أما مدينة «مُرسيّة» فتقع على الساحل الشرقي وقد بناها الأمير عبد الرحمن الثاني وولد فيها العالم الصوفي (محيي الدين بن عربي). وأخيراً مدينة سالم الواقعة بالقرب من العاصمة مدريد والتي دفن فيها الخليفة المنصور. والحقُّ، إن الأمثلة أكثر من أن تعد وتحصى.
وتأكيداً للتقارب الشديد بين العرب والإسبان أستشهدُ ببعض الألفاظ كمصطلحات تستعمل في الحياة الاجتماعية مثل عبارة (ليحفظك الله) وقولهم للمتسوّل (ليرزقك الله)، (وإن شاء الله) إذا ما عزموا على أمر، ويعبّرون عن طربهم وإعجابهم ببراعة مصارع الثيران بعبارة (أولو) وأصلها لفظ الجلالة الله ويمدحون الإنسان الطيب بعبارة (بارك الله بالأم التي وضعتك) إنها مصطلحات دمشقية عربية بحتة.
إذا زرنا الأحياء القديمة بالمدن (قرطبة- إشبيلية- غرناطة- طليطلة) وسائر القرى، نشاهد أجمل ما فيها حارات ضيقة متعرجة تكتنفها بيوت مطلية باللون الأبيض لكل منها فِناء (أرض ديار) تتوسطه بركة ماء، وتزينه أحواض النباتات والزهور كالريحان والحبق والياسمين والعطرة والفل البلدي والخبيزة، وإذا كان الفناء كبيراً شاهدنا أشجار الليمون والكباد والنارنج. وانتبه الإسباني لخطورة ضياع هويته التراثية فصار يحرص على الترميم والصيانة مع البقاء على أصالة البيت، بل يتبارى مع جيرانه بتجميل بيته وتحسين مظهر حارته لأن البلديات تقدم جوائز مالية سنوياً لأجمل بيت أندلسي يجذب ويبهر السياح. في دمشق تهفو قلوبنا إلى بيوت أجدادنا الدمشقيين القديمة، والتي أهملناها وهجرناها وتركناها تتزايل أمام أنظارنا.
أما الأسواق الأندلسية القديمة فإن الحكومة الإسبانية تعمل جاهدة على تجميلها وصيانتها دون المس بطابعها القديم، وتُحفّز وتشجع الصناعات الدمشقية التي توارثها أهل البلاد والعرب الذين لم يهاجروا. وفي سوق طليطلة القديم ترى اليافطات الكبيرة المدونة بالإسبانية (صناعات دمشقية) وتدخل السوق لترى أنواعاً من السيوف الدمشقية الجميلة، وأشكالاً نحاسية منقوشة ومطعمة بزخارف دمشقية. إنها صناعة دمشقية أصيلة أدخلها حرفيون دماشقة بعد الفتح فحملت اسمهم وتُنسب إليهم حتى اليوم. كما أن الدمشقيين أدخلوا إلى قرطبة صناعة الجلود والحرير الموشّى بالخيوط الفضية والذهبية والمعروف عالمياً باسم دمشق (دامسكو) واختصت أسواق غرناطة وإشبيلية بصناعة الأشغال اليدوية الدقيقة المسماة (دانتيلا) ذات الرسوم المتأثرة بأشكال الفن الإسلامي، وأيضاً تشاهد صناعة الزجاج المعشق (المرسوم) والفخار والخزف.
وفي الأندلس بصمات هندسية دمشقية عمرانية إسلامية فنية، حملها الفاتحون من دمشق وحمص والقيروان أولاً، ومنها إلى فارس وسبته في المغرب الأقصى، إلى الأندلس، ومن عبقرية المهندسين والحرفيين وإنتاج أيدي الخطاطين المبدعين نجد الزخرفة والتزيين في البناء والعمران، فقد رافق بعض هؤلاء جيوش الفاتحين وبعضهم الآخر استعمله الأمراء والخلفاء، فازدهر فن العمارة والزخرفة في عاصمتهم قرطبة، ومن ثمَّ طليطلة وإشبيلية وملقة وغرناطة، أما الإسبان الذين عشقوا وأولعوا بهذه الفنون الهندسية والزخارف التزيّنية فاقتبسوها وقلدوها في بناء بيوتهم ومدنهم بشمال البلاد، فظهرت الخطوط العربية التزيّنية والأشكال الهندسية بشكل واضح في عدد كبير من الكنائس والأديرة والقصور الإسبانية. يؤكد ذلك الدكتور خوان ڤيرنيه: (إن الإسبان اقتبسوا من الخطاطين والنقاشين العرب فنونهم الرائعة زينوا دورهم وقصورهم وكنائسهم دون أن يدركوا معاني الكلمات المنقوشة، منها كلمة (الله) وكلمة (البركة) بل إن عبارة الشهادة الإسلامية (لا إله إلا الله محمد رسول الله) استعملت في القرن الثامن عشر في تزيين إطار جميل مزركش وُجد فوق تمثال السيدة العذراء في إحدى الكنائس.
الزراعة والري
أما في مجال الزراعة فقد برع أسلافنا في الأندلس في فن الري وعلم الزراعة وجر المياه إلى الدور والحقول وغرس أنواع من الأشجار المثمرة مثل الزيتون- الليمون- الرمان- التين- التوت- النخيل، ونقلوا من الشمال الإفريقي ومن الشرق زراعة القطن- الرز- الزعفران- نباتات الزينة الياسمين- الورد بأشكاله- الريحان- العطرة وغيرها...
عبّر شاعرنا الكبير عمر أبو ريشة عن اعتزاز الأندلسيين بأصلهم العربي بأبيات رائعة من قصيدة (الأندلسية)
«قلتُ يا حسناءُ مَن أنتِ
ومِن أيِّ دوُح أفرع الغُصنِ وَطالا؟
قالت: أنا مِنْ أندَلُسٍ
جَنّةِ الدُّنيا عَبِيراً وظلالاً
وَجُدودي ألمحُ الدَّهْرِ عَلَى
ذِكرِهِم يَطْوي جناحَيْهِ جلالا
بُوركت صحراؤهُم كَمْ زخَرت
بالمرُوءات رياحاً ورمالا
حملوا الشرقَ سَناءً وسَنى
وتخطوا مَلعبَ الغَرْبِ نِضالا
فنَما المَجدُ على آثارِهم
وتحدَّى بعدَ مازالوا الزَّوالا»
الموشحات والذوق الرفيع
* نشأ فن الموشحات كما هو معروف في الأندلس، ابتكرها وبرع في نظمها العرب في القرن الحادي عشر الميلادي، فأصبحت مادة الغناء الشعبي لخفة أوزانها الشعرية وسهولة حفظها، وذكر ابن بسام في كتابه (الذخيرة)، وابن خلدون في (مقدمته) أن أول من وضع الموشحات شاعر ضرير من بلدة (قبرا) ويُدعى مقدم بن مُعافى القبري، ثم برع في هذا اللون عبادة الفرار، والشاعر المعتصم بن صمادح. والزجل الأندلسي كالموشحات فن شعبي يمتاز شعره بالرقة والبساطة في التعبير، ويتناول علاقة الحب والغزل والمدح والحماسة بأسلوب يتميز بالخيال الخصب.
وما دام الحديث عن البصمات الدمشقية في الأندلس ينبغي ألا نغفل أثر المتصوفة الأندلسيين أمثال الشيخ محيي الدين بن عربي ابن مدينة «مرسيه» فقد ألف كتباً عديدة منها «الفتوحات المكية وأسماء الله الحسنى».
وننتقل إلى البصمة الفنية الموسيقية فنذكر الملحّن الشهير« زرياب» الذي استدعاه من بغداد إلى الأندلس الأمير عبد الرحمن بن الحكم في النصف الثاني من القرن التاسع الميلادي، غادر زرياب بغداد إلى دمشق ومنها إلى الأندلس تصحبه ابنتاه (حمدونة وعُليَّة) وجاريتاه (مصابيح ومُتعة). فأصبح في قرطبة نديماً للأمراء ومغنياً وملحناً ومدرساً للموسيقا والغناء، كان تلميذاً لإسحاق الموصللي في بغداد وهو الذي أضاف إلى أوتار العود وتراً خامساً، وأول من استعمل ريشة الغزف مصنوعة من قوادم النسر، كان مشهوراً بأناقته وبحافظته النادرة يعزف ويغني أكثر من ألف لحن، أسس معهداً للموسيقا والغناء في قرطبة، وكان معلماً للذوق وأصول اللياقة في المآدب والحفلات، فنشر في الأندلس آداب الطعام والشراب وضيافتهما في المآدب، وتزيين الموائد وتطوير أزياء الملابس لما اشتهر به من ذوق رفيع وحسن مرهف وأناقة راقية، وذكر الدكتور خوان ڤيرنيه (أن الأمراء الإسبان والأشراف في مقاطعة قشتالة وليون حذوا حذو العرب في ألبستهم وتزيين قصورهم وترتيب موائدهم وتصنيف أطعمتهم)
عبّر أمير الشعراء أحمد شوقي بعد زيارته لإسبانيا عن فخره بأصله العربي:
بَنُو أميّةَ للأنباءِ ما فَتَحوا
وللأحاديث ما سادوا وما دانوا
عالينَ كالشَّمس في أطراف دَولتهم
في كلِّ ناحيةٍ مُلكٌ وسُلطانُ
لولا دمشقُ لما كانت طُليطلةٌ
ولما زَهَتْ ببني العباسِ بغدانُ
عمران وحضارة
تُعد «قرطبة» عاصمة النور في أوربا انطلقت منها الحضارة العربية الإسلامية إلى أوربة، تألّقت بالمكتبات العامة والخاصة، واستقطب مسجدها الجامع طلاب العلم من كل مكان، ضمّت مكتبته أربعمئة ألف مجلد، واشتهرت المدينة بحاراتها وساحاتها المضاءة ليلاً، وبكثرة حماماتها ورياضها وضواحيها ومنها «الرصافة» التي بناها هشام الأول تخليداً لذكرى جده هشام بن عبد الملك الذي توفي في رصافة بلاد الشام ببادية تدمر، وقد أضحت «الرصافة» اليوم متصلة بقرطبة لانتشار العمران والبناء وإلى اليوم يقف الزائر مذهولاً أمام أسوار المدينة وأحيائها العربية ودورها الدمشقية مروراً بمسجدها العظيم الذي تحول إلى بناء أثري باحتفال رسمي سنة 1986.
وتزهو «إشبيلية» بقصرها الكبير وحدائقه الفناء، ومئذنة مسجدها القديم المعروفة باسم (لاخيرالدا). وأجمل شواهد الإبداع المعماري في غرناطة «قصر الحمراء العريق» دُرّة قصور الأندلس الذي يخلب الألباب بقاعاته وقبابه وحدائقه الناضرة وصحونه الداخلية والخارجية المكسوة بالقيشاني الملون والمنقوش في جدرانها الأشعار والعبارات الجميلة مثل (لا غالب إلا الله). وهناك قصة طريفة مفادها أن شاعراً مكسيكياً معروفاً جاء إلى إسبانيا مع زوجته فجاء متسوّل مكفوف يطلب صدقة فما كان منه إلا أن هتف بزوجته بعفويّة:
أعطِهِ يا حبيبتي وأجزِلي لَهُ في العطاء
فلا توجد في الدنيا حسرة، ولا بلاءُ
أوجعُ من أن يكونَ الإنسان
أعمى في غرناطة
وقد نُقشت هذه الرباعية الشعرية الجميلة في صفحة جدار بقلعة غرناطة.
كما أن لدينا في دمشق أساطير شعبية يتناقلها الرواة، نجد في إسبانيا أساطير شعبية أيضاً أغنت التراث العربي فيها. وقد حُكي أن أحد كنوز العرب المهاجرين مدفون في قلعة «ماربيا» العربية بجوار القصبة القديمة، ومخبّأ في جرار من الفخار، وتناقل سكان البلدة منذ القديم بأن الذي يعرف مكان الكنز رجل عربي يُدعى (مصطفى) عاش في »ماربيا» في القرن الثاني عشر ومازال شبحه يزور الأطلال ليرشد من يجرؤ على التحدث معه، ولكن بشرط أن يدخل الرجل مغارة مصطفى، لكن الهدم طال بعض أسوار القلعة فانهارت معها المغارة، وأصبح مكانها ملعباً بلدياً في أيامنا.
آداب وعلوم
واليوم وبعد انقضاء خمسة قرون تقريباً على خروج العرب من الأندلس، يعترف الإسبان بأن الفتح العربي لبلادهم كان عنواناً للتسامح والرقي، وأنه كان ينبوعاً لحضارة أندلسية عربية مشتركة، أثراها أعلام الفكر العرب بأفكارهم ومؤلفاتهم أمثال (ابن رشد) الذي قال عنه العالم الفرنسي «رينان» في إحدى محاضراته: (لقد دخل ابن رشد جامعة السوربون في القرن الثاني عشر فاتحاً) والطبيب ابن زهر الشاعر صاحب الموشحات الجميلة ومن أشهرها: (أيها الساقي إليك المشتكى...) وقد نسبت خطأً إلى الشاعر العباسي «ابن المعتز» و«ابن طفيل الإشبيلي» صاحب رسالة حي بن يقظان والفيلسوف «ابن باجه» ومؤسس علم الاجتماع «ابن خلدون» والشاعر «ابن زيدون» والشاعرة «ولادة» والمتصوف «ابن عربي» وغيرهم. هم في نظرهم عرب إسبان أبناء حضارة مشتركة غَرْسُها عربي ومنبتها أندلسي، دلّ على ذلك الاحتفالان الرسميان في قرطبة الأول سنة 1961 تخليداً لذكرى انقضاء ألف عام على وفاة الخليفة الأموي عبد الرحمن الثالث، ورفعت فيه البلدية نصباً تذكارياً أمام أحد أبواب مسجد قرطبة، والثاني سنة 1963 تكريماً لذكرى الفيلسوف الكبير «ابن حزم» في المكان الذي ولد فيه بجوار سور قرطبة حيث أقيم له تمثال عظيم، أما الشاعرة «ولادة» والشاعر «ابن زيدون» فأقامت الحكومة لهما نصباً تذكارياً في الحديقة العامة المواجهة للمسجد الكبير والتي كانت جزءاً من حديقة القصر الأموي، وفي ضاحية «الرصافة» بالقرب من قرطبة شيدت الحكومة الإسبانية فندقاً سياحياً سمته (الرصافة)، أما ضاحية «الزهراء» التي بناها الخليفة «عبد الرحمن الثالث» نزولاً عند رغبة جاريته الأميرة (زهراء) والتي جعلها مدينة خيالية فقد أحرقها البرابرة. ولكن أعمال التنقيب والترميم فيها ماضية على قدم وساق منذ أعوام.
كتب الدكتور خوان ڤيرنيه في كتابه (بِمَ تدين الثقافة الحديثة لعرب إسبانية): [ إن من جملة الخدمات التي أدّاها العرب للثقافة هي نقل خبراتهم في أمور الملاحة البحرية وهندسة السفن وصنعها، ووضع الخرائط الجغرافية والمائية، مما جعلهم سباقين وروّاداً في معرفة الطقس وتقلباته، فإليهم يرجع الفضل في عبور المحيط الأطلسي، كما أنهم نقلوا إلى الأندلس صناعة الورق. وهذا ما ساعد على نقل التراث العربي إلى الغرب ونشر الذخائر الفكرية االنفيسة فيه]
لقد عبّر الشاعر العربي الأندلسي «ابن خفاجة» بأجمل الصور عن مشاعر الحنين إلى ربوع الأندلس:
إنّ للجنّة بالأندلس
مُجتلى مرأى وريَّا نَفَس
فإذا ما هبّت الريح صَبا
صِحتُ: واشوقي إلى الأندلسِ
وكان خير معبّر عن مشاعر العروبة في الوطن العربي الكبير.
المصدر : الباحثون العدد 67 كانون الثاني 2013