"إن الفنان لا يصور الواقع كما هو بعيداً عن ذاته؛ لأن مهمته ليست مجرد تقرير عن المعركة بل هو واحد من المناضلين له نصيب من المبادرة التاريخية والمسؤولية فهو مطالب: ليس بتفسير العالم فقط وإنما المشاركة في تغييره".
روجيه غارودي
والواقع، إن إدراك طبيعة النشاط الإبداعي الفني من أكثر المسائل استعصاءً على الفهم، لأن الفن شيء مبهم مجهول لاختلاف عناصره وتداخلها عند كل منتج له.
إن متذوق الأثر الفني (الجمهور) لا يشهد التجربة الفنية أثناء ولادتها وإنما يلاحظ نتائجها الأخيرة وعلى هذا يُجهل ما مرّ به الأثر الفني من مراحل وتبدلات قبل وصوله إلى الصيغة والصورة النهائية هذه، قد تكون مجهولة مسبقاً عن الفنان نفسه.
ولنعرّف الفن!. بكلمة واحدة: هو التعبير عن الحياة، بكل ما فيها من ممتع ومبهج ومأساة وألم.. أي كل المشاعر الإنسانية.
فالمصور والموسيقي والنحات والكاتب والشاعر والروائي والمسرحي كل منهم ينتج وفق ما يحسه ويتأثر به، في أوقات معينة، وذاتية خاصة فالشاعر يعبر بقصائده عمّا أحس به في حالة فردية فريدة وبروح لن تتكرر.
لقد ألح سارتر على أن الفن إبداع، والإبداع لا يتصل إلى بالشعور الخاص والخيال المطلق وعلى هذا فالفنان يبذل كثيراً من الجهد كي يحقق التكامل بين نفسه والمؤثرات الخارجية للعالم المحيط به.. أي أنه يندمج في الحياة، ويضفي عليها مشاعره ويطرح فناً ينبثق من الحياة نفسها لأن ذلك رؤية حدسية فاعلة (كرونشه).
وأسهل وسيلة لفهم الفن هي من خلال حياة الإنسان الذي شعر بحاجته إليه وسخّر طاقاته له. والفنان لا يعيش منعزلاً بل في بيئة (مادية ومعنوية) أرض ومجتمع، لهذا فإن تعبيره عن نفسه هو في الوقت ذاته تعبير عن ارتباطاته المتماسكة مع الأرض والناس.. وبقدر شدة هذا الارتباط بقدر ما يعكس نتاجه الفني صورة أصلية لأحاسيسه بغض النظر عن أسلوبه.
والفنان الأصيل هو الذي يستخدم هذه العلاقة الوظيفية بين فنه والناس المحيطين به، فيكون بحق فن الإنسان بكل وجوده وكيانه وبالتالي يدل على المستوى الحضاري للمجتمع، لأن الفنون بمظاهرها المتعددة هي مقياس حضارة الأمة.
شيء آخر: إن عصرنا الحالي يشهد صراعات بين الأفكار والأساليب المتعددة. والاستجابة للتيارات الحديثة تبدو حيوية وديناميكية، فالمتحمسون لرفض النزعات الجديدة ليسوا أكثر من المتقبلين لها. وهذا التطرف في الرفض أو القبول أو جدته مدنيّة العصر.
وعادة في كل تطور لا بد أن يكون هناك فئة من المتحمسين والمشجعين بالمقابل هناك المحافظون الذين يصعب عليهم التخلي عما ألفوه، لهذا فهم يتمسكون بالتقاليد، ونذكر أنه في معرض صالون الانطباعيين الأول 1876 هاجم الجمهور لوحاتهم بالشماسي، والعصيّ لأن الجديد الذي شاهدوه كان مفزعاً لهم، والواقع إن الفن المعاصر بما فيه من أساليب واتجاهات إبداعية لا تحصى قد جعل الفنان لا يثبت على نمط معين. ويكون التساؤل ما الجديد في أسلوبك؟.
مازلت على طريقتك.... مازال يكرر نفسه!.
في حين، إن الثبات على الأسلوب الفني كان من سمات الفن عبر العصور (الإغريقي، الفرعوني، النهضة، الروكوكو، الرومانسية....).
واليوم من العسير أن نضيف فناناً بأسلوب معين فترة طويلة، كما تفرع من الاتجاهات العامة شخصيات فنية بعدد العاملين في الفن، واليوم لم يعد هناك مدرسة أو أسلوب شامل للجميع.. وإنما شخصيات فردية.. كل فنان يتمتع بأسلوبه المميز. وكلما تفرد الفنان في أسلوبه أصبح مشهوراً أكثر.
والحقيقة، إن ما يتمتع به الفنان المعاصر من حرية فردية في أسلوب الأداء لشيء كثير وهذا ليس صدفة، وليس هبة من سلطة إنما نتيجة التطور وتحصيل حاصل للمبدأ: لابد من حل المشاكل التي تجابه الفنانين.
ومازال البحث جاداً ومعمقاً ومتشعباً في جزئيات مجددة، ويتخلى عن قيم وقواعد أساسية كانت ثابتة (النسب بين العناصر، النسب بالشكل، التصرف بالألوان، إلغاء الظل والنور.... الخ).
والشيء المهم أيضاً: إن الاتجاهات الحديثة لا تحل محل الأساليب الشائعة ولا تلغيها عن مسرح الحركات الفنية. وإنما تتكامل الصورة في تعايش جميع الاتجاهات والأساليب معاً، فنحن نجد أساليب بعدد العاملين في الفن....
وإذا تحولنا إلى الفن التشكيلي في قطرنا السوري، بحجمه المتواضع نرى بأن كافة الأساليب المعاصرة والمتداولة ممثلة بشكل أو بآخر بمظاهر متباينة.
ولكن من المهم أيضاً أن نأخذ بالاعتبار الآتي:
- إن عمر الحركة الفنية في سورية صغير نسبياً في إطار الحركة الثقافية العامة.
- كما تأخَّر النشاط الفني لظروف شتى: اجتماعية وسياسية فنظرة المجتمع المحافظ كانت تحد من انتشار الفنون.
- أيضاً، إن الاستعمار الفرنسي لم يكن يشجع ظهور الطاقات الإبداعية ورغم ذلك كان هناك بعض النشاط الفردي.
غير أن النشاط الرسمي بدأ عام 1950 في المعرض السنوي ويتبع ذلك الاهتمام الجدي بموجات البعثات الدراسية إلى شتى مصادر الدراسة الفنية في البلاد الأجنبية والعربية.
وهذا يعني أن الخبرة ومعرفة العمل في الفن مصدره أجنبي مستورد (أي التقنية) ولكل مصدر مستواه ونوعيته مما كان له أثر مباشر على الشكل الذي تبدو فيه الحركة خلال النصف الثاني من القرن الماضي وهذا من حسن المصادفة أن تتنوع الخبرات بشكل مباشر أو بالواسطة عمن درس في الخارج. ومازال هذا مستمراً حتى الآن.
- إن تأخر الحركة التشكيلية في القطر جعلها لا تمر بمراحل تاريخية متسلسلة كما جرى في بلاد العالم وإنما انطلقت من حيث وصل العالم.
- ففنانونا اليوم هم الرعيل المتقدم يمارسون الإبداع في تنوع فسيفسائي من حيث الأساليب.
ولكي تتكامل الصورة سنستعرض أبرز الوجوه الرائدة في أساليب عملها:
الأسلوب الواقعي: جمهرة كبيرة من الفنانين يؤدون أعمالهم وفق هذا الاتجاه ويتميز الواحد منهم عن الآخر بدرجات. والأسلوب الواقعي لا يصل إلى مستوى الفنان الفرنسي الذي حمل هذا الاتجاه.
إن محمود جلال يعتبر أبرز الفنانين الواقعيين إلا أن أعماله تبدو مبسطة وهادئة.. غير أن الفنانين الواقعيين الذين حملوا وجهاً مجدداً معتمدين على قسط من الحرية والجرأة التي أوجدتها المدارس الحديثة. كالاعتماد على الخط بشكل واضح وبمرونة عجيبة كما مارسه لؤي كيالي.
غير أن أبرز الأساليب التي احتلت مكانة شبه رسمية (الانطباعية ) وأول من بشّر به ميشيل كرشه غير إنه لم يحافظ عل انعكاسات النور على العناصر مع اتجاه الضوء وركز على فكرة الموضوع العام.
بيد أن نصير شورى في الخمسينيات كان أكثر التزاماً وخاصة بالمناظر الطبيعية.
ومن الاتجاهات البارزة: ذاك البحث الجاد للربط بين الفن العربي التراثي والأساليب الحديثة، هذه المحاولة سبقنا إليها فنانو العراق ومصر والمغرب العربي.. وكان أدهم إسماعيل يسعى في جهد مبكر لإيجاد فن عربي من خلال عالم لوني جمالي شبه مجرد وعلى خط منحنٍ من (الأرابيسك).
وهناك أيضاً محاولة البحث الفني بقيَم الخط والكتابة العربية بدأها محمود حماد في جهد كبير. عالج الخط العربي كأداة تعبيرية جمالية. اعتمد على توازن الكتل في الكلمات المقروءة على أرضية ذات مساحات مبسطة.
هناك من سعى للربط بين الأساليب الحديثة وحضارة الأرض العربية لتأكيد التواصل التاريخي قام بها فاتح المدرس معتمداً على الشكل (شبه المشبه) في وقفة التعبد التقليدي عند العموريين واستخدام حلول تجريدية وتأثيرات بدائية جعلت أعماله بحاجة إلى تأمل لإدراكها.
كما أن الأسلوب التجريدي لاقى انجذاباً وهوى لدى الكثير وخاصة الفنانون الشباب لسهولة الأداء وسرعة التنفيذ.
أما انعكاسات السريالية فكانت واضحة في أعمال روبير ملكي وعدنان ميسر، إلا أنها تبقى بعيدة عن احتوائها كامل أسس السريالية (التغريبية) التي تنقلك إلى آفاق بعيدة التصور.
أما فن النحت فكان حضوره محدوداً، وكانت الخسارة فادحة بوفاة الفنان فتحي محمد الذي عاش 8 سنوات في روما يكتسب الخبرة. وكان يُنتظر منه أن يؤسس مدرسة للنحت بالمعنى الكامل. وأهم عمل قام به تمثال عدنان المالكي بدمشق في حين يبرز محمود جلال معلماً كبيراً في تمثال ابن رشد والاتحاد (المتحف الوطني) ولوحة الشهيد (طريق المجد) بالنادي العربي كما أنجز الشخصيات التمثيلية في قصر العظم بدمشق.
وبرزت أعمال جاك وردة في تماثيل النسوة في طبيعة جمالية رائعة بالإضافة إلى عدنان أنجيلة الذي اهتم بالريفيات وكان رائعاً باهتمامه بإبرازهن بملابسهن المزركشة. غير أن إنتاجه كان محدوداً في الحركة التشكيلية السورية.
تواريخ أو محطات لا بد من ذكرها
1929- أقيم أول معرض للفن في جامعة دمشق ضم أعمال (توفيق طارق – ميشيل كرشة والزنبركجي).
1936- أقيم معرض دمشق لأول مرة عند انتهاء بناء التجهيز (مدرسة جودة الهاشمي) وضم قاعات فيها لوحات ورسوم.
1936- سافر مجموعة من الشباب للدراسة على نفقتهم الخاصة إلى ايطاليا (غالب سالم محمود جلال، صلاح الناشف رشاد قصيباتي ولكل منهم قصة في تكاليف الدراسة).
1950- أقيم أول معرض للفنون الجميلة في المتحف الوطني بتنظيم من مديرية الآثار برعاية رئيس الجمهورية شكري القوتلي وعشاء في حديقة المتحف، وهكذا انطلق التقليد (المعرض السنوي) المستمر حتى اليوم.
1953- أوفدت وزارة المعارف (التربية) أول بعثة لدراسة الفنون إلى أكاديمية الفنون الجميلة في روما ضمّت كلاً من محمود حماد وممدوح قشلان.. وتوالى سنوياً إيفاد المجموعات للدراسة في الخارج ومازال حتى اليوم.
1958- إثر قيام الوحدة بين مصر وسورية (الجمهورية العربية المتحدة) تأسست وزارة الثقافة في سورية (الإقليم الشمالي) ومهامها الاهتمام بجميع الفنون.
1959- تأسس المجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون الاجتماعية ومن مهامه دراسة الاقتراحات والتوجيهات لتطوير الفنون.
1960- تأسست كلية الفنون الجميلة بدمشق وللمقارنة (كلية الفنون في القاهرة 1908 – بغداد 1938).
1969- تأسست نقابة الفنون الجميلة كمنظمة شعبية للاهتمام بالشؤون التنظيمية للفنانين ورعاية مصالحهم والمشاركة بالنشاط الفني وتطويره.
1970- تأسيس عدد من معاهد إعداد المدرسين في الفنون والموسيقى.
1971- عُقد أول مؤتمر للفنانين التشكيليين العرب في دمشق بدعوة من نقابة الفنون الجميلة في سورية وانبثق عنه الاتحاد العام للفنانين التشكيليين العرب.
1980- تأسيس صالة إيبلا للفنون الجميلة (قطاع خاص) لتفعيل الحركة التشكيلية بالمستوى الرفيع.
وكان قد سبقها بسنوات صالات الفن العالمي الحديث 1958 والصوان وأوريننا 1971 ولكنها لم تستمر طويلاً....
وهكذا فإن الصورة الحالية بالموازنة مع التيارات في العالم تعتبر الحركة السورية شخصية فنية وذات هوية محلية متنامية.
المصدر : الباحثون العدد 67 كانون الثاني 2013