مابين المعرفة الواعية، والمعرفة المؤدلجة تضيع الحقائق وتضطرب المشاعر وكذلك الأفكار، من دواعي كتابتي لهذا المقال اختلاط الأوراق الذي بات واضحاً في التعامل مع مشكلة الواقع السوري السياسية، والتي أوصلتنا إلى حد الهلوسة ببعض الأصوات والتصريحات التي لا تكل ولا تمل من إعطاء تفسيرات، وإبداء خطط واقتراح مبادرات.. وما بين هذا وذاك على أرض الواقع فما علينا إلا عدّ للشهداء من الضحايا المدنيين وحتى العسكريين الأبرياء أيضاً وترقيم المدن والبلدات المنكوبة..
التمييز بين نوعي المعرفة التي تحكمنا: وأين نحن من كلّ منها
للخوض بهذا المبحث، لابد من توضيح المفاهيم :
أرغب في البدء بالحديث عن "المعرفة الواعية المعتمدة على المنهج العلمي" الذي نفتقدها في معطى تعاملاتنا والأشد خطورة لها، إغفالها في تنشئتنا للأطفال، ونحن في القرن الحادي والعشرين عصر العلم والمعرفة التي تنهال علينا من كل صوب، ونحن نحيد عنها النظر، ونغض السمع ونؤثر الطاعة.. ولكن هل باتت الطاعة للجهل، هو ما ننجذب له، ونخاف الانعتاق منه؟.
حقيقة لست من هواة الحديث المتشائم، ولست من دعاة الحديث النظري بعيداً عن الواقع، ولكن هذا المبحث الذي يسيطر على ذهني مؤخراً، هو بحد ذاته مدعاة لليأس من هول المصاب الذي نقف عليه، ونسير عبره.
أما بعد سوف: أبدأ بتعريف كلاًّ من المعرفة الواعية والمعرفة المؤدلجة وفق ما يلي:
1- سمات المعرفة الواعية: تتمثل من كونها معرفة فاعلة، تغير وتبدل وتؤثر وتتأثر، لذلك فإن النموذج الواعي، لا يرتبك إزاء التحولات والتبدلات، إنما يستطيع أن يحافظ على توازنه، ليقيّم الأوضاع تقييماً سليماً.. ولما كان الوعي متصلاً بالمنهجية للوصول إلى الحقيقة، فيكون وفقاً لذلك المنهج العلمي، هو أداتنا للوصول إلى المعرفة، يعني ذلك أننا لابد أن ننتهج المعطيات التي نجمعها من خلال حواسنا، وذلك من خلال قربنا من المحيط، الذي يسعى إلى المعرفة الواعية حول ذلك الأمر، الذي يستدعي منا ضرورة البحث والتقصي، في سبيل مقاربة الحقائق العلمية وتطوير مناهج البحث والكشف والاستكشاف، وتأصيل وعقلنة المقاييس والأحكام، ليكون أكثر دقة وأكثر قدرة على تشخيص الحقائق، وبذلك بانتهاجنا للمعرفة الواعية، نكون أكثر قدرة على الاستمرار والتألق، والأهم أننا نكون أكثر مصداقية مع أنفسنا والآخرين، حيث طريق المنهج العلمي في التفكير للوصول إلى الحقائق تعتمد المواجهة، وليس الهروب وتحوير المعطيات وتأويلها لحساب طرف دون آخر، حيث من يتبع هذه الطريقة في المعرفة، يتقبل ويجهد للنهوض بواقع الحال، في حال سوء المآل... ليبقى يسعى بدون ككل، وغير مقتنع بالصدفة إلا كحجة لعدم اكتمال الأسباب، ومن كون النموذج الواعي للمعرفة مرتهناً بمنهجه الذي يتطور بدوره ليتواصل مع العلم، ويفتح كل سبل التواصل، غير هيّاب ولا خائف. لغته موحدة متجانسة صريحة، متوافقة منسجمة يستطيع التواصل معه بسهولة، حيث من خلال اعتمادنا المنهج العلمي في معرفة الحقيقة، يمكننا كشف مثالبنا قبل مثالب الآخرين، كما يساعد هذا المنهج في التفكير على تأصيل ما لدينا من صفات، إذ يجعلنا بذلك نضيف علم الآخرين إلى علمنا، فنأخذ ما نراه مناسباً عبر تحولات منطقية واضحة مدعومة بالدلائل والبراهين، ومبنية على المعطيات العلمية في اتساعهما المستمر..
2- سمات المعرفة المؤدلجة: تتسم بالانفعال حين التعاطي مع الموروث العلمي، وبذلك تكون المعرفة المؤدلجة تعيش مع مخاوف وهواجس تجاه المعرفة، بحيث تحرم من يتبعها من اتخاذ تدابير متوازنة، وبذلك تكون المعرفة هذه من كونها انفعالية لا تميز الأفراد، ولا المجتمعات بل تبقى أسيرة أسس وقواعد تؤطر رؤيتها فالتفكير الأيديولوجي هو نوع من التثبيط الفكري، لأنه يتعاطى مع العلم ضمن قيود وظروف ومصالح آنية، حيث أن الأيديولوجيا ورغم أنها تنطلق من نظرة عقلانية تتبع العقل عند تأسيسها، فإن النموذج المؤدلج مهما اتسعت معارفه فلا يستطيع الخروج من ضيق أفقه، لأنه يحيل هذه المعارف إلى مقاييس وأحكام ثابتة وفق ما يعرف بالسياسية طريقة "بروكوست"
ولمن لا يعرف "بروكوست " فهو شخصية أسطورية، كان من قطاع الطرق، ففي حال كان ظفر بضحيته مددها على السرير، فإذا كانت أقصر منه مطّها حتى تصبح بطول السرير، وإن كانت الضّحية أطول من السّرير قصها، فتزهق روح الضّحية في كلتا الحالتين، إلا من كان بطول السّرير نجا من شر "بروكوست"..
وبذلك المعرفة المؤدلجة دائماً هي في مواجهة محمومة، مع كل ما يعارضها حتى لو كان علماً، لأن دأبه يتحول من تتبع المعرفة والعلم، إلى إخضاع المعرفة والعلم للمعتقدات والفرضيات، التي تكوّن الأيديولوجيا التي يتبعها، بحيث تعدو هذه المعرفة متناقضة باستمرار كلغة حوار، من حيث أنها متزمتة، تفضي بحوارها إلى حالة دوغمائية اتكالية تابعة، تجعل متتبعها مرات ينزل إلى الحضيض ليركب مركبها إن هبطها، ولا يستطيع رفعه وشده للأعلى...
على حين النموذج الذي يتبع الوعي، والمنهجية العلمية يفضي بذلك إلى الإبداع والحضارة، وإلى مدارج السمو والرفعة والسعادة، والأهم ما يفضيه من طمأنينة وعدم عيش التناقض، وهذا ما نجده اليوم واضحاً في أحاديث رجال الأنظمة السياسية التي تتحفنا يومياً بتأويلات ضيقة قاصرة منفعلة، وكذلك بعض رجالات المعارضة المتوتري الحضور، وكذلك هذا الحال نجده عند رجال الدين، الذين يحاولون أدلجة الإسلام رغم أن الإسلام لا يتحمل تبعية من يؤدلجونه، تبعاً لمعرفة مسبقة، والمتمعّن بعلوم الدين الإسلامي، وروح الفكر الإسلامي يجد أنها تحث على الاجتهاد، والبحث في آليات الآفاق والأنفس، وتأمل مظاهر الكون وتعليلها تعليلاً وفقاً للقرآن والسنة..
وهناك آيات قرآنية عدة تدعم ذلك من مثل قوله تعالى: «وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُم ْتَتَّقُونَ» [البقرة: 179] وقوله تعالى: «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ» [فاطر: 28] وغيرها.
مشاكل المهتمين بتطوير السلوك الحضاري
من هنا أجد أن مشكلتنا من اليوم كمهتمين بتطوير السلوك الحضاري لبلادنا، وكتربويين معنيين بمواكبة المعارف والعلوم وإدراجها في المناهج المقدمة لناشئتنا، تتجسد بحصر هذه المؤثرات والتخطيط لكيفية العمل على خلق جيل واعي، بهذه التوجهات للتكيف بالحياة العصرية، حتى لا نبقى مغردين خارج الزمن، وفقط نتباكى ونتشاكى لبعضنا من ظلم الزمن والأمم لنا ولقضايانا، والحلول دائماً بالاهتمام بالسياسات التربوية التي تعنى بالإنسان من كون غاية الاستثمارات اليوم هو الاستثمار في الموارد البشرية، وهذا ما سمعناه مؤخراً يردد ويشدد عليه في البرامج الانتخابية لأكبر دول العالم من المرشح الجديد لرئاسة أمريكا، وما لفت له خطاب الرئيس الفرنسي مؤخراً من إشارته للاهتمام بانتشار اللغة الفرنسية والاهتمام بالناطقين بها والعناية بهم من كونهم يمثلون وجه فرنسا الجديدة، من هنا التعاطي السياسي اليوم يفترض أن له أجندة عملية مقنعة تحترم العقل ويطمئن لها الفؤاد، وليست مهاترات وتحديات وإشهار المدافع والقذائف ولمن لا يملكها أطلاق السباب والشتم، ليكاد يكرس لدينا أن من الصفة الأساس للتعاطي السياسي في بلادنا الجرأة لحد الوقاحة والارتجال ومصادرة الكلام من الآخر لنخرسه، إلا أن الأوان لتغيير هذه الواجهات، وقناعتي أن هذا لن يتحقق ويعاش ما لم تقم التربية بدورها الفاعل في تنشئة الفرد نشأة واعية، ليكون فرداً واعياً بحقوقه ومن ثم واجباته، ويحمل الآثار الإيجابية للنموذج الواعي، وبنبذ الآثار السلبية للنموذج المؤدلج، ومن هنا تجدر الإشارة إلى أن تنوع مصادر تربية الفرد، وتعدد فنونها لا تكون إلا من خلال نشر الوعي الأكثر دقة والأكثر مسؤولية من قبل مؤسسات المجتمع المدني، والأنظمة الديمقراطية الحديثة..
وذلك إدراكاً للخطورة من سيطرة مصدر واحد على التربويين، واستبعاد المآخذ الأخرى من خلال النقل فقط عن ثقافة الآخرين، حيث أن اقتصار الأخذ بالمعرفة المنهجية في التنشئة التربوية، يشكل عقبة عسيرة أمام طموحاتنا لمجتمع مزدهر منفتح مواكب لمسيرة العلوم، لا أن يبقى زاحفاً وراءها لا يمكن له أن يلتقي بها...
وهنا لابد من الإشارة إلى أن التربية ليست فقط تحصيل معارف وقيم، بل هي بناء شخصية خلاّقة لها المقدرة على تمييز المعارف والقيم، من خلال إخضاعها للمنطق والمحاكمات العقلية، ليتاح لهذه المعرفة المتحصلة أن تثمر وجوداً إبداعياً، عبر مسيرة التاريخ الحديث، وبعيداً عن التنظير. هذا الذي لن يكون إلا من خلال تناسق الفكر والعمل عبر هذه المعرفة الممنهجة للوعي.
إن ارتباط العمل والفكر سمة أساسية من سمات الوعي، وهنا يمكن لنا أن نعيش نعمة العطاء الفكري، لا نقمته حسب قول الشاعر المكرس في بلدنا:
ذو العقل يشقى بالنعيم بعقله.. وأخو الشقاوة بالجهالة ينعم
من خلال إبرازنا، أن غاية كل ثقافة يتمثل بفتح مسارات الإبداع، لأن قتل روح الإبداع يعني: عطالة المجتمع وعقمه وعجزه ثم نكوصه، ليصبح بذلك عالة على غيره، كما هو واقع حالنا اليوم، من هنا فإن النظر إلى الثقافة بنظرة شمولية من خلال ربطها بمختلف مجالات العمل والفكر والواقع، بطريقة تكفل للثقافة تحسنها باستمرار، بالاعتماد على القدرات الذاتية ما أمكن لذلك سبيلا، من كون التنشئة الفكرية ضرورية للنهوض من العثرات أو الاستمرار في مسيرتنا بدون عثرات تذكر، حيث أن معظم مشكلاتنا الرئيسية المتصلة بالسلوك اليومي، لا يمكن أن تحلّ بواسطة التكنولوجيا الفيزيائية، والبيولوجيا وحدها، الأمر الذي نحتاجه وفقاً "لسكنر" الذي يوضحه في كتابه تكنولوجيا للسلوك، من أننا كنا بطيئين في تطوير العلم الذي يمكن أن تستمد منه مثل هذه التكنولوجيا، فالعلوم السلوكية بصورة عامة كانت بطيئة التغير، لأن المكونات التفسيرية كثيراً ما تبدو ملحوظة على نحو مباشر، كما أن للبيئة جانب كبير من الأهمية، ودورها ظل مبهماً أو خفياً، فهي لا ترفع أو تسحب بل تصطفي وتختار، ومن الصعب أن تكتشف هذه الوظيفة، وتحلل من حيث أن دور الاصطفاء الطبيعي في التّطور لم تتم صياغته، إلا منذ ما يزيد قليلاً على مئة عام. الدّور الاصطفائي للبيئة في تشكيل وحفظ سلوك الفرد، لا يمكن أن يتحقق إلا ببدء مرحلة الاعتراف به من خلال دراسته، وما نجده إنه عندما أصبح التفاعل ما بين الكائن الحي، والبيئة مفهوماً ومعمولاً عليه بكثرة في العصر الحديث، ، بدأت النتائج التي كانت تعزى إلى حالات الذهن، وإلى المشاعر والسمات ترتد إلى تردي الظروف التي يمكن التعرف عليها....
المراجع
- مفهوم الأيديولوجيا، عبد الله العروي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء،1983.
- مدارس التحليل النفسي مجموعة مؤلفين، ترجمة: وجيه أسعد، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق 1992م.
- تكنولوجيا السلوك الإنساني، تأليف: ب، ف – سكينر، ترجمة: د. عبد القادر يوسف، مراجعة: د. محمد رجا الريني، سلسلة كتب ثقافية شهرية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويت، عدد 32.
- ثقافة الطفل بين التغريب والأصالة، د. مصطفى حجازي وآخرون، المجلس القومي للثقافة العربية، الرباط: 1990م.
- مسؤولية المفكر العربي إزاء قضية الطفولة، مجموعة من المؤلفين، معهد الإنماء العربي، بيروت، 1990م.
- نحو فلسفة تربوية عربية، د. عبد الله عبد الدّايم، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1991م.
المصدر : الباحثون العدد 67 كانون الثاني 2013