يُعدّ الروائي الكولمبي غابرييل غارسيا ماركيز من الأسماء الهامة في مسيرة الرواية والقصة القصيرة في العالم، حيث تتمتع هذه الأعمال بإقبال جيد من قبل مختلف شرائح القراء، ذلك أن القارئ يستمتع بالدخول إلى عالم هذا الروائي، وبالتالي يتعرف على جمالية المشاعر الإنسانية وهي تقاوم نزعات الشر التي يواجهها سواء من نفسه، أو من قبل الآخرين.
ليس باليسر العثور على كاتب حي متعلق بالحياة على قدر الكاتب غابرييل غارسيا ماركيز، وهو من الروائيين الذين أسهموا في إغناء فن السرد الروائي في العالم، والذي استطاع أن يحقق جائزة نوبل للآداب سنة 1982.
يتمتع أسلوب ماركيز بلغته الشعرية التي تدخِل القارئ إلى رحابة سحرية الحدث الذي يتناوله في عمله الروائي، هذا الأسلوب الذي يقول ماركيز بأنه اكتسبه من قراءته لعمل/ ألف ليلة وليلة/ ثم طوّره من خلال قراءته لأعمال فرانز كافكا.
سيمفونية الحياة
من خلال قراءة أعمال ماركيز ينتابنا شعور بأن خيوط الرواية تتشكل لتؤرخ إنساناً في موقف، تؤرخ موقفاً في إنسان، تؤرخ المجد وكذلك تؤرخ الفشل، كل هذه الصيحات الروائية المدوية في عالم الإبداع الأدبي هي دموع تنهمر من ضمير الإنسان ومن روحه، تحاول أن تُلفت النظر إلى رؤية هذا الإنسان، إلى اللحظات القصيرة التي تحمل أحداثاً لا يلتفت إليها أحد، أجل فإن وظيفة الرواية تكمن في مقدرتها على أن تجعلك تلتفت لوقائع مرت وفاتك أن تتأملها، وهي بذلك تمنحك هذه الفرصة الذهبية مجدداً.
الواقع، إن الموهبة وحدها لا تكفي ليقدم الموهوب رواية جيدة، ولكن ثمة تفاصيل لا يراها ولا يلمسها ولا يحياها إلا المبدع نفسه، ثمة أسرار لا تنكشف إلا أمام روح المبدع ذاته، إنه يمتلئ بالعالم والحياة مع كتابة كل صفحة جديدة.
إن الرواية هي هواه الوحيد وعندما يبعد عنها يشعر بأنه خسر العالم برمته لذلك يهرع عائداً إليها بحرقة وألم وهو ينفجر ندماً على تركه لها فيقدم لها الاعتذار ويطبع على جبينها قبلات ساخنة.
تنير الرواية الدروب أمام الروح، تفسح هامشا أوسع للرؤية، لرؤية ما لا يُرى.
الكلمات الروائية هي القناديل العالية المعلقة في دروب البشر، إنها القناديل الكبرى وهي الرشيد إلى نهارات لا تنتهي من الضوء، والكاتب الذي يشتغل في الكلمات المضيئة، هو شخص يضيء ويمتلئ إشراقاً وحياة.
يتبيّن للقارئ أنه يقبل على حب الحياة، ورغم تقدمه في السن، فهو كل يوم جديد يزداد حباً وتمسكاً بالحياة، ويكتشف مزايا جديدة.
ولعل تمسكه العنيف بالحياة خلّف رعبه الشديد من الموت..
فالحياة تنبض في ثنايا سطوره.. وهو بكل إمكاناته اللغوية والفنية والتقنية يجنب شخوصه الموت حتى تنتصر إرادة الحياة.
ويكاد الموت يختفي في إبداعاته الروائية والقصصية، وهو من أشد المدينين للحروب مهما كانت أسبابها ودوافعها. يعلق ماركيز على هذه القضية قائلاً: "أنا لا أخلق شخصياتي ليموتوا.. أخلقهم ليعيشوا". ولكن ليس بوسع ماركيز عدم الاعتراف بالموت وعندما يضطر لقتل أحد شخوصه لن يحدث ذلك ككتابة أي مقطع آخر.
تقول "مرسيدس" زوجة ماركيز بأنه في رواية (لا رسالة لدى الكولونيل) أطلق صراخاً ثم هرب من غرفته شاحباً مرتعداً، وعندما سألته عما حدث.. أجاب بإرباك كمن عاد للتو من اقتراف جريمة مروعة: "لقد قتلت الكولونيل الآن".
يعلق ماركيز في ذات الرواية، لكن على لسان ساعي البريد بقوله: "إن الشيء الوحيد الذي يصل دون خطأ هو الموت". ويمكن ملاحظة موقع الموت من موقع الحياة في عناوين رواياته الأكثر شهرة وبروزاً. فالموت يعني عكس الحياة.. فعندما يقول: "الحب" فإنه سيضيف: "في زمن الكوليرا"، وعندما يقول: "أجمل رجل "يضيف: "غريق"، وهكذا: الجنرال.. في متاهة- وقائع موت معلن- مأتم الجدة العظيمة - مئة عام من العزلة - الساعة الرديئة – الحب وشياطين أخرى.
مئة عام من العزلة
تُعد روايته/ مئة عام من العزلة من أشهر رواياته، وقد رشحت اسمه بقوة أما لجنة جائزة نوبل التي قررت منحها له على هذا العمل الروائي الهام الذي يُعتبر من المنجزات الروائية المعاصرة.
فهي رواية تتغلغل بالحياة والمشاعر الإنسانية، ويقف القارئ أمامها كما لو أنه يقف أمام مرآة الذات البشرية.
في رواية مئة عام من العزلة التي يعدها النقاد ومتذوقو فن الرواية حدثاً هاماً في مسيرة الرواية المعاصرة، يأخذنا ماركيز إلى حياة أسرة في أمريكا الجنوبية نتابع وقائعها عاماً بعد عام منذ مؤسسها الأول الذي يطمح أن يحول التراب فيها إلى ذهب، مروراً بالشخصيات السحرية، وحتى آخر المحررين/ سيمون بوليفار/.
إن رعب الموت يدفع الأم لتتحسّس بمقتل ابنها وهي بعيدة عنه أميالاً، وترى دمه ينزل من أعلى السفوح والتلال.. يسير عبر الطرقات الملتوية إلى أن يصل إليها، ورغم مرور عشرات/ إنني أرفض أن أخلق أبطالي وأدعهم يتطورون كي يموتوا فقط، إنني لا أخلقهم من أجل هذا الغرض.. إنهم يتطورون كي يعيشوا، لكن فجأة يظهر هذا الموت المقيت ويفسد كل شيء/.
ثمة شخصية أخرى في مئة عام من العزلة تلخص مسألة حرية الإنسان "ريميديوس" الجميلة.. إحدى حفيدات الأسرة وهي تسحر الرجال بجمالها وترفض الزواج من جميع الذين يتقدمون إليها، ولكنها تقرر الهرب مع مَن تختاره، وعندما تكشف الأسرة هذه الواقعة، فإنها تعلن أن أحدهم رأى ريميديوس الجميلة ترتفع إلى السماء عندما كانت تطوي ملاءات السرير. وأيضاً يمكن ملاحظة الإصرار على الحياة والحب في روايته "الحب في زمن الكوليرا" فلورانيتو ينتظر أن يتزوج فيرمينا حتى يبلغ سن السبعين.. لم يمت فلورانيتو.. ولم يذهب انتظاره عبثاً.
يقول ماركيز مرة أخرى في محاولة قول ما لم يتمكن من قوله في رواياته:/ لا أحد يموت سعيداً حتى أن معظم الناس لا يموتون وقد استبد بهم الغضب والاستياء واستاؤوا أشد الاستياء لكونهم يجب أن يموتوا.. وقد تبيّنت لي دائماً الحقيقة التالية عندما يموت إنسان عزيزاً فإن الشعور الرئيسي الذي يحس به أهل المتوفى هو شعور الغضب والاستياء إذ إن موت إنسان هو خسارة لا يمكن تعويضها إطلاقاً/. يبقى الإبداع هو الوسيلة الكبرى لمواجهة الموت، فيكتب ماركيز بمشاعر الإنسان المحب للحياة الذي يريد أن يقدّم شيئاً مجدياً يضيفه إلى سلسلة المنجزات التي ورثها عن أجداده. وفي هذا يصرّح ماركيز مرة أخرى/ إنني أكتب كي يزيد الناس من حبهم لي/. وهنا يلتقي مع نيتشه الذي رأى/ الفن ولا شيء إلا الفن، فنحن لدينا الفن كي لا نموت في الحقيقة/.
الحياة عبر الكتابة.. الكتابة عبر الحياة، وعندما يموت الإنسان سيكون قد خسر حياته لكنه لن يخسر أفكاره وشخوصه. يعبر ماركيز عن حبه للحياة قائلاً/ أنا مولع بالحياة.. الحياة هي أفضل ما وجد على الإطلاق.. بهذا المعنى يبدو لي الموت شيطاناً رهيباً.. إن الموت بالنسبة لي هو النهاية، انتهاء كل شيء، إنه أكبر مصيدة على الإطلاق/.
رسـالـة من ماركيـز
مع نهاية عام 2008 وماركيز يعانـي من المرض، وجه رسالة إلى أصدقائه، وهي رسالة مؤثرة، وتكاد تلخص نظرة ماركيز إلى الحياة.. يقول:
لو وهبني
الله حياة أطول لكان من المحتمل ألا أقول
كل ما أفكر فيه، لكنني بالقطع كنت سأفكر
في كل ما أقوله.
كنت سأقيّم الأشياء ليس وفقاً لقيمتها المادية، بل
وفقاً لما تنطوي عليه من معان.
كنت سأنام أقلّ، وأحلم أكثر
في كل دقيقة نغمض فيها عيوننا نفقد ستين ثانية من النور،
كنت سأسير بينما يتوقف الآخرون.
أظل يقظاً بينما يخلد آخرون للنوم،
كنت سأستمع بينما يتكلم الآخرون.
كنت سأستمتع بآيس كريم لذيذ بطعم الشكولاتة.
لو أن الله أهداني بعض الوقت لأعيشه كنت سأرتدي
البسيط من الثياب،
كنت سأتمدد في الشمس تاركاً جسدي مكشوفاً
بل وروحي أيضاً.
يا إلهي...
لو أن لي قليلاً من الوقت لكنت كتبت بعضاً
مني على الجليد وانتظرت شروق الشمس.
كنت سأرسم على النجوم قصيدة 'بنيدتي' وأحلام 'فان كوخ'
كنت سأنشد أغنية من أغاني 'سرات'
أهديها للقمر، لرويت الزهر بدمعي، كي
أشعر بألم أشواكه، وبقبلات أوراقه القرمزية
يا إلهي...
إذا كان مقدراً لي أن أعيش وقتاً أطول،
لما تركت يوماً واحداً يمر دون أن أقول للناس
أنني أحبهم، أحبهم جميعاً،
لما تركت رجلاً واحداً أو امرأة إلا وأقنعته أنه
المفضل عندي،
كنت عشت عاشقاً للحب.
كنت سأثبت لكل البشر أنهم مخطئون لو ظنوا أنهم
يتوقفون عن الحب عندما يتقدمون في السن،
في حين إنهم في الحقيقة لا يتقدمون في السن
إلا عندما يتوقفون عن الحب.
كنت سأمنح الطفل الصغير أجنحة
وأتركه يتعلم وحده الطيران
كنت سأجعل المسنين يدركون أن تقدم
العمر ليس هو الذي يجعلنا نموت
بل: الموت الحقيقي هو النسيان.
كم من الأشياء تعلمتها منك أيها الإنسان،
تعلمت أننا جميعا نريد أن نعيش في قمة الجبل،
دون أن ندرك أن السعادة الحقيقية تكمن في
تسلق هذا الجبل،
تعلمت أنه حين يفتح الطفل المولود
كفه لأول مرة تظل كف والده تعانق كفه إلى الأبد،
تعلمت أنه ليس من حق الإنسان أن ينظر إلى الآخر،
من أعلى إلى أسفل، إلا إذا كان يساعده على النهوض
تعلمت منك هذه الأشياء الكثيرة،
لكنها للأسف لن تفيدني
لأني عندما تعلمتها كنت أحتضـر..
عبِّر عما تشعر به دائماً،
افعل ما تفكر فيه..
لو كنت أعرف أن هذه ستكون المرة الأخيرة التي
أراك فيها نائماً،
لكنت احتضنتك بقوة،
ولطلبت من الله أن يجعلني حارساً لروحك.
لو كنت أعرف أن هذه هي المرة الأخيرة
التي أراك فيها تخرج من الباب لكنت احتضنتك،
وقبلتك، ثم كنت أناديك
لكي احتضنك وأقبلك مرة أخرى.
لو كنت أعرف أن هذه هي آخر مرة أسمع فيها صوتك
لكنت سجلت كل كلمة من كلماتك
لكي أعيد سماعها إلى الأبد.
لو كنت أعرف أن هذه هي آخر اللحظات
التي أراك فيها لقلت لك 'إنني أحبك'
دون أن أفترض بغباء أنك تعرف هذا فعلاً..
الغد يأتي دائماً، والحياة تعطينا فرصة لكي نفعل
الأشياء بطريقة أفضل.
لو كنت مخطئاً وكان اليوم هو فرصتي الأخيرة فإنني
أقول كم أحبك، ولن أنساكم أبداً. ما من
أحد، شاباً كان أو مسناً، واثق من مجيء الغد،
لذلك لا أقلّ من أن تتحرك،
لأنه إذا لم يأت الغد، فإنك بلا شك
سوف تندم كثيراً على اليوم الذي كان
لديك فيه متسع كي تقول أحبك،
لن تبتسم لأن تأخذ حضناً أو قبلة
أو تحقق رغبة أخيرة لمن تحب.
تحقق أي رواية في العالم الخلود علـى قدر ما تتفوح بروائح تربتها لأنها تقدم زمناً وأرضاً ومجتمعاً، ولذلك فإن الصدق ينفجر من أكثر الكتابات التصاقا بتفاصيل المحلية، وليس ثمة سبيل أقرب إلى العالمية من محلية الأفكار والتعابير.
الرواية هي الإنسان, هي كتاب الحياة الأكثر إضاءة ووضوحاً، إنها السراج إلى الأعماق المظلمة.
يقول رولان بارت في كتابه لذة النص:
عندما اقرأ بلذة هذه الجملة، هذه القصة، أو هذه الكلمة، هذا يعني أنها جميعها كتبت
بلذة.
ويقول في ذات الكتاب : لذتي لا تقوم على وصال جسدي مع من أحب، ولكنها تقوم على وصال جسدي مع ما أكتب ذلك أن وصال المحبوب مبعثه نزوة تورثني متعة، ووصال المكتوب مبعثه شهوة تورثني لذة، وإني لأحس في المتعة زوالاً، وإني لأحس في اللذة دواماً.
ولعل مثل هذا الكلام يأتي على روح العلاقة بين ماركيز وقارئه، إذ يشعر هذا القارئ أن ماركيز كتب كل هذه الجمل بلذة ومشاعر فياضة، وبالتالي يدرك أن قارئه سوف يتلقى هذا النص بذات السوية العالية.
لقد حاولت الرواية عبر تاريخها المضيء أن تقدم الإنسان إلى نفسه, وتسعى للدفاع عن حريته وعن حقه في حياة كريمة.
إن ماركيز يُعد اليوم كنزاً أدبياً، ويشكل بالنسبة لكولومبيا هويتها، حيث تعرّف الكثير من قرّائه على كولومبيا من خلال ماركيز، ولذلك يتم تكريمه في كولومبيا كما يتم تكريمه في سائر أنحاء العالم.
لقد ترك هذا الروائي الكبير إرثاً روائياً يُعد إضافة حقيقية لتاريخ الروية في العالم، كما إنه ترك أثراً بالغ على أجيال روائية، ومن ذلك على سبيل المثال أثره على الروائية إيزابيل الليندي التي تكتب بواقعية ماركيز السحرية.
لقد انطلق ماركيز من محلية كولومبيا، إلى سائر أنحاء العالم وبمختلف لغاته، حيث استطاع أن يقدم مزايا وتطلعات وخصائص وبطولات ذاك المجتمع بواقعية سحرية أضافت فنية وشاعرية إلى جمالية اللغة التي يعبر من خلالها عن رؤيته.
المصدر : الباحثون العدد 68 شباط 2013