تمضي القرون والأدهار، وتبقى القدس مهوى أفئدة العرب والمسلمين والمسيحيين، وقرّة أعينهم، ومحط أنظارهم، ترنو إليها بحبٍّ وتقديس لا تريم عنها ولا تتحوّل إنها إنسان عين أكثر من مليار مسلم ومثلهم من المسيحيين.
وهي مثوى أبي الأنبياء خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، ومولد إسماعيل عليه السلام، ومهد المسيح عليه السلام، ومهبط الوحي على أنبياء الله المصطفين الأخيار الذين ضمخوا ترابها بأريج عطرهم، وسنا نورهم، وبركة دعوتهم.
هي الأرض التي باركها الله سبحانه وتعالى الذي أسرى بعبده سيد الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم إليها من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج منها إلى السماوات العلا ليريه من آياته الكبرى، وليحظى بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وهي أولى القبلتين وثالث الحرمين، إليها تُشد الرحال لينعم المشتاقون بالفيوضات الربانية في رحاب الله، وليجدوا فيها السكينة وسعادة النفس وطمأنينة البال، وإليها سعى أمير المؤمنين الخليفة الفاتح العظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليتسلم مفاتيحها بنفسه من بطريركها (صفرونيوس) وفيها أصدر أعظم وثيقة تفخر بها الإنسانية، وتعتز بها الدنيا على مر الزمان ويزهو العرب والمسلمون برقيّها وسمّو أهدافها، إنها (العهدة العمرية) للنصارى، الذين اشترطوا فيها إخراج اليهود من المدينة، وعدم سكناهم فيها، لأنهم رجس من الشيطان وقد برأ الله منهم أبا الأنبياء إبراهيم بصريح قول الله تعالى « يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ* مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» [آل عمران : 65-68]. وهكذا يكون القرآن قد دمغ اليهود في ادّعائهم وزيف دعوى أولويتهم بإبراهيم وسفَّه أحلامهم وكشف خداعهم.
العهدة النبويّة الشريفة.. أول وثيقة في التاريخ عن عدالة وتسامح الإسلام:
توجّه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم إلى بلاد الشام بصحبة عمه أبي طالب، واتفق ذات يوم أن القافلة مرّت من طريق الطور بجانب الدير، ونزلت في ضيافة الراهب باخوميوس، وجرى الحوار المعروف بين الراهب والنبي صلى الله عليه وسلم، وسأل الراهب النبي بعد ما أخبره عن مستقبله ونبوّته وما سيصير إليه أمره من الشهرة: ماذا ستفعل لنا إذا تحققت النبوءة..؟ فوعده النبي صلى الله عليه وسلم بالبر والعناية والرعاية للنصارى وكتب لرهبان دير الطور عهداً سطّره علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، بإملائه صلى الله عليه وسلم وطبع على العهدة صورة كفّه الشريفة، وجاء في هذا العهد:
«تعهد النبي المرسل لكافة الرسل مسلمين ونصارى في كل مكان، إن احتمى راهب أو سائح في أي مكان فأنا أكون من ورائهم موئلاً يدفع عنهم الأذى، كأنهم رعيّتي وأهل ذمتي، ولا أحمّلهم من الخراج إلا ما طابت به نفوسهم، ولا يبدل أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته، ولا يُهدم بيت من بيوت كنائسهم وبيعهم، ولا يدخل شيء من مال كنائسهم في بناء مسجد ولا في منازل المسلمين، ومن فعل شيئاً من ذلك فقد نكث عهد الله وخالف رسوله، ولا يلزموا بخروج في حرب، ولا يُجادلوا إلا بالتي هي أحسن، وحيثما حلّوا تمكينهم من الصلاة في أماكن عبادتهم.
وقد شهد على العهد النبوي المنوّه عنه كل من: علي بن أبي طالب، أبو بكر الصديق، عمر بن الخطاب، عثمان بن عفان، أبو الدرداء، عبد الله بن مسعود، العباس بن عبد المطلب.
ومن هذا النبع الأصيل استقى عمر بن الخطاب عهدته للمقدسيين، والتي جاءت مثلاً أعلى في العدل والتسامح الإسلامي، حين جاء أهل إيلياء (القدس) يطلبون لقاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ليستسلموا على يديه، وقَبِلَ عمر بن الخطاب استسلامهم وخرج (صفرونيوس) بطريرك بيت المقدس إلى عمر بن الخطاب فأعطاه عمر وثيقة الأمان المعروفة (بالعهدة العمرية)، وتعتبر هذه الوثيقة صورة صادقة للحضارة التي هي أنبل وأسمى ما في التاريخ العربي الإسلامي بل العالمي، ولنقرأ بإمعان وإدراك هذه الوثيقة الهامة التي تكشف عن أن عمر بن الخطاب لم يأخذ أهل إيلياء بالسيف والقوة وهم في قبضة يمينه، ولكن أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم بشرف الكلمة وصدق الوعد وكريم المعاملة، وهذا نصها:
«بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان – أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم سقيمها وبريئها وسائر ملّتها. أنها لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم ولا ينتقص منها، ولا من خيرها ولا من صلبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود».
وعلى أهل إيلياء أن يًعطوا الجزية كما يًعطي أهل المدائن، وعليهم أن يُخرجوا الروم واللصوص. فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية..
ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض فمن شاء منهم قعد، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله فإنه لا يؤخذ منه شيء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية.
شهد على ذلك خالد بن الوليد، عمرو بن العاص، عبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان. كتب وحضر سنة 15 هـ عمر بن الخطاب».
عمر في بيت المقدس:
بعد توقيع وثيقة الأمان – العهدة العمرية – دعا أهل إيلياء الخليفة عمر بن الخطاب لاستلام المدينة بنفسه وجاءها عمر بعد قليل من الأيام في موكب، وكان كل موكبه «بعيراً» أحمر وخلفه جفنة مملوءة بالتمر وقربة ماء وخادم! ولكنه كان يجرّ وراءه كل أمجاد اليرموك وما أعقبها من فتح الشام وحمص وأنطاكيا واللاذقية وبعلبك وفي فلسطين طبرية وبيسان وسبسطية ونابلس وأجنادين وغزة ورفح. ووصل عمر وفاتهم سائراً إلى باب المدينة وهم يبحثون عن أمير المؤمنين وموكبه! ولحق به الناس وعلى رأسهم البطريرك «صفرونيوس» حامي الكنيسة المعسول اللسان – كما كان يلّقب- وسلّمه مفتاح المدينة.
تسلّم الخليفة المفتاح من «صفرونيوس» وقام بدوره بتسليم المفتاح إلى عبد الله بن نسيبة وهو من الأنصار، وظلّ هذا المفتاح تتوارثه هذه الأسرة جيلاً بعد آخر.
وتعلو راية الحق..:
ودارت الأيام وتوالت الحملات الصليبية الهمجية التي وطئت بخيلائها وبطشها وعنجهيتها وجبروتها مدينة القدس الأثيرة على القلوب، ولبثت الفرنجة تعيث فيها قتلاً وتدميراً وفساداً وتشريداً وظلماً، حتى قيّض الله للحق أن تعلو رايته في معركة حطين الخالدة التي تمّ فيها استرداد هذه الدرّة النفيسة بقيادة صلاح الدين الأيوبي عام (583هـ/1187م)، بعد نصر مؤزر للمسلمين على الفرنجة الغزاة المجرمين الذين احتلوا القدس قرابة مئة عام، وقد تجّلى في هذا الفتح المبين التفاوت في السلوك بين الفئة الباغية من الفرنجة الغاصبين الذين ارتكبوا الفظائع الوحشية وبين ما تكرم به هذا الذي أخذ الدنيا بسيف الظفر، ثم جادَ به بيد الكرم..
هذا الذي روّع أوروبا مرتين: مرة حين قهر جيوشها بسيفه ومرة حين شَدَهَ نفسها بنبله، هذا الذي كان النموذج الأتم للقائد المنصور، وكان المثل الأعلى للحاكم المسلم، وكان الصورة الكاملة للفارس النبيل، والأمين الصادق، وكان المحرر الأعظم، حرر هذه البلاد، الشام وفلسطين ودرّتها القدس من استعمار الأوروبيين بعدما استمر نحواً من مئة سنة.
هذا الذي انتزع من أصدقائه ومن أعدائه أعظم الإعجاب، وأصدق الحب، وترك في تواريخ الشرق والغرب أكبر الأمجاد، وأعطر السجايا، وكان اسمه من أضخم الأسماء التي دوَت في أرجاء التاريخ، إنه: «صلاح الدين» الذي سقطت على أقدامه الدول، ووقفت على أعتابه الملوك ودانت له الرقاب، وانقادت إليه الخزائن، ومات ولم يخلف إلا سبعة وأربعين درهماً وديناراً ذهبياً واحداً، ولم يترك داراً ولا عقاراً.
إنّ نكبة فلسطين بالصليبيين كانت أشد بمئة مرة من نكبتها بالكيان الدخيل إسرائيل وقد مرّت بسلام، لذلك لا يداخلنا الشك في أننا سنحرر فلسطين، لأننا ما غلبنا في فلسطين وإنما غُلبت فينا خلائق غريبة عنا، خلائق التفريق والتردّد وهي خلائق الهزيمة، لقد اقترف الصليبيون أفعالاً شنيعة نقل لنا (ول ديورنت) بعض هذه الصور التي شوهدت في زمان احتلال الصليبيين للقدس.
لقد شوهدت أشياء عجيبة إذ قُطِّعت رؤوس عدد كبير من المسلمين وقُتلت النساء طعناً بالسيف وبُقرت بطونهن، واختطف الأطفال الرّضع من أثداء أمهاتهم، وقُذف بهم من فوق الأسوار وهُشّمت رؤوس بعضهم بدفعها بالعمد، وذُبح بعد ذلك سبعون ألفاً من الباقين في ساحة الحرم الشريف.
التسامح الإسلامي في أبلغ صوَره:
وأما صلاح الدين حين فتح القدس فيقول: رانيمان عن صورة هذا الفتح كان المنتصرون إنسانيين فعلى حين نجد الفرنج عند استيلائهم على المدينة منذ قرابة مئة سنة يخوضون في دماء ضحاياهم، لا نجد في هذا الفتح العظيم بناءً نُهب، ولا إنساناً أصابه أذى، ونرى الحرّاس – تنفيذاً لأوامر صلاح الدين – منبثين لحراسة الطرق والأبواب وحماية المسيحيين من أي اعتداء قد يصيبهم. وكان صلاح الدين يرمي إلى مقصد أعلى من جميع مقاصد جماعة الصليبيين وكان يريد تعليمهم درساً في مكارم الأخلاق وسماحة الإسلام.
وعندما خلّص صلاح الدين القدس من أيدي الصليبيين عاد وسمح لليهود بدخولها والسكن فيها ليظهر التسامح الإسلامي في أبلغ صوره. وقد كانت مدينة القدس بعد الفتح الإسلامي موئلاً لقرّاء وحفّاظ القرآن ورواة الحديث ممّا شجع الولاة والأعيان أن يخصصوا أوقافاً للصرف على هؤلاء القرّاء والحُفّاظ والعُبّاد.
حائط البراق.. ملكية إسلامية أصيلة:
في عهد سلاطين المماليك وبني عثمان سُمح لليهود المطرودين من إسبانيا بالدخول إلى القدس، وأقام اليهود الإسبان في حي يجاور حي المغاربة، وخلال الحكم المصري في بلاد الشام (1822 – 1840) صار اليهود (السفارديم) الذين لجؤوا إلى الممالك العثمانية رعايا عثمانيين وشكلوا الغالبية الضئيلة من اليهود في القدس، في حين شكل اليهود (الاشكنازيم)، الذين قدِموا من بروسيا والنمسا وبولندا وروسيا أقلية صغيرة من اليهود يحتفظ أفرادها بجنسياتهم ويتمتعون بالامتيازات الأجنبية لدولهم خاصة بعد افتتاح أول قنصلية بريطانية في القدس التي كان من مهامها (تقديم الحماية لليهود)، وبدأ اليهود يذهبون إلى حي المغاربة ويقفون أمام حائط البراق الذي يُطلق عليه اليهود اليوم زوراً «حائط المبكى» وهو وقف إسلامي أصيل تعود ملكيته إلى المسلمين دون غيرهم، وقد ارتبط اسمه بحادث الإسراء والمعراج، حيث كان هذا الحائط مربطاً للبُراق الذي حمل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، وقد مرّ به عليه الصلاة والسلام ثم ربط بُراقه في الحائط نفسه، ولذلك سُمّي بـ «حائط البُراق» وهو الجدار الغربي للمسجد الأقصى المبارك ويبلغ سمكه متراً واحداً وطوله /140/ متراً، وقد سجل العهد العثماني وثيقتين مهمتين تتعلقان بحائط البُراق، الأولى العام /1840/ والثانية العام /1911/ وكلتاهما تنصان على أن الرصيف والحائط وقف إسلامي خالص، وأن ما أسماه اليهود كذباً حارة المبكى وحائط المبكى هو حارة البراق وحائط البراق.
وقد قررت لجنة (شو) الدولية أن للمسلمين وحدهم تعود ملكية الحائط الغربي، ولهم وحدهم الحق العيني فيه لكونه يؤلّف جزءاً لا يتجزأ من ساحة الحرم الشريف الكائن أمام الحائط لكونه موقوفاً طبقاً لأحكام الشرع الإسلامي لجهات البر والخير. وقد استمرّ الوضع على ما هو عليه بالنسبة لحائط البراق حتى انتهى الانتداب البريطاني على فلسطين وأعلن عن قيام دولة إسرائيل الدخيلة في أيار 1948. وفي حرب حزيران 1967 احتلّ جيش العدو الصهيوني مدينة القدس القديمة، وفيها الحرم الشريف وكنيسة القيامة، وفي الأيام الأربعة التالية ذهب وزير الدفاع «موشيه دايان» ومعه رئيس بلدية القسم اليهودي للقدس إلى حي المغاربة، فأمر بإخراج كل المغاربة وعددهم /650/ مسلماً من بيوتهم بعد إنذار دام ساعتين فقط، وهدموا جميع مباني الحي منها مسجدان وزاويتان هدموها جميعاً بالديناميت، وأزالوا كل أثر عربي ومحوا كل ما أقامه الملك الأفضل ابن صلاح الدين قبل /700/ سنة. وفي 27 حزيران 1967 ضمّ اليهود كل المدينة المقدسة إلى إسرائيل وألغوا البلدية العربية وأرهبوا السكان للخروج، وسلبوا بيوتهم وأراضيهم وأُعطيت عنوةُ لمهاجرين يهود. ولا زالت يد العدوان تمتدّ للمسّ بحرمة المسجد الأقصى سواء بإضرام الحرائق فيه أو فتح الأنفاق تمهيداً لما تتخيله إسرائيل من إمكان استيلائها على المقدسات جميعاً.
الفتح الإسلامي عدالة وإنسانية:
وأن تعجب فعجباً لهذا الفتح الذي تمّ على يد أمير المؤمنين الخليفة، عمر بن الخطاب الذي دانت له الدنيا في عهده، وكذلك ما صدر عن القائد الفاتح المظفّر صلاح الدين، ولكن هذه الشيم والشمائل الكريمة تمثّل الفتح العربي الإسلامي الذي يحمل مشروعاً ذا سمة إنسانية وعبق حضاري معطر بأريج كوني عالمي يسعى لنشر رسالة تمثّل العدالة والكرامة كديانة، وسمو إنسانية في أجلى صفاتها، وحضارة تعلو رايتها في مشارق الأرض ومغاربها، على حين لم تكن الحروب الفرنجية تهدف لنشر فلسفة دينية أو معتقد روحي بقدر ما كان توسّعاً إمبريالياً واستعمارياً وحشياً وإن تزين برداء الكهنوت، وقد ترك مأساة لا تزال حيّة في الوجدان العالمي تشمئز منها النفوس وترتعد لهولها الفرائص وتثير في القلوب الأسى والحزن والغضب.
إنّ الفتح العربي الإسلامي نسيج وحدة في تاريخ البشر، لا يشبهه فاتح ولا يدانيه ولا يُقاس عليه. إنّ العرب المسلمين الأوّلين لم ينقلوا الديانة الجديدة إلى الأمم، ولكن نقلوا الأمم إليها.
إنّ التاريخ يشهد أنه لم تدر في الأرض رحى الحرب، ولم يطأها جيش فاتح، إلا ابتغاء أرض يضمها الفاتح إلى أرضه، أو شعب يحكمه مع شعبه، أو غنائم ينالها، أو ثأر يطلبه، أو خيرات يستولي عليها، أو كنز يملكه. هذه هي غايات الحروب، وهذه مقاصد الفاتحين.
أما العرب المسلمون فقد خرجوا يُعلنون كلمة السماء للناس جميعاً وينشرون رسالة التسامح والتآخي والسلام ونبذ الأحقاد، والنأي عن التعصّب الذميم، ونشر المحبة والحرية والمساواة وإعلاء كلمة الحق وإشاعة العدل وإرساء حكم القانون، يبذلون في سبيل ذلك دماءهم وأرواحهم، لا يريدون علوّاً في الأرض ولا استكباراً ولا يبتغون سلطاناً ولا يريدون مالاً وهذه مزية لا تدانيها مزية.
كانت غايتهم إصلاح البشر في أخلاقهم ومعايشهم وسعادة الناس في دنياهم وآخرتهم، فكانوا يحملون إليهم مفتاح هذه السعادة.
« يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا» فإذا تعارف الناس تحابوا وتآخوا وتعاونوا على البر والإحسان والمودّة وهذه مزية ثانية، وكانوا إذا حاربوا حافظوا على شرفهم وصدق الكلمة فانبذ إليهم على سواء، فكانوا أنبل محاربين عرفهم ظهر هذه الكرة، لا يغدرون ولا يمثلون، ولا يُجهزون على جريح ولا يحاربون امرأة، ولا يُعرضون لعاجز ولا يمسون معبداً ولا يؤذون متعبّداً، ولا يخربون داراً، ولا يُفسدون ماءً. وإن هذه الخلائق في الحرب لتعد غريبة في العصر الحالي الذي يسمونه (القرن الحادي والعشرين) ويزعمون أنهم بلغوا فيه نهاية الارتقاء وذروة المدينة، فكيف وقد جاءت تلك المزايا في القرون (المظلمة) التي يسمونها القرون الوسطى تلك المناقب هي «المزية الثالثة» وما أكثر المزايا لو استقصيناها في التاريخ العربي الإسلامي الحافل بها.. هذه بعض الجوانب التي لم تخطر على بال بشر في هذا العصر.
أما الصهيونية الباغية التي تشربت ما عليه اليهود من أحوال وأخلاق وما وقفوه خلال التاريخ من مواقف إنما هو مظهر من مظاهر جبلّة خلقية راسخة يتوارثها الأبناء عن الآباء ويتّحد فيها الآباء والأبناء، ولقد وصفهم القرآن بالكفر والجحود والحجاج واللجاج والأنانية والزهو والتبجّح، والترفّع عن الغير واعتبارهم أنفسهم فوق مستوى الناس، وعدم الاندماج الصادق مع أحد، والتضليل والتدليس والدس والشره الشديد إلى ما في أيدي الغير، والحسد الشديد لهم ولو تمتّعوا أنفسهم بأوفر النّعم ومحاولة الاستيلاء على الكل والتأثير في الكل واللعب في وقت واحد على كل جيل وفوق كل مسرح، واستحلالهم لما في أيدي الغير وعدم اعتبار أنفسهم مسؤولين عن شيء أمامه، وضنّهم بأي شيء للغير إذا ملكوا وقدّروا، وعدم مبادلتهم الغير في ودٍّ وبرٍّ وولاء ومحبة، واندماجهم في كل موقف مهما دنوء وفَجُر وكان فيه كُفْر وفُسق وخيانة وغدر في سبيل النكاية بمن يناؤونه، ونقضهم لمبادئ دينهم في سبيل مكايدته وعدم تقيدهم بأي عهد ووعد وميثاق وحق وعدل وواجب وأمانة، وتشجيعهم لكل حاقد وفاسد ومنافق ودساس ومتآمر في سبيل التهديم، وشفاء لداء الحسد والحقد والخداع المتأصل فيهم.
وفي ظلال هذه الصفات الممقوتة، خاضت الصهيونية حروباً وحشية وارتكبت مجازر يندى لها جبين الإنسانية لفظاعتها وهمجيتها منذ مأساة دير ياسين وحتى يوم الناس هذا، كانت فلسطين الجريحة مسرحاً لها، وقد تمترست فيها وراء جدر وتوارت في دباباتها وألقت الحمم من طائراتها وبذلت كل ما تملك من قوى وإمكانات منذ حرب عام 1948 التي أوصلتها إلى إعلان دولة الكيان الصهيوني الهجينة.
وقد ساندتها الولايات المتّحدة في تمردها وتشجيعها على عدم الاكتراث بالشرعية الدولية واستهتارها بقراراتها التي توالت منذ اعتُبر قرار مجلس الأمن الدولي ذو الرقم /252/ المؤرخ في 21/5/1968 جميع الإجراءات الإدارية والتشريعية، بما فيها مصادرة الأراضي والأملاك التي من شأنها أن تؤدي إلى تغيير الوضع القانوني للقدس هي إجراءات باطلة.
ودعا إسرائيل إلى إلغاء هذه الإجراءات والامتناع فوراً عن القيام بأي عمل آخر من شأنه تغيير وضع القدس.
وقد أكد قرار مجلس الأمن الدولي ذو الرقم /267/ المؤرخ في 3/7/1967م ما جاء في القرار السابق /252/، واعتبر قرار مجلس الأمن /446/ المؤرخ في 22/2/1979 الاستيطان الإسرائيلي معوّقاً للسلام. ودعا قرار مجلس الأمن /452/ الصادر في 12/7/1971، إسرائيل إلى وقف النشاط الاستيطاني في الأراضي المحتلة، بما فيها القدس إذ ليس له سند قانوني وهو يخرق اتفاقية جنيف الرابعة.
وكرر القراران /465 و467/ للعام 1980 بُطلان الإجراءات التي اتّخذتها إسرائيل لتغيير طابع مدينة القدس، كذلك أكد القرار /467/ المؤرخ 30/6/1980 والقرار /478/ المؤرخ 20/8/1980 بُطلان وعدم شرعية تغيير وضع القدس العربية، وعدم اعتراف مجلس الأمن الدولي بقانون إسرائيلي قضى بضم القدس.
واعتبر المجلس ذلك القانون انتهاكاً للقانون الدولي ومن آخر فصول هذا الدور الأمريكي المنحاز، نقيضاً لكل القرارات والقوانين الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية والصراع الذي نشأ عن الغزو الاغتصابي الصهيوني الاستيطاني لفلسطين وقع الرئيس جورج بوش يوم 30/9/2002 قانوناً يعترف بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل، بل مضى بعيداً بإصدار ما سُمّي قانون مكافحة اللاسامية، وبموجبه تمّ تكليف كافة البعثات الدبلوماسية والقنصلية الأمريكية والمؤسسات الأمنية والقضائية وسواها برصد ومتابعة أي مساس مباشر أو غير مباشر أو انتقاد لليهود أو للصهيونية أو الصهاينة أو لإسرائيل سواء من خلال عمل أو قول أو مادة ثقافية أو إعلامية في أي مكان من العالم، ومعاقبة من يُقدِم على هذا سواء أكان دولة أم مؤسسة أم جماعة أم فرداً، بموجب القوانين الأمريكية! يبدو الأمر أقرب إلى إقامة محاكم تفتيش عصرية على مستوى العالم بأسره لقمع أي جهد يسعى إلى إقامة العدالة واستعادة الحق في فلسطين من خلال تكريس حصانة مطلقة على امتداد العالم تحمي وجود وجرائم إسرائيل والصهيونية العالمية وشبكاتها.
ولم تكتف الصهيونية الباغية بما ارتكبته من جرائم وحشية بحق الإخوة المقدسيين، وما عملت فيه يد الغدر والهدم في المسجد الأقصى المبارك وإنما كان يقول الشيخ جمعة سلامة إمام المسجد الأقصى ووزير الأوقاف الفلسطيني السابق:.. إن إسرائيل الدخيلة قد وضعت ثلاثة سيناريوات لهدم المسجد الأقصى، أولها: إمكان قيام إسرائيل الظالمة بإحداث زلزال صناعي انهار بسبب زالزال طبيعي، والثاني: هو ضرب الأقصى بالطائرات، ويمكن في هذه الحالة أن تخلي إسرائيل الباغية مسؤوليتها بالإدّعاء بأن الطيار الذي قام بهذه العملية مجنون أو مختل عقلياً، ويقوم هذا السيناريو على سجن الطيار لسنوات عدّة بالاتفاق معه، وبعد ذلك يتم الإفراج عنه حتى لا تقع في حرج مع المجتمع الدولي.
والسيناريو الثالث والأخير: هو صدم المسجد الأقصى عن طريق توجيه ضربة صاروخية إلى المسجد، ويمكن الادّعاء أن هذا ناتج عن خطأ في الحسابات أو غيرها من الادّعاءات.
وإنّ تسريع وتيرة الحفريات لإسقاط جدران المسجد مقدمة لتنفيذ هذه المخططات الإسرائيلية الماكرة التي يجب أن نكون نحن العرب والمسلمين على أتمّ الاستعداد للتصدّي لها ووقفها على الفور.
في مثل هذا الوضع غير المسبوق في التاريخ تبدو الحاجة شديدة إلى نهوض فاعل على امتداد الوطن العربي والعالم الإسلامي والعالم المتحضّر دفاعاً عن الذات والمصير ابتداء، وصوناً للقيم الإنسانية، وإعلاءً لكلمة الحق، وإشاعة العدل، وإرساء حكم القانون بغير هوادة، وتغذية روح المقاومة وبنيتها الفكرية والتنظيمية في مواجهة استشراء ثقافة الاستسلام، والنكوص والتنصل من الواجب الإنساني والديني والقومي والوطني والأخلاقي تجاه فلسطين عموماً وعاصمتها القدس خاصة. إنه نهوض يستند أساساً إلى ثقافة جماهيرية يومية وحيوية دائمة، لمكانتها العقيدية والتاريخية والحضارية على نحو يربط الماضي الذي عمل الغزاة فيه طمساً وتزويراً وتشويهاً وتدميراً لمعالمه وأوابده وتراثه، بحاضر يعمل الغزاة والمتواطئون معهم والمتخاذلون إزاءهم على خنقه بوقائع مزيفة جديدة تدمّر ثوابته وجوهره لمصلحة تهويد يلغي كل ما خلا جريمة غزوهم واغتصابهم.
إنها أمانة الأمة في حاضرها، وواجب الأجيال في كل وقت وفي جميع المجالات وفاءً بحق المجاهدين الذين رووا بدمائهم الزكية الطاهرة أرض فلسطين حين استخلصوها من الدخلاء المغتصبين، وتلك الأيام نداولها بين الناس، والله غالب على أمره مهما طال الزمن لأن إرادة الله وحدها النافذة.
المــراجـــع:
- أخبار عمر: علي الطنطاوي وناجي الطنطاوي.
- رجال من التاريخ: علي الطنطاوي.
- القدس تناديكم: أحمد عبد ربه بصبوص.
- القرآن واليهود: محمد عزة دروزة.
- المخططات التلمودية الصهيونية: أنور الجندي.
- مجلة الكويت: العدد 282.
- مجلة الثقافة: العدد/546/ لعام 2009، د. خير الدين عبد الرحمن.
- مجلة المشاهد السياسي Volume )13) 155، 684) 26. APRIL 2009).
المصدر : الباحثون العدد 68 شباط 2013