تقع سيروس على تخوم سورية الشمالية، بالقرب من بلدة إعزاز، ولم يرد ذكر جذورها وأصلها في النصوص الكتابية القديمة، ولكن ورد اسم مدينة «كيروس» المقدونية التي كانت -على الأرجح- مستعمرة عسكرية مقدونية، ولم تصنف في قائمة منشآت الإمبراطور سلوقس نيكاتور الأول (255-280) قبل الميلاد، مما يدعو إلى الافتراض أنها كانت موجودة قبل حكم هذا الإمبراطور ولكن ليس قبل عام (286ق.م) أو حتى (221ق.م) حيث لم يكتشف إشارات أو دلائل تثبت وجودها قبل هذه التواريخ.
الدليل الأقدم والمباشر على سيروس، عبارة عن نوعين من العملات البرونزية التي يعود تاريخ سكّها إلى عام (148) ق.م، وربما تكون العملة الأولى قد سُكّت في أحد الأقاليم السلوقية الرئيسة، ولذلك فإن تاريخ المدينة حتى العهد الروماني قد بقي مجهولاً تقريباً، ولكن ممكن الافتراض أنه كان لسيروس وظيفة استراتيجية هامة، أو أنها احتلت موقعاً هاماً في شمال سورية، لمواجهة وصد الأعداء، وهناك ما يدل على أنها كانت معسكراً للفرقة العاشرة من الجيش الروماني.
الازدهار والأهمية
إن إقامة الفرقة الرومانية في فترة الاحتلال الروماني لسورية قد منح المدينة ازدهاراً وأهمية مميزة، دون أن تغيّر ذلك من بنيتها.. إن العديد من اللوحات الكتابية الحجرية التي عثر عليها في موقع سيروس تؤكد الدور الهام للمدينة في الفترة الواقعة في السبعينات من القرن الأول الميلادي، وهناك إهداء من حاكم أسطول ميسينا (ماركوس توربو) اكتُشف في الموقع الأثري ويدل على أن سيروس كانت محطة لجيش الإمبراطور تراجان أثناء حملته ضد أرمينيا سنة (114) ميلادية، وقد احتفظت سيروس بأحد الطرق الطبيعية للغزو عن طريق وادي عفرين، وشكلت من جهة أخرى محطة مثالية للمجموعات الذاهبة من أنطاكية حتى نقطة العبور المفضلة على نهر الفرات.
وتدل اللقى الأثرية العديدة التي اكتُشفت في موقع سيروس على وجود نشاط تجاري وزراعي ساهما في ازدهار المدينة أيضاً، ويدل على هذا الازدهار، سك العديد من العملات التي تتالت من عهد (تراجان) حتى عهد الإمبراطور فيليب العربي، وتدل هذه النقود على وجود عبادة مكرسة للإله زيوس، ويميل علماء الآثار على الاعتقاد أن الإله زيوس قد حصل على مكانته المقدسة في المدينة قبل القرن الثالث الميلادي، حيث وُجد رسمه على الوجه الخلفي للنقود التي كانت سائدة في عهد الإمبراطور فيليب العربي.
في القرن الثاني الميلادي كان من بين مواطني مدينة سيروس مجموعة من المشاهير مثل: هيليو دوريس وكاسيوس، وأفيدي الخطيب الشهير والفيلسوف المعروف وصديق الإمبراطور هادريان... إن ثقافة هؤلاء المواطنين الثلاثة وأعمالهم تقدم لنا الدليل الأكيد على وجود بورجوازية محليّة في المدينة، وعلى وصول هذه الطبقة إلى درجة من الثقافة والغنى.
الانحطاط والنهاية
إن عهد آخر حكام الأسرة السيفيرية (أسرة سبتيم سيفيروس) تميز بلقب الحكم الفارسي للأسرة القديمة من قبل شابور الأول الذي تقدم حتى مدينة أنطاكية التي استولوا عليها عام (256) ميلادية قبل أن يأسروا الإمبراطور «فاليريان» ويستولوا من جديد على كل البلاد، وقام «أذينة» ملك تدمر و«أورليان» بقلب الموقف وإعادة الاستقرار إلى البلاد، وقد أصاب شمال سورية من جراء هذه الأحداث، ثلاث غزوات، وثلاثة انسحابات، مما جعل سيروس تتأثر بشكل كبير وقاسٍ، وقد استولى عليها الفرس سنة (256) ميلادية.. ومنذ ذلك التاريخ ساد الصمت على المدينة، ولم يكن تخريب الفرس وحده المسؤول عن ذلك، فقد تضافرت عوامل عديدة للقضاء عليها، فقد أصبحت منافستها هيرا بوليس (منبج الحالية) عاصمة أثناء التقسيمات الجديدة للمقاطعة.
ازدهار قصير الأمد
عرفت سيروس الازدهار مرة ثانية لفترة قصيرة بين عامي (423 و450) ميلادية عندما أصبحت أسقفية «لتيودور» الأسقف الخامس الذي عرف في سيروس كبنّاء كبير، وبعد (75) سنة قام «بروكوب» بتجديدات في المدينة في عهد الإمبراطور «جوستينيان» واتخذت سيروس اسم «حاجي بوليس» حيث أصبحت محجاً للكثير من الناس، لكن القرن السادس الميلادي شهد اضطراباً في شمال سورية، مما أدى إلى القضاء على هذه النهضة القصيرة الأمد، وعدم ديمومتها.
في سنة (637/16هـ) جرى فتح مدينة سيروس بقيادة فرسان القائد العربي (أبي عبيدة بن الجراح) واستمرت بيد الفاتحين العرب المسلمين حتى القرن العاشر الميلادي، حيث تعرضت البلاد لغزو بيزنطي ثم إفرنجي، وتنافس على المدينة عدد من الحكام العابرين البيزنطيين اللاتين ثم الأرمن، واستمر هذا الحال المضطرب حتى حزيران من عام (1150) حيث قام السلطان نور الدين بن محمود الزنكي بضمّها بصورة نهائية إلى حكمة، ولكنها لم تشهد الازدهار الذي يليق بها، واعتبرت منذ القرن الثالث عشر مدينة منسيّة مثلها مثل الكثير من المدن الهامة في شمال سورية.
علماء زائرون
عبر القرون الماضية لم تستقبل سيروس إلا العدد القليل من الزوار والرحالة والبحاثة الذين كتبوا عنها في مذكراتهم وبعض أبحاثهم، فقد زارها «ماندريل» في نهاية القرن السابع عشر و «درومون» في القرن الثامن عشر، و «شابو» في نهاية القرن التاسع عشر، وكان آخرهم «كومون».
لقد بدأ التنقيب الأثري في سيروس في عام 1952 من قبل مجموعة من العلماء الأثريين الفرنسيين على رأسهم أدموند فريزول وكوبيل ولوبير، واستمرت هذه الأعمال سنوات عديدة توزعت على ثمان حملات بين عامي (1964و1980) وركزت تلك الحفريات المنهجية على الجسور المؤدية إلى المدينة، وعلى شبكة طرقاتها الداخلية، وعلى الأسوار والمسرح والأحياء المحيطة به والقبور المختلفة.
لقد أثبتت الأعمال الأثرية، أن سيروس قد شُيدت على هضبة ونجد يهبط حتى يصل وادي (صابون- صويو)، ويحدها رافد نهر عفرين وصابون- صويو وقسم كبير من أسوار المدينة، وقد تركزت المدينة بشكل أساسي على الهضبة والنجد، ويقوم بربط المدينة بالمناطق الجنوبية والشمالية ثلاثة جسور، يعود تاريخها إلى نهاية العصر الروماني وبداية العصر البيزنطي، ولا يزال جسران منها قائمين أحدهما على نهر عفرين والآخر على ساقية (صابون- صويو) في حين أن الجسر الثالث الذي كان يربط المدينة بطريق (كوماجين) قد تهدم، وعلى بعد مسافة قصيرة من مدخل المدينة الجنوبي، تم الكشف عن بقايا بوابة رباعية مصلّبة كانت تصل شارع المدينة الرئيس بالطريق المؤدية نحو الغرب، وهذا ما جعل علماء الآثار يفترضون وجود أحد الأحياء السكنية في هذه المنطقة.
تخطيط المدينة يشبه شكل القلب تقريباً، ويشغل الأكروبول الرأس الذي يضم الهضبة، ويقوم على أساس شبكة ترابعية مستطيلة تقطعها في وسطها طريق (كوماجين) المروّقة التي تشكل الشارع الرئيسي للمدينة، وقد تم الكشف عنه على امتداد عشرات الأمتار في وسط المدينة، وتبيّن أنه كان يشكل متنـزهاً يشرف على منحدر الهضبة باتجاه الساقية، غير أنه فقد صفته هذه في العصور المتأخرة، عندما قامت بعض المنشآت الطفيلية فوق بلاطه المرصوف بالحجر البازلتي.
أما سور المدينة الذي نرى آثاره في كل مكان من بقايا المدينة، ولازال يحتفظ بأكثر أبراجه، فالدلائل تشير إلى أنه قد رُمم في عهد الإمبراطور «جوستنيان» مع العلم أنه يرتكز في عدة نقاط على أبنية متعددة الزوايا أو مضلعة القاعدة، وهذه من صفات العهد الهيلينستي، ويحتمل أنها آثار السور الذي بني في زمن الإسكندر المقدوني، ويذكرنا بسور مدينة سلوقية دوبيرية (السويدية الحالية) ولازال علماء الآثار يجهلون فيما إذا كان سور مدينة سيروس قد بني في العهد الروماني الذي لا تظهر بقاياه في مكتشفات المدينة، ولهذا يعتقد أن سيروس كانت في هذا العهد مدينة مفتوحة بلا أسوار.
في المدينة العديد من بقايا الأبنية الهامة، نذكر منها بقايا المعبد ومجموعة منازل تقع على منحدر الأكروبول، والأغوار التي أعيد استخدامها مرات عديدة ولأغراض مختلفة، وتتألف من ساحة محاطة بسور يعود تاريخه إلى عهد متأخر، يحيط بالكنيسة الصغيرة، كما تدل على ذلك إعادة استعمال عناصر عمرانية قديمة في عمارتها.
المسرح
لقد ركزت البعثة الأثرية أعمالها على المسرح الهام، الذي يعتبر من أكبر المسارح الأثرية في المشرق العربي القديم، بعد مسرح مدينة آفاميا، إذ يبلغ قطره نحو (115) متراً، بينما قطر مسرح آفاميا (145) متراً.. يشغل المسرح مركزاً وسطياً في المدينة عند الطرف المنحدر من المدينة العليا الشرقي، على مسافة قريبة من الشارع الرئيسي، ويحتوي قسمه الأسفل على (25) درجة لا يزال (14) منها بحالة جيدة.. في القسم الأسفل من الدرج ممر على شكل نصف دائري محدد من الخارج بمنحدر، ومن الداخل بمقاعد ذات مساند للظهر وللأيدي، نُحتت على شكل دلفين، وبعض هذه المقاعد الحجرية تحمل كتابات لأسماء الذين كانوا يشغلون هذه المقاعد في العادة.
الأوركسترا أي المكان النصف دائري الموجود بين خشبة المسرح والمدرج، فصل عن الدرجات الأولى بحاجز وممر مرصوف بالحجارة، واكتشف في وسطها مذبح سداسي الأضلاع، كل ضلع منها يحمل تمثالاً حجرياً نصفياً، تعرضت للتشويه، ولذلك يصعب التعرف على شخصياتها، ويحتوي القسم الأعلى من المدرج على ممر نصف دائري، يتصل مع الخارج ومع المدرجات بممرات نصف دائرية الشكل مبنية من الحجارة الكلسية، وحائط المسرح مستقيم الشكل مع معازب ذات نقوش خفيفة، وهذا الطراز يذكرنا بطراز مسرح آسيا الصغرى، بينما واجهة المسرح ذات اتساع واضح وارتفاع بسيط ليس لها علاقة بالمسرح الآسيوي وتحتوي على مجموعة من المحاريب الجميلة، المثقلة بالتفاصيل الدقيقة، وأسفرت الأعمال الأثرية عن الواجهة الخلفية للمسرح وتذكرنا بخلفية مسرح مدينة (دفنة) في اليونان الذي يعود تاريخه إلى سنة (150) بعد الميلاد، وتستند هذه الواجهة، على غرفة تقع خلف المسرح، ولم يبق منها سوى أسس البناء الضخمة، ويوجد في كل جانب من خشبة المسرح، غرفة صغيرة، كما يوجد مداخل ثانوية غير متناظرة، والمداخل المتقاطعة يُدخل إليها عن طريق نصبي.
لقد دفعت شدة المنحدر الذي أقيم عليه المسرح إلى اعتماد العدد الكبير من المدرجات، وكان على المشاهدين أن يبلغوا مقاعدهم أينما وجدت من الأسفل، أي من الطريق الضيقة التي تمر بجانبه والتي تفضي إليها مجموعة من البيوت الجيدة البنيان التي تتدرج غرفها المحفورة في الصخر أو المبنية بالحجارة الكلسية الضخمة على المنحدر، وعند أسفل المنحدر لا تزال بقايا الأبنية السكنية التي طرأت عليها بعض الإضافات المحدثة في فترات متأخرة.
المدافن
في سيروس كشفت أعمال التنقيب عن العديد من المدافن التي تنتشر في مناطق متعددة من المدينة، في الشمال الغربي والجنوب الغربي، وقد كشفت المنطقة الأولى بالإضافة إلى القبور المنحوتة في الصخر، مجموعة من النواويس والمسلات التي يحمل بعضها كتابات ونقوش، أما المقبرة الثانية والتي استخدمت جزئياً كمقبرة إسلامية، فقد وجد فيها ضريح حُوِّل في عهد متأخر إلى مقام لولي أطلق عليه اسم (النبي هوري) ويحتوي على سور يشمل بالإضافة إلى المقام (مسجد وخان صغير) كان يستخدم من قبل الحجاج، وتحتوي غرفة المقام على تابوت من الخشب يحمل كتابة يعود تاريخها إلى عام (703) هجرية.. هناك مقولتان حول هذا المقام، الأولى تقول إن هذا المقام شُيد للفارسي (كورش) والثانية تقول: بأنه شُيد للنبي هوري الحثي، ومنها اشتق اسم النبي هوري الذي يطلق على مدينة سيروس، والضريح مخططه سداسي الأضلاع، ويحتوي على طابقين، الطابق الأول له جدران ملساء، وركائز ذات زوايا، أما الطابق الثاني فله ست نوافذ محاطة بركائز ذات تيجان كورنثية، أما السطح المعمد فيضم زخارف تمثل خطم الأسد، ويعلو هذين الطابقين هرم مرتفع متوج بتاج نُحتت عليه رسوم أوراق الحرشوف، وربما كان يحمل تمثالاً؟!.
المصدر : الباحثون العدد 68 شباط 2013