تكاد لا تخلو صفحة من صفحات التاريخ من حدث كانت له خلفياته ومن ثم تداعت تبعاته على الأرض. ولأن هذه المعادلة أثبتتها وقائع التاريخ على مدى قرون لا على مدى سنوات فقط، فمن المؤكد أن تثبت موضوعيتها حين يعود أحدنا إلى سجل التاريخ ويقلّب صفحاته، ليتقن قراءة الحدث وما نتج عنه في زمن وقوعه. وبذلك يتاح للباحث استخلاص النتائج وتردداتها المرتقبة على حاضره ومستقبله في آن إن هو شاء طرح السؤال: لماذا؟
في إحدى صفحات التاريخ، في السياق المتصل بهذه المقدمة، إعلان المهندس الفرنسي فرديناند دولسبس الذي اقترن اسمه بشق قناة السويس، إعلانه فشل مشروعه في شق قناة بناما ما أدى إلى التشهير به واتهامه بالاحتيال من قبل خصومه، هذا فضلاً عن اتهام مجلس إدارة الشركة التي تعهدت المشروع بالاختلاس.
ومعروف عن دولسبس أنه عمل قنصلاً مساعداً للحكومة الفرنسية في البرتغال، ثم في مدينة الإسكندرية، وفي سنة 1854 اتصل بوالي مصر محمد سعيد وعرض عليه مشروع حفر قناة السويس وذلك سعياً منه لتغطية تبعات فشله في مشروعه السابق، وحرصاً على سمعته كمهندس له سمعته في العديد من دول العالم. وكما هو معروف فقد استغرق العمل في حفر قناة السويس عشر سنوات.
وفي إحدى صفحات التاريخ أيضاً أن دولسبس أغرى عرابي باشا بعدم ردم القناة في سنة 1882، وذلك عندما قرر عرابي باشا القيام بهذه الخطوة، وأقنعه بأن القناة تشكل مرفقاً اقتصادياً هاماً ولا يقدر بثمن وأن ريعه سيعود إلى شعب مصر ما حمل عرابي باشا على التخلي عن قرار ردم القناة الذي اتخذه أصلاً حتى لا تكون القناة ممراً لأعداء مصر الطامعين في خيراتها مستقبلاً وخصوصاً في سياق الظروف التي كانت تحيط بالمنطقة عموماً على خلفية حملات الاستعمار التي حاولت إخضاع مصر في السابق ومُنيت بالفشل. ولم يرد في تلك الصفحات ما يبرر تراجع عرابي باشا عن تنفيذ ما رغب فيه ولماذا استجاب لإغراء دولسبس، فكانت النتيجة أن تمّ فتح الطريق أمام تقدم الأسطول البريطاني من جهة الإسماعيلية وبالتالي هزيمة العُرابيين في موقعة التل الكبير.
وبطبيعة الحال لا يمكن لقارئ تاريخ مصر في الحقبة المذكورة، أن يتجنب فرضيّة تآمر دولسبس مع الحكومة البريطانية التي استشعرت، مسبقاً، خطر إغلاق هذا الممر البحري الهام وبالتالي الحيلولة دون تسهيل مرور بواخرها تجارية كانت أم عسكرية، وذلك في حال خططت للاستيلاء على ما ترغب فيه، في سياق التسابق بين الدول الاستعمارية لاحتلال بلدان لها مواقعها الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط وما وراءها.
على غرار هذا الحدث، لم تتوان الدول الاستعمارية يوماً عن التخطيط لتنفيذ أغراضها التوسعيّة في المنطقة العربية وصولاً إلى تاريخ حفر قناة السويس، الأمر الذي يلقي الضوء على العديد من الأحداث التي تتطلب رداً على السؤال: لماذا؟
ولا نعتقد أن أحداً من متتبعي وقائع الأحداث في منطقتنا العربية تفوته الأسباب التي استدعت تطاول الدول الأجنبية وخصوصاً الأوربية منها على حقوق شعوب المنطقة، وفي الوقت نفسه خضوع البعض من الدول العربية لإرادة قادة تلك الدول علماً إنه في تاريخ المنطقة العربية ثمة العديد من الأمثلة التي تحتاج، اليوم قبل الغد، إلى دراسة معمقة كي تتجنب بلادنا الوقوع في شباك المتآمرين على حاضرها ومستقبلها في آن.
ومن الطبيعي أن تكون تداعيات موقعة التل الكبير، في مقدمة الأحداث التي لعبت دوراً بارزاً في رسم مسار البعض من الدول العربيّة نحو مستقبلها في التاريخ المذكور وصولاً إلى أيامنا هذه التي ما زلنا نبحث في أبعادها الراهنة عن أسلوب يوحّد مسارنا نحو امتلاك قرارنا الوطني بعيداً عن الترغيب والترهيب، لتبقى لأمتنا العربية مواقعها الثابتة فوق أرضها ومنها تنطلق إلى العالمية عنوان حضارة قابلة للحياة على غرار حضارة كانت إلى ما قبل سنوات منارة تضيء دروب السائرين على دروب الارتقاء بالذات وبالآخرين معاً.
وإذا كانت التجربة العرابية، في سقوطها أمام إغراء دولسبس، تشكل منعطفاً كانت له تبعاته على أرض مصر بداية، فإن هذه التبعات لم تنحصر حيث كان الحدث الذي لم يجد بعد رداً على السؤال لماذا، بل تعدّى المكان والزمان، ومن تداعياته وضع اليد على القناة بعد غياب قرار التأميم في سنة 1956 كما يذكر أبناء تلك الحقبة من تاريخ مصر عبد الناصر، ومن نتائج هذا الغياب ما أصاب بلداننا العربية من ترددات أشبه ما تكون، حتى الساعة، بذبذبات زلزال يستشعره أحدنا تحت قدميه حيثما يمضي.
ودائماً، في اعتقادنا، تبقى ثمة أحداث عانت منها بلداننا العربية عموماً، تحتاج إلى قراءة متأنية، ويمكننا أن نجيب، بموضوعية، على ما نتج عنها رداً على سؤال: لماذا؟
فهل نحسن صنعاً إذا بدأنا بهذه المهمة الوطنية والقومية، وفي يقيننا أن معادلة العلم بالشيء لا الجهل به أفضل من إغماض العين؟ وأن الوصول إلى ما نرمي إليه متأخراً بعض الوقت خير من عدم الوصول إليه؟.
المصدر : الباحثون العدد 69 أذار 2013