تأتي أهمية المكتشفات الأثرية لما تحتويه من معلومات يمكن أن نجمعها لإعداد دراسات لاحقة تساعدنا في التعرف على حياة الإنسان منذ ظهوره على سطح الأرض وعبر العصور المختلفة حتى وقتنا الحاضر، وهي دلائل على رقيِّ المجتمعات وخصائص الأمم والشعوب ومنجزات البشرية من أجل التطور والازدهار.
من أهم هذه المكتشفات ألواح الكتابة التي سُطرت عليها الكتابات وكانت بداية صورية ثم تطورت وأصبحت مسمارية، فالكتابة هي شكل متطور من أشكال الاتصال الإنساني وقد كانت في الأساس أسلوباً بدائياً في التسجيل المادي ثم أصبحت وسيلة لتدوين الأفكار والمكتسبات الإنسانية، ومن أهمية الكتابة أنها تقسم التاريخ البشري إلى شقيه الأساسيَين: ما قبل التاريخ، والعصور التاريخية أو ما قبل الكتابة وما بعد الكتابة.
سبق الكتابة طور ممهد لها استخدم فيها الإنسان أشكالاً من الطين لتوصيف المنتجات الزراعية من حبوب وفاكهة وزيوت وغير ذلك من الماشية المدجنة، وذلك في عمليات التجارة وتبادل المنتجات. وقد عثر على أمثال هذه الأشكال الطينية في عدد من المواقع السورية كتل براك وتل حلف في الجزيرة السورية والسويات الدنيا من رأس الشمرة (أوغاريت) في الساحل السوري. وهذه السويات تعود للعصر الحجري النحاسي (الكالكوليت) والتي تندرج في الألف الرابع قبل الميلاد وتكون هذه الأشكال أسطوانية وقرصية ومخروطية وكروية وبيضوية.
هذه الألواح كانت طينية بالدرجة الأولى فكان الطين هو المادة الأكثر توفراً دائماً في أودية الأنهار والأبسط صنعاً، حيث كانوا يستعملون تراباً نقياً لصنع الألواح أو طيناً جيداً خالياً من الشوائب، يشكلون اللوح وبعد ذلك ترسم عليه الصور أو تكتب العلامات بواسطة قلم من الخشب أو القصب مثلث الرأس ثم يُترك ليجف وبعضها كان يشوى في أفران ليتحول إلى فخار صلب.
ولاشك إنه كان اختياراً عبقرياً بدليل أننا نجد هذه الألواح بعد آلاف السنين من الكتابة عليها سليمة ونقرأ النصوص المدونة عليها وننقلها إلى المتاحف.
كان يتم تحضير اللوح بالحجم المناسب والشكل المناسب وهذه الخطوة كانت تتطلب مهارة فالألواح لم تكن دائماً صغيرة وبعمود واحد إنما قد تصل إلى 30 سم وبأعمدة تتجاوز 8 إلى 10 أعمدة، كانت معظم هذه الألواح مربعة أو مستطيلة كما كان الشكل القرصي مألوفاً وخصوصاً للنصوص المدرسية وهناك أشكال مخاريط وأسطوانات ومناشير طينية.
وبسبب أهمية هذه الألواح الطينية وما تقدمه لنا من معلومات هامة بأهمية محتواها التاريخي الذي يمثل فكراً وحضارة، فما وصَلنا من أحداث يومية مثل (المعاملات التجارية، طرق المعالجة الطبية، القوانين، الشعر والأدب...) كانت بالدرجة الكبرى عن طريق التدوين على الرقم الطينية وهذا ما جعل منها أهم الوثائق، كل ذلك جعل من صيانة وترميم الرقم الطينية ضمن أوليات علم الصيانة والمعالجة الخاص باللقى الأثرية.
كثيراً ما يعثر على رقم طينية تحتوي على أملاح ذائبة نتيجة التغير في الرطوبة النسبية المحيطة أثناء التخزين أو في التربة، فتتجه الأملاح نحو سطح الرقيم الطيني وبذلك تتبلور وهذا لا يعتّم ويخفي الكتابة فقط بل يؤدي إلى تدمير الرقيم نتيجة الضغط الميكانيكي على الطين الذي ينتج أثناء نمو بلورات الملح. بالإضافة إلى أن مادة الرقم تكون من الطين المجفف تحت الشمس أحياناً لذلك تكون غير ثابتة وإذا تعرضت للماء لفترة طويلة فقد تذوب المعالم المكتوبة وتختفي.
فللمحافظة على الرقم الطينية تجرى عمليات صيانة ومعالجة أولية في الحقل، وبعد ذلك عندما تنقل إلى المخابر أو خارج الحفرية تتم عملية معالجة وصيانة نهائية.
1- صيانة الرقم لحظة اكتشافها في الحفرية أو في الحقل:
يجب الاهتمام بها منذ لحظة اكتشافها وقبل رفعها من التربة لأن غالبية الرقم إذا وُجدت في تربة مسامية تكون مشبعة بالرطوبة والأملاح فإذا رفعت من التربة وتعرضت للجفاف السريع قد تتهشم بعض الأجزاء من الطبقات السطحية مؤدية إلى تشويه الكتابة عليها. وإن بعض الرقم قد تظهر كاملة في الحقل فإذا رفعت قد تتناثر كِسرها وتفقد منها بعض الأجزاء الصغيرة لهذا السبب ينبغي تقوية وتصليب الرقم في الحقل وقبل رفعها من التربة ويفضل بقاء أجزاء من التربة عليها لنحافظ على قطع الرقيم متماسكة.
أمّا في حالة الرقم الطينية الجافة أو المحروقة التي هي بحالة جيدة ممكن تنظيفها في الحقل بمادة الأسيتون و"التفريش"، حيث تتم عملية التنظيف باستخدام فرشاة صغيرة ناعمة (فرشاة أسنان مثلاً) أو بعض الأدوات الخشبية الدقيقة ويجب العمل بدقة ودراية وبانتهاء هذه العملية سيتضح لنا شكل العلامات المسمارية ومقدار الأملاح الموجودة على سطح الرقيم.
بعد نقل الرقم من الحفرية يجب السيطرة على درجة التبخر بأن توضع في أكياس أو علب لا تسمح بالتبخر السريع.
2- صيانة ومعالجة الرقم خارج الحفرية أو في المخبر:
قبل البدء بمعالجة الرقم يجب معرفة إذا كان الرقيم مشوياً أو غير مشوي لأن البدء بعملية معالجة الرقيم على أنه مشوي وهو عكس ذلك سيؤدي بالتالي إلى تلف الرقيم لأن الرقم المشوية تكون على درجة عالية من الصلابة وقادرة على تحمل المواد الكيميائية البسيطة من دون الإضرار بها على عكس الرقم غير المشوية.
- طريقة معالجة الرقم المشوية:
بعد عملية التنظيف البسيطة التي تتم في الحفرية، تجري عملية إزالة الأملاح ومن الممكن إزالتها بسهولة باستخدام مادة الأسيتون أو الكحول لإذابة الأملاح دون إحداث تلف أو ضرر كونه سريع التطاير، أما بالنسبة للتكلّسات الملحية القوية والتي تصل صلابتها إلى الحد الكريستالي فنستخدم طريقتين وهما:
أ- الغسل بواسطة الأحواض: وذلك بوضع الرقم في سلال داخل حوض يحتوي على ماء مقطر ويتم تغيير الماء بصورة متواصلة إلى أن يتم إذابة الأملاح والتخلص منها كلياً، بعد ذلك توضع في غرفة ذات تهوية خفيفة لتجف.
ب- عجينة الورق النقية: وهي من الطرق الحديثة وذلك بعجن عجينة الورق بكمية قليلة من الماء المقطر وتوضع على المكان المراد إزالة الأملاح منه وتترك مدة نصف ساعة حيث تقوم بامتصاص الأملاح ويمكن تكرير العملية عدة مرات إلى أن تتم إزالة الأملاح نهائياً.
- طريقة معالجة الرقم غير المشوية:
في هذه الحالة تتم عملية شيٍّ لهذه القطع ولكن قبل البدء بهذه العملية نقوم بعملية توثيق إضافية من حيث أخذ الأبعاد وتصوير القطع والرسم حرصاً من فقْد أيِّ جزء منها أثناء الشي، يستخدم لعملية الشي فرن كهربائي ويمكن لقياس درجة حرارة الفرن استعمال ميزان حرارة (تيرموكوبل) الذي يعلّق على جدار الفرن ويعمل كمسيطر على الحرارة، وتتم هذه العملية عن طريق 4 مراحل:
- نضع الرقم في "صوانٍ" مصنوعة من معدن مقاوم للحرارة وتكون هذه الصواني على شكل مشبك عرض فتحاته لا يتجاوز 1 مم لمنع ضياع القطع الصغيرة.
- مرحلة التجفيف تتم برفع درجة حرارة الفرن إلى 150 درجة لمدة 24 ساعة وهذا التجفيف الأول مهم وضروري ويكون أساساً للشي ويؤدي إلى تبخر الرطوبة الموجودة في الرقم.
- في المرحلة الثالثة نقوم برفع درجة حرارة الفرن إلى 400 درجة لمدة 5 ساعات، وعند وصولها إلى 400 درجة يجب إغلاق شباك الفرن.
- في المرحلة الأخيرة نرفع درجة حرارة الفرن إلى 700 درجة لمدة 3 ساعات وبعد ذلك نطفئ الفرن، الشباك يبقى مغلقاً ويترك بعدها الفرن لمدة 48 ساعة حتى تنخفض درجة الحرارة ببطء، ثم بعد ذلك نأخذ الرقم من الفرن.
بعد عملية الشي قد تنتج شقوق في بعض الرقم نقوم بتغطيتها بمحلول النتروسيليلوز (فقط على الشقوق والأماكن المفتوحة) بعد ذلك توضع في أحواض للغسل في ماء مقطر يغيّر يومياً ثم نتركها لتجف في غرفة ذات تهوية خفيفة.
بعد عملية التنظيف للرقم المشوية وإتمام عملية الشي والتنظيف للرقم غير المشوية ننتقل إلى العملية الأخيرة وهي تقوية الرقم الطينية، نقوم بهذه العملية لغرض تقوية الأجزاء الخارجية والداخلية للرقم الضعيفة إما بسبب تغلغل الأملاح أو بسبب رداءة عملية الشي لذلك تحتاج إلى تقوية للحفاظ عليها من التلف أو الكسر مستقبلاً وتتكون هذه العملية من عدّة مراحل:
- عملية الحقن: لغرض تقوية الرقم من الداخل نستخدم لذلك مادة (البرلويد ب 72) المذاب في محلول الأسيتون باستخدام أداة الحقن الطبية مع مراعاة أن العملية تتم على عدّة دفعات وحسب حاجة الرقيم وتفصل بين دفعة وأخرى 10 دقائق حتى تجف المادة لأن إجراء العملية بدفعات متتالية في الوقت نفسه سيعمل على انتفاخ الرقيم وتلفه.
- لصق الأجزاء المتكسرة: بواسطة مادة صمغية، ولكن من الشروط الواجب توفرها في هذه المادة هي إمكانية إزالتها مستقبلاً دون الضرر بالرقيم كما يجب أن تكون شفافة، وهناك عدّة أنواع من الأصماغ وهي النتروسيليلوز والـ UHU حيث توضع المادة الصمغية بكميات تتناسب مع حجم الكسر وبشكل لا يرتفع على سطح الرقيم ويغطي العلامات المسمارية.
- إكمال الأجزاء المفقودة: بملء الفراغات الموجودة في الكسر بسبب فقدان الكِسر الأصلية من خلال تركيبة هي: مادة صمغية + مادة جبسية + مادة طينية وتكون بنفس لون الرقيم الطيني تقريباً وتملأ به الفراغات.
- الورنيش: وهي آخر عملية حيث تتم بطلي الرقيم بطبقة خفيفة من الورنيش المحضر في المختبر من مادة البرلويد المذابة بالأسيتون ويجب ألّا تكون هذه الطبقة سميكة حتى لا يؤثر ذلك على الرقيم ويعطيه لمعة قوية، أما المدرسة الإيطالية فتجري بحوثاً على مواد جديدة لاستخدامها كبديل عن البرلويد وهي الموفي تال لكون هذه المادة تتمتع بخصائص ميكانيكية أفضل من مادة البرلويد وبخاصة مقاومتها للحرارة والرطوبة العالية والحجم الجزئي الأصغر.
نجد من خلال ما تقدم أن عملية ترميم وصيانة الرقم الطينية تتألف من عدة مراحل ولكل مرحلة خصائصها وموادها، كما أن كل مرحلة من هذه المراحل يجب أن تطبق بدقة واهتمام.
فإنّ عملية الترميم ليست عملية معقدة ولكنها تحتاج إلى وقت طويل وانتباه شديد فأيّ ضياع لقطعة صغيرة يؤدي إلى تشوه النص وعدم التمكن من قراءته وكل جزء من النص قد يكون هاماً لذلك من المفيد معرفة العوامل التي تؤثر على سلامة الألواح الطينية وكيفية معالجتها منذ لحظة اكتشافها في الحقل.
تمثل أعمال الصيانة العلاجية والترميم عملاً مستمراً لا ينتهي ذلك إنه مهما كان اختيار المواد العلاجية المضافة جيداً وبشكل مناسب فإن ذلك يزيد من حساسية الأثر للتقلبات المناخية، كما وإنه بعد الوقاية من الصدمة البيئية تأتي مهمة الأقلمة النهائية وهي الأعمال التي تهدف إلى تهيئة الأثر بصورة نهائية للتواجد في بيئة الحفظ والتي تشتمل على حيز من الهواء يختلف بصورة أو بأخرى عن بيئة الدفن.
تمّ تطبيق عملية ترميم الرقم الطينية هذه في سورية في موقع تل طابان الأثري الذي يقع على الضفة اليسرى لنهر الخابور (أهم رافد من روافد الفرات) جنوب مدينة الحسكة على مسافة 37 كم، أي في حوض الخابور الأوسط بين الهضاب الشرقية لجبل عبد العزيز والهضاب الغربية لجبل سنجار، ونتيجة لموقعه الاستراتيجي من حيث وفرة المياه وخصوبة الأرض بالإضافة للتنوع الحيوي النباتي والحيواني فقد اكتسب الموقع أهمية بالغة عبر العصور، حيث تتالت الحضارات على أطلاله من بداية الألف الثالث قبل الميلاد مروراً بالعصر الآشوري الوسيط فالآشوري الحديث ثم العصر الهلنستي والعصر الإسلامي وأخيراً العصر الحديث، ولكن أهم هذه الفترات كان العصر الآشوري الوسيط.
بدأ عمليات التنقيب في تل طابان فريق من جامعة كوكوشيكان اليابانية بإدارة هيروتوشي نوموتو منذ عام 1997 حتى عام 2008، كانت التنقيبات مركزة على كشف المركز الإقليمي الآشوري الوسيط، حيث تمّ الكشف بشكل أساسي على القصر الحاوي على أرشيف الرقم الطينية العائد إلى العصر البابلي القديم والآشوري الوسيط.
تم إجراء عمليات تنقيب سريعة للموقع وذلك بسبب ارتفاع مياه سد الحسكة ارتفاعاً غير عادي إلى 800 م فوق سطح البحر بسبب المطر الشتائي، ووجدت بعض أجزاء التل غارقة كلياً تحت سطح المياه، لذلك وبسبب طبيعة تربة التل الرطبة لوحظ عند اكتشاف الرقم أنها كانت قد تعرضت كثيراً للرطوبة فاستخدمت عمليات الترميم نفسها التي ذُكرت سابقاً وبنفس مراحلها من تنظيف وشي وتقوية من أجل إنقاذها وجعلها متماسكة للتمكن من قراءتها فيما بعد.
المراجع:
1- البني، عدنان:2001، المدخل إلى قصة الكتابة في الشرق العربي القديم، دمشق، ص 9-11، 212
2- الجعفر، زين العابدين: 2009، من أساليب صيانة الرقم الطينية مشاكل وحلول، مجلة جامعة كربلاء العلمية، المجلد السابع، العدد الثاني، ص 131-142
3- القيسي، باهرة: 1981، صيانة وترميم الآثار، بغداد، ص 158-164
4- الصغير محمد: 1998، العلاقة بين العلم والآثار، استخدام التقنيات الحديثة في علم الآثار، الإمارات العربية المتحدة- الشارقة، ص 9
5- باقر، طه: 1973، مقدمة في تاريخ الحضارات، الجزء 1، بغداد، ص 122-124
6- دوران، جان ماري: 2005، الكتابة المسمارية، تاريخ الكتابة من التعبير الصوري إلى الوسائط الإعلامية المتعددة، مصر- الاسكندرية، ترجمة: أيمن منصور، ص 22، 27، 31
7- غنيم، خالد، ديل بوفو، بيرخينيا باخه: 2002، علم الآثار وصيانة الأدوات والمواقع الأثرية وترميمها، لبنان، ترجمة: خالد غنيم، ص 5، 135، 104، 207
1- D.Thicket, M.Oddly and D.Ling: 2002, an improved firing treatment for cuneiform tablets, studies in conservation, vol. 471, London
2- H.Numoto: 2008, excavating an Assyrian regional centre: result of the 2007 season at tell Taban, Hassake, chronique archeologique en Syrie, vol. 3, Damascus, Pp. 187-201
المصدر : الباحثون العدد 69 أذار 2013