مقدمة، ما قبل التأسيس: عوتيقا ثم قرت حدشت (قرطاج).
في اليوم السابع والأخير من رحلتنا إلى تونس في الفترة مابين 21 و27 تشرين الأول 2009 استضافنا المكتب السياحي الذي تولى الاهتمام بشؤون رحلتنا لاستراحة قصيرة في مكاتبه الرئيسة بتونس العاصمة. وأثناء هذه الاستراحة القصيرة، خطر ببالي أن أسأل مستضيفنا وزوجته القائمَيْن معاً على إدارة أعمال مكتبهما السياحي، عن موضع هام لم تُتَحْ لنا زيارتُهُ لأنه لم يكن مدرجاً على برنامج الرحلة. وكان هذا الموضع هو مدينة عوتيقا Utica أو Utique. ولشدّ ما كانت دهشتي كبيرة حين استغربا سؤالي وكأنهما لم يسمعا باسم المكان من قبل، فأشارا إلى سكرتيرة المكتب التي قالا إنها تعلم ولا شك بهذا المكان، ولكنها هي الأخرى جادلتني بأنها لم تسمع بهذا المكان من ذي قبل وراهنت بابتسامة واثقة إنه غير موجود. فما كان مني إلا أن طلبت منها، وبكل لباقة، خريطة سياحية لتونس فلَبَّت. وبعد أقل من ربع دقيقة كنت أشير بسبابتي إلى موضع عوتيقا التي تُعْرَفُ بالكتابات الأوروبية باسم Utica وUtique بالفرنسية. وهي لا تبعد بأكثر من 35 كيلومتراً إلى شمال - غرب تونس العاصمة كما هو واضح على الخارطة[الشكل 2]. وكانت تلك المرة الأولى التي سمع بها هؤلاء التونسيون من العاملين في قطاع السياحة باسم عوتيقا!!!؟؟؟ فاستغربوا الأمر واندهشت أنا واستغربت أكثر.
سبقت عوتيقا "قرت حدشت" = (المدينة الجديدة) أو قرطاج، في تأسيسها، بما لا يقل عن 300 سنة.
وكانت أقدم محطة تجارية معروفة، أو من أقدم المحطات التجارية التي أقامها الفينيقيون نحو العام 1100 ق.م على الساحل الشمالي للبلاد التي أصبحت تعرف بتونس فيما بعد. أي إن الحضور الفينيقي على الساحل التونسي سبق تأسيسهم لقرطاج بفترة طويلة. والمؤكد، أن المدينة لم تحمل اسم عوتيقا إلا بعد تأسيس غريمتها قرطاج.
وعلى خلاف ما تُظْهِرُهُ الخريطة لنا اليوم، فإن عوتيقا بُنِيَتْ أساساً عند مصب النهر الوحيد الدائم الجريان بتونس اليوم الذي يُعْرَفُ اليوم بنهر مَجْرَدا Medjerda كمحطة تجارية ساحلية صغيرة سرعان ما تطورت إلى مستعمرة فينيقية عامرة. إلا أن التوضع المتتالي للمجروفات السلتية (الطمي النهري) عند المصب، أدى، قرناً تلو القرن، إلى ابتعاد الساحل داخل البحر وإلى انحراف مجرى النهر بحيث باتت عوتيقا اليوم مدينة داخلية تبعد بحوالي خمسة عشر كيلومتراً عن البحر ولم تعد كسابق عهدها مدينة ساحلية كما أُريدَ لها أساساً.
وكما كانت عوتيقا [الشكل 3] السباقة تاريخياً (أي زمانياً) لقرطاج، فقد ظلت تنافسها على الصعد التجارية والعمرانية والعسكرية أيضاً. وقد لعبت عوتيقا دوراً مؤثِّراً في الأدوار الفونيقية كان أبرز ما فيه أنها انحازت إلى روما في الحروب الفونيقية التي دارت رحاها بين قرطاج وروما على ثلاث مراحل: الأولى ما بين 264 و241 ق.م والثانية ما بين 218 و202 ق.م، أما الثالثة والأخيرة فكانت ما بين 149 و146 ق.م. ولم تنس روما "جميلَ" عوتيقا فكافأتها على خدماتها بأن جعلتها عاصمة لإقليم إفريقيا الروماني بعد سقوط قرطاج عام 146 ق.م على يد القائد الروماني سكيبيوس أميليانوس. وبقيت كذلك حتى القرن الثاني الميلادي حيث قام الرومان بنقل مقر العاصمة إلى قرطاج بسبب انحسار البحر عن عوتيقا كما أسلفنا ما ألغى دورها كمرفأ كان الرومان يعولون عليه.
عوتيقا اليوم هي بالكاد قرية سياحية خطفت أَضواءَها قرطاج وتقع إلى شمال غرب العاصمة تونس بمسافة 35 كم وإلى جنوب شرق مدينة/أو خليج بيزرت (أو بنزرت) بمسافة 30 كم. وفيها خرائبها الدالة على بعض أمجادها ومتحفها أيضاً ولن نستفيض في الحديث عنها بأكثر من هذا التعريف السريع.
هذا عن عوتيقا. أما عن قرطاج، فدونها حديث آخر سنكرس هذا البحث له بالشواهد والوثائق.
التأسيس: الأسطورة والتاريخ.
لدينا قصتان عن تأسيس قرطاج: الأولى أسطورية والثانية تاريخية. ولن نستفيض لا في عرض الأولى ولا الثانية.
الأسطورة: أليسّار أميرة صور وملكة قرطاج
يقول فرجيل، شاعر الرومان الشهير، وكاتب ملحمة الإنياذه، أن أليسـا، أو أليسـار، أمـــيرة صور[الشكل 4] كانت وأخوها بيغماليون ولدين لأبيهما بيلوس الثاني ملك صور الآشوري الأصل نحو أواخر القرن العاشر قبل الميلاد. وقد ورثا العرش بعد وفاة أبيهما ولكن أخوها بيغماليون انفرد بالسلطة ودبر اغتيال زوج أخته الكاهن سيخايوس. فما كان لها سوى الهرب بحراً من صور مع عدد من حاشيتها ووجنودها وخدمها ومعها الكنوز التي خلَّفَها لها والدها إلى أن استقرت على ساحل ما أصبحت فيما بعد تُعْرَفُ بتونس حيث تدبرت أمرها بتفاهم مع ملك السكان الأصليين للمنطقة بأن حصلت على أرض حُدِّدَت مساحتُها "بما تستطيع أن تحيط بها بجلد ثور؟!" لقاء كمية من الذهب تم الاتفاق عليها. فقامت بتقطيع جلد ثور وحولته مع خدمها إلى خيوط رفيعة بالغة الدقة، (هكذا تقول الأسطورة ؟!)، بحيث تمكنت بواسطتها من الإحاطة بأرض مساحتها تفوق بكثير ما تخيله ملك الجماعة المحلية، وقد أُطلِقَ على هذه الأرض المرتفعة التي لها شاطئ بحري اسمُ "بُرصا" أي جلد الثور(2) حسب كافة الاجتهادات. وهي ما زالت تُعْرفُ بهذا الاسم إلى اليوم. كان ذلك نحو العام 815 ق.م
قامت أليسا وحاشيتها ومرافقوها بتأسيس مدينة جديدة لها على رقعة الأرض تلك نحو العام 815 ق.م وكما سبق وقلت، أطلقت عليه اسم "قرت حدشت" أي "المدينة الجديدة أو المحدثة" بالكنعانية (أو الفينيقية). هذا الاسم الذي وصلنا اليوم على شكله المحرف "قرطاج" عن اللاتينية Carthago وعرفت باليونانية باسم كارخيذون.
وخلال سبع سنوات فقط من خروجها من صور أسس القرطاجيون مملكة عظيمة تحت سلطانها.
التاريخ:
يمكن رصد حضور كنعانيّي الساحل السوري (أو الفينيقيين لمن يرغب بتسميتهم كذلك) في بلدان حوض المتوسط إلى ما قبل القرن الثاني عشر السابق للمسيح. وعند قيام ما يُعْرَفون بشعوب البحر بموجات غزواتهم الشهيرة على ممالك ومدن شرقي المتوسط في القرن الثاني عشر ق.م، فقد خسر الفينيقيون الكثير من أراضيهم، ما دفعهم لجوب المتوسط بحثاً عن مناطق احتياطية لتوفير المعيشة والبحث عن أسواق لبضائعهم. ولم تكن شواطئ المتوسط خالية من السكان، بل مأهولة بطبيعة الحال وبعضها خاضع إما للسيطرة المصرية (حول دلتا النيل) أو للسيطرة المينوئية (في بحر إيجة).
ونحو نهايات القرن الثاني عشر ق.م عندما أتت الغزوات الدورية Doric Invasions من الشمال على أراضي اليونان وجزيرة كريت وجزر بحر إيجة فقد تزعزعت سيطرة المينوئيين(3) على بحر إيجة ما خَلَقَ فراغاً وَفَّرَ ظروفاً أكثر مواتاة لانتشار الفينيقيين على شواطئ ليبيا وتونس فوصل هؤلاء بمحطاتهم التجارية إلى أقصى غرب المتوسط على الساحل الإيبيري. وإلى تلك الحقبة الزمنية يعود تأسيس عوتيقا على الساحل التونسي وترشيش قريباً من الشواطئ الإيبيرية التي أعاد تسميتها اليونانيون Tartessos عند قدومهم إليها أواخر القرن الثامن ق.م.
وفي الأزمنة التي تلت القرن التاسع السابق للمسيح، بدأت تتنامى قوة جديدة ساهمت بدفع الفينيقيين غرباً إلى المتوسط، وهي الإمبراطورية الآشورية التي لم تسلم ممالك الآراميين ولا الفينيقيين من سطوتهم. فاختار أهل صور، مُؤًسِّسوا قرطاج، مهادنة آشور بدفع الجزية لهم، ولكنهم فتشوا عن بدائل احتياطية لهم ليلجؤوا إليها ويلوذون بها كانت قرطاج أهمها.
ولدينا شهادة تاريخية للحضور التجاري المؤثر للفينيقيين الذين وصلوا إلى إيبيرية وأسسوا فيها محطاتهم التجارية قبل اليونانيين والرومان في بلدان شواطئ المتوسط. يقول المؤرخ ذيوذوروس الصقلي ما حرفيته باليونانية:
وتعريبنا له:
"تحتوي أرض الإيبيريين على أكثر مناجم الفضة عدداً وجودة. ولم يكن السكان المحليون يستخدمونها. غير أن الفينيقيين، كانوا يتاجرون ويتعاملون مع السكان المحليين الذين كانوا يجهلون استخدام الفضة، وكانوا يشترونها مقابل كميات قليلة من بضائع متنوعة. وهكذا، فقد كان الفينيقيون يحملونها إلى اليونان وإلى آسيا وإلى كل الأمم الأخرى، وكانوا يحصلون بذلك على منافع جمة." انتهى قول ذيوذوروس الصقلي.
كما نملك شهادة أخرى على تأسيس الفينيقيين للعديد من المدن هناك، إذ يقول المؤرخ الروماني Sallust الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد في كتابه Libri Punici أي "كتاب الفونيقيين" ما ترجمته: "ثم إن الفينيقيين بعد ذلك، بعضهم مدفوع ليخفف الاكتظاظ السكاني عن بلاده، والبعض الآخر مدفوع بروح المغامرة لفتح أراضٍ جديدة، جمعوا حولهم بسطاء الناس وأولئك التواقين للمغامرة، وأبحروا ليؤسسوا على الساحل مدن Hippo هيبّو وHadrumetum هادروميـتـوم وLeptis ليبتيس ومدن أخرى سرعان ما ازدهرت وأصبحت مصدر دعم واعتزاز للمدن الأم". "أما بالنسبة لقرطاج"، يتابع Sallust "فأنا أُفَضِّلُ أن لا أقول شيئاً على أن أقول القليل عنها، ذلك أن موضوع بحثي سيقودني إلى مكان آخر". انتهى قول Sallust.
ونذكر هنا أن مدينة Hippo يمكن تعريفها اليوم بموقع بنزرت وHadrumetum ليست إلا مدينة سوسة اليوم أما بالنسبة لـ Leptis فهناك Minor Leptis أي ليبتيس الصغرى جنوب مدينة سوسة على الساحل الشرقي لتونس وهناك أيضاً Magna Leptis أي ليبتيس الكبرى المعرَّفة بلبدة الكبرى على الساحل الليبي.
كان البحر الأبيض المتوسط يُعْرَفُ باسم "البحيرة الفينيقية" في الألف الأولى قبل الميلاد.
أهم الأحداث والشخصيات في تاريخ قرطاج:
بعد أن استعرضنا تأسيس قرطاج، أسطورةً وتاريخاً، سنتعرَّضُ لأهم ما في تاريخها الفونيقي، تمييزاً له عن الفينيقي الأم، ثم ما بعد الفونيقي، أي الروماني أقصد بعد سقوط قرطاج على يد الرومان. وبطبيعة الحال سنتحدث، عن الأحداث من خلال الشخصيات لأن الأحداث مرتبطة بالشخصيات والعكس صحيح، وسنوجز ما أمكن ذلك لأن المجال لا يسمح بالاستفاضة.
منذ العام 815 قبل المسيح، وهو التاريخ التقليدي المعتمد لتأسيسها، خطت قرطاج خطوات جبارة نحو الازدهار والتوسع خلال القرون الخمسة التي تلت التأسيس إلى الدرجة التي بسطت سلطانها أو نفوذها على كل من المدن المنتشرة على شمال إفريقيا وعلى صقلية وسردينيا ومالطة وكورسيكا، كما بسطت سلطانها على معظم أراضي شبه الجزيرة الإيبيرية [الشكل 5].
لعل القرنين الثالث والثاني السابقين للمسيح، وهما الأخيرين من عمر قرطاج الفونيقية، هما الأكثر إثارة بالنظر لتسارع الأحداث فيهما في العداوة بين قرطاج وروما. ففي العام 264 ق.م، قامت روما، مدفوعة برغبتها الحد من سطوة القرطاجيين وتوسعهم في حوض المتوسط وسيطرتهم على خطوط التجارة والملاحة البحريتين، بشن أولى ما بات يعرف بالحروب الفونيقية على قرطاج. وقد مُنِيَتْ قرطاج في هذه الحرب التي استمرت بين عامي 264 – 241 ق.م أي طيلة 23 عاماً بخسائر فادحة أهمها تجريدها من جزيرة صقلية، ثم تلتها خسارتها لجزيرتي سردينيا وكورسيكا لدى نشوب الحرب الأهلية القرطاجية.
"هانيبال"، "هانيبعل"، "حنوبعل"، "حنيبعل" و"حنابعل" [الشكل 6] كلها اجتهادات للكيفية التي كان يُنْطَقُ بها اسمُ القائد القرطاجي الكبير. ولا نملك هنا أسباب ترجيح أو تصويب أو تخطِئَةِ أيٍّ منها. غير أننا سنعتمد اسم حنيبعل بالقرعة وليس بالتفضيل طيلة هذا البحث. غير إنه من الراجح أن معنى الاسم هو "حنان بعل" أو شيء من هذا القبيل.
والواقع أن الفصل الأخير من حياة قرطاج الفونيقية يرتبط ارتباطاً وثيقاً باسم هذا القائد إذ لا يمكن التحدث عن تلك الفترة من تاريخ أو أحداث قرطاج التاريخية دون ذِكْرِ اسمه تكراراً. فمن كان حنيبعل هذا؟
وُلِدَ حنيبعل عام 247 ق.م لوالده القائد القرطاجي حميلقار برقا [الشكل 7] في مدينة قرطاج في زمن كانت قرطاج تدنو فيه من خسارة حرب وشيكة، ولكنها طويلة الأمد ومصيرية. وكانت المدينة أثناءها أكثر مرافئ المتوسط ازدهاراً وتملك الكثير من المقاطعات الغنية. غير أنها كانت قد خسرت عام 241 ق.م، أي حين كان الطفل حنيبعل لم يبلغ السادسة من عمره بعد، كُلاً من صقلية وسردينيا وكورسيكا. وقد تركت هذه الأحداث في نفس حنيبعل أثراً عميقاً ستجعل ارتكاساتُها منه بطلاً تاريخياً قلَّ نظيره.
اصطحب القائد القرطاجي حميلقار بَرقا ولده الأكبر حنيبعل الذي لم يكن بعد يبلغ السنوات العشر من عمره إلى إيبيريا عام 237 ق.م. حيث كانت العديد من المدن الفونيقية التي سبق للقرطاجيين وأن أسسوها هناك فيما بات يُعرف اليوم بأندَلوسيا (أي الأندلس) مثل غادير "الحصن" المعروفة اليوم بـ"قادس" ومَلَكة "المدينة الملكية" التي تُعْرَفُ اليوم بـ"مالقة" وقرطاجينا "قرطاج الجديدة" و"قرطبة" التي لا نملك تأويلاً موثوقاً لاسمها.
تمكن حميلقار برقا من التعويض عن خسارته صقلية وسردينيا وكورسيكا بإضافة أراضٍ جديدة إلى سلطانه. ويذكر المؤرخ الروماني تيتيوس ليفيوس (ليفي) أن حميلقار أرغم ابنه حنيبعل على أن يُقْسِمَ بالكراهية الدائمة للرومان. وعلى الرغم من أن تلك الرواية هي محض ابتداع على الأغلب، غير أنها لا تخلو من شيء من الحقيقة ذلك أن للقرطاجيين أسبابُهُمُ الوجيهة ليكرهوا أعداءهم.
وعندما توفي حميلقار والد حنيبعل عام 229 ق.م، تولى القيادة صهره حصروبعل الأشقر حيث لم يكن عمر حنيبعل حينها قد بلغ الثامنة عشرة من عمره. وكان حصروبعل هذا رجل سياسة أكثر منه قائداً عسكرياً. وقد أضاف هذا بوسائطه الديبلوماسية تحسينات على الموقف القرطاجي تجاه روما. وقد تزوج حنيبعل من أميرة إيبيريّة حيث قضى فترة شبابه هناك إلى جانب والده حميلقار برقا.
وفي عام 221 ق.م، حين اغتيل حصروبعل، اختار الجنودُ القرطاجيون المُعَسْكِرون في إيبيريا حنيبعل قائداً عسكرياً لهم، وقد صادقت حكومة قرطاج على هذا الاختيار. وكان حنيبعل حينها قد بلغ السادسة والعشرين من عمره.
عاد حنيبعل إلى أسلوب والده الحربي التوسعي وكانت باكورة أعماله مهاجمة الأهالي المحليين في إيبيريا لتمكين سلطته واستولى على مدينة سَلامانكا عام 220 ق.م. ثم قام بمحاصرة مدينة ساغونتوم حليفة روما العام التالي وسقطت هذه بيده بعد حصار دام ثمانية أشهر. وساعده في ذلك انشغال روما في الحرب الإلّليرية الثانية حيث لم تتمكن روما من تقديم الدعم الكافي لساغونتوم. وكان في ذلك نقضاً للمعاهدة السابقة التي تمت عام 226 ق.م بين روما وقرطاج التي تكون بموجبها هذه المدينة الواقعة على نهر إيبرو الحد الفاصل بين أراضي الرومان وأراضي القرطاجيين.
كان حنيبعل (247 – 182 ق.م) واحداً من أعظم القادة العسكريين في التاريخ. وكانت أهم حملاته وأكثرها شهرة هي تلك التي حدثت إبان الحرب الفونيقية الثانية (218 – 202 ق.م) حيث الْتَفَّ حنيبعل من وراء حاجز جبال الألب [الشكل 8] وباغت الرومان من حيث لم يخطر ببالهم أو يتوقعوا وقد تميزت بجسامة الخسائر بالأرواح والجياد والفيلة التي استخدمها لترويع جياد العدو التي دفعتها جيوش حنيبعل أثناء عبور حاجز جبال الألب الشديد الوعورة والبرودة وتصميم حنيبعل على مواصلة الحملة وبالخسائر الفادحة التي ألحقها حنيبعل بجيوش روما التي كانت نهايتها في موقعة زاما الشهيرة 202 ق.م. ولكن سبقه إلى هناك القائد الروماني Scipio Africanus فما كان لحنيبعل بدّ من مواجهته بجيشه المنهك في معركة زاما الشهيرة التي وقعت عام 202 ق.م والتي لم يقيّض له فيها النجاح. ولـكن نـهاية قرطـاج المأسـاوية كانـت عام 146 ق.م على يـد الـقائد الـرومـاني Scipio Aemilianus الذي اقتحم أسوارها، فانبرت له حاميتها وأهاليها بدفاع مستميت في قتال من شارع إلى شارع ومن بيت إلى بيت خلال حرب الأيام الستة، سقطت المدينة بعدها وأضرم الرومان فيها لعشرة أيام وفرشوا أرضها بالملح حقداً لكي لا تعود أراضيها قادرة على الإنبات وأهلها على إنجاب المزيد من الأبطال.
وكلمة حق نقولها إن صورة حنيبعل تُذَكِّرُنا، بشيء من التشابه، بصورة الإسكندر الذي مازال يحظى حتى اليوم بلقب أعظم القادة العسكريين في التاريخ بلا منازع. غير أن الفرق الأساسي بين الأول والثاني أن حنيبعل ربح جميع المعارك التي خاضها ضد روما، ولكنه خسر الحرب نهاية المطاف في زاما ولم يحقق غايته، في حين أن الإسكندر ربح جميع المعارك التي خاضها ضد غريمه الأساسي داريوس الكبير الفارسي وسواه من الملوك والقادة الآخرين على مدى البلاد التي اجتاحها، ولكنه ربح الحرب في النهاية وحقق أهدافه، هذا ناهيكم عن الفرق الشاسع في اتساع رقعة الأراضي التي استولى عليها الإسكندر مقارنة بتلك التي أرادها حنيبعل دون أن يستولي عليها بالمحصلة.
قرطاج المدينة:
ليس ميسوراً ولا مجدياً في بحثٍ مكثفٍ كهذا الخوض في تطور مخطط مدينة قرطاج لأنه، وببساطة لم يتوصل الآثاريون ولا الباحثون بعد إلى الصورة المتكاملة لهذا التطور بدءاً من التأسيس وعبوراً بالعصور التي تعاقبت على قرطاج. لذا، فإننا سنكتفي هنا بإعطاء تصور معقول لما يُرَجَّح أن المدينة كانت تبدو عليه في عصور متقدمة بعد تأسيسها المفترض في القرن التاسع قبل الميلاد، وتحديداً في القرن الثاني للميلاد.
يُظْهِر [الشكل 9] منظراً جوياً تخيلياً باتجاه الجنوب لقرطاج في الدورالروماني. بينما نشاهد في [الشكل 10] منظرين جويين تخيليين آخرين باتجاه الشمال يُظْهِران المدينة والميناء. أما [الشكل 11]
فيمثل منظراً جوياً حقيقياً باتجاه الشمال لمدينة قرطاج اليوم.
بعد هذا التعريف بالصورة التقريبية الإجمالية لمدينة قرطاج التاريخية القديمة سنقوم بزيارة موقعية سريعة على أهم ما تبقى اليوم من أوابدها مع الإشارة إلى العصور التي تنتمي إليها هذه الأوابد حيث يلزم....
نبدأ جولتنا من ساحة الأكروبول على قمة تل برصا حيث يمكننا الإطلال مباشرة على الحي الفونيقي.
[الشكل 12] الحي الفونيقي المدعو أيضاً "حي حنيبعل؟؟؟".
[الشكل 13] مشاهد من بقايا الميناء الحربي والتجاري:
الـ "توفيات"Tophets:
يُجْمِعُ عدد من علماء الآثار اليوم على أن القرطاجيين كانوا يمارسون تقديم القرابين من الأطفال. غير أن الأدلة الأثرية لا تؤيد هذا الإجماع بالمطلق وما زال الجدل قائماً حول مدى واقعية هذه المسألة وصدقيتها.
وقد عُثِرَ على مقبرة لا تبتعد عن الميناء الفونيقي إلا ببضعة مئات من الأمتار تحوي بضعة مئات مما يُطْلِقُ عليه الآثاريون اسم الـ"توفية" Tophet وهي عبارة عن شواهد قبرية لما يُفتَرَضُ أنهم قرابين (أو أضاحي) بشرية من الأطفال ؟؟؟ [الشكل 14].
وقد عثر على بقايا عظام بشرية لأطفال وحيوانات في هذه المقبرة. ومع أن احتمال تقديم الأطفال كأضاحي بشرية يبقى قائماً حتى يثبت لنا خلاف ذلك، فإن هذا الطقس ربما اقتصر على حالات الأزمات الفائقة الحرج. ففي العديد من الحالات، كان القرطاجيون يستعيضون عن (التضحية بالأطفال؟؟) بقرابين من الحملان والماعز أو حتى من الأطفال المتوفين.
وتبقى مسألة أن كان القرطاجيون كانوا يمارسون هذه الطقوس موضع جدل لم يحسم بعد بشكل نهائي.
ونشير هنا بالمناسبة إنه عُثِرَ صدفةً في مدينة صور على الساحل اللبناني على مقبرة "توفيات" في موقع "صور البص".
حمامات أنطونينوس والحي المجاور لها:
[الشكل 15] مخطط لموقع حمامات أنطونينوس والمنطقة الأثرية المجاورة له من جهة الغرب.
نطل على خليج تونس بمواجهتنا إلى حيث حمامات أنطونينوس [الشكل 16].
تغطي الحمامات مساحة تزيد على 4 هكتارات بنيت في عهد الأباطرة الأنطونيين (138-161م) ولم يبق منها اليوم إلا المستوى الأول والمستوى المبني تحت الأرض الذي يضم حجرات مقبية ترتكز عليها قاعات الاستحمام العملاقة. ومنها القاعة الباردة الكبيرة التي يستند سقفها على ثمانية أعمدة ضخمة من الغرانيت.
المشاهد الباقية اليوم هي، في معظمها، من الطابق السفلي، إذ لم يبق من الطابق العلوي إلا النذر اليسير.
إلى محطتنا الأخيرة لنزور متحف قرطاج القائم على تل"بُرصا".
تأسس متحف قرطاج الوطني [الشكل 17] عام 1875 على قمة تل بُرصا بجانب كاتدرائية القديس لويس على يد الكاردينال شارل مارتيال لافيجيري Charles Martial Lavigerie وقد بقي يُعْرَف باسم متحف لافيجيري حتى العام 1956 حين قامت الدولة التونسية بإعادة تسميته بـ"متحف قرطاج الوطني".
يضم المتحف مجموعات كبيرة من التحف المتنوعة التي تتراوح بين الفسيفساء والتماثيل والسُرُج والفخاريات والنواويس إلخ من العصور الفونيقية والرومانية.
[الشكل 18] كاتدرائية القديس لويس على تل بُرصا بجانب متحف قرطاج الوطني.
بنيت الكاتدرائية عام 1890م على الموقع الذي توفي فيه الملك لويس التاسع عام 1270م أثناء حملته على تونس. لم تعد الكاتدرائية مستخدمة اليوم للأغراض الدينية، بل هي مقتصرة على الأنشطة الثقافية.
يلاصق الكاتدرائية مبنى صغير يحمل اليوم اسم الأكروبوليوم وهو مخصص لأغراض السياحة الثقافية.
المحطة الأخيرة: مسرح قرطـــاج الأثري [الشكل 19] الذي يستضيف العديد من فعاليات مهرجان قرطاج الدولي سنوياً.
خاتمة:
كانت تلك وقفة موجزة على أهم ما تجب معرفته عن قرطاج، هذه المدينة التي زينت صفحات التاريخ بأمجاد سطرتها بأيدي أبنائها وقدراتهم. وأرجو أن أكون وُفِّقْتُ إلى التعريف بها.
هوامش:
(1) المينوئيون تاريخياً هم الكريتيون الذين قامت حضارتهم على جزيرة كريت وشملت كل ما هو جزر بحر إيجة في القرون الثلاثة السابقة للقرن الحادي عشر السابق للميلاد. وقد اكتسبوا اسمهم هذا نسبة للملك الأسطوري مينوس الولد الأكبر من اقتران زفس كبير الآلهة اليونانيين مع أوروبا أميرة صور اقتراناً إلهياً. وكان زفس هذا قد أحال نفسه إلى ثور أبيض وحمل أوروبا من على شاطئ مدينة صور مختطفاً إياها إلى جزيرة كريت حسب الأسطورة اليونانية.(المهندس ملاتيوس جغنون)
(2) تُصِرُّ كافة المصادر التي استشرتُها، دون أي سند فيلولوجي مقنع، على تفسير لفظ "بُرصا" بـ"جلد الثور" ؟؟!! وحيث أن الأسطورة تحدِّثُنا عن عملية إحاطة أليسار للأرض بجلد الثور التي لا تدخل في العقل العلمي لا من قريب ولا من بعيد، فإن هذا الأمر دعاني للبحث عن معنى اللفظ حقيقة الأمر بعيداً عن المنحى الأسطوري. وأنا أرى، بعد البحث والتقصي، أن لفظ "بُرصا" بِحَدِّ ذاته هو الحقيقة الوحيدة الباقية الممكن الركون إليها بمنأى عن تفسيرها "الأسطوري". وبرأينا أن "برصا" لا تعني إلا "الحصن" ولا شيء آخر. فالمكان المرتفع من المدن القديمة كان مخصصاً لبناء الحصن كونه الأكثر أهلية لهذه الوظيفة الحيوية العسكرية، وهذا ما ينطبق على الموقع الذي يحمل الاسم إياه في قرطاج. ولنا من "بصرى" أكبر دليل على ما نقول، هذا اللفظ الذي يعني، حسب بعض فروع ما بات متعارف على تسميته باللهجات "السامية ؟؟!!"، "المَعْقِل" أو "المكان الحصين" أو "الحصن" ولا شيء آخر [ انظر LITTMAN, Enno: Ancient Semitic Inscriptions الصادر عن جامعة Princeton كحصـيلة لأعمال التنقيب والـدراسات التي نفذتها "حملة جامعة برنستون الأركيولوجية إلى سورية" Princeton University’s Archaeological Expedition to Syria (PAES) ]. فبالنسبة لبناة المدن والممالك القديمة، كان أول وأهم شيء يفعلونه هو بناء مكان يلوذون به ويتحصنون على مواضع مرتفعة تفضيلاً. أما عن تسبيق حرف "الصاد" على حرف "الراء" في "بصرى" فهذا أمر جد مألوف باختلاف اللهجات. فهناك من يقول "مسرح" وهناك من يقول "مرسح" ليفيد المعنى ذاته، وأيضاً هناك من يقول "سجّاد" وهناك من يقول "سدّاج". فلا عجب، إذن أن نقول "بُرصا" و"بُصرا" أو بصرى" لنفيد المعنى ذاته. ونذكر هنا، بالمناسبة أيضاً، مدينة بورصا Bursa (في ما هو تركيا اليوم) التي لا نستبعد أن تكون أخذت اسمها بطريقة مماثلة. (المهندس ملاتيوس جغنون).
المصدر : الباحثون العدد69 أذار 2013