تقع دورا أروبوس جنوب شرقي مدينة دير الزور, على بعد 40 كم شمال غرب البوكمال، على هضبةٍ مطلّة على نهر الفرات من خلال جرف شديد الانحدار بارتفاع 40م. وعموماً لم يتمّ اختيار هذا الموقع بشكل عشوائي, بل أُدركت أهميته كونه يشرف على السهل ويتحكم بحركة التجارة, فضلاً عن الحماية الطبيعية التي تتمتع بها المدينة من ثلاث جهات: فمن الشرق جرف عميق، وأودية قصيرة وشديدة الانحدار من الشمال والجنوب بحيث يشكلان حاجزين طبيعيين من هاتين الجهتين ضد الغزاة بحيث لا يمكن الوصول إلى المدينة إلا من جهة الغرب أي جهة البادية, لذلك اعتنى سكانها بإحكام تحصين المدينة من تلك الجهة
كان اكتشاف المدينة وليد الصدفة، ففي آذار عام 1920م، وأثناء حفر الجنود الإنكليز الخنادق في الصحراء، سقط الجند في فراغ تكشفّت جدرانه عن لوحات تحمل رسوماً لأشخاص يرتدون أثواباً طويلة وقبعات مخروطية مما استدعى طلب الباحث الأمريكي جيمس هنري بريستد لتفحّصها، وتقدم إثر ذلك بوصف مفصل عنها إلى أكاديمية النقوش الفرنسية التي سارعت إلى تشكيل بعثة برئاسة الباحث البلجيكي فرانس كومان F.Cumont، حيث عملت في الموقع من عام 1922 إلى عام 1924، ثم أهمل الموقع حتى عام 1928، حيث تشكلت بعثة فرنسية أمريكية برئاسة الباحث الأمريكي م. روستوفتزف M.Rostovtzeff والتي نقبت ثلث مساحة المدينة تقريباً خلال عشرة مواسم، وبعد بدء الحرب العالمية الأولى هُجر الموقع وترك لعوامل الطبيعة وبقي كذلك حتى عام 1986، حيث تشكلت بعثة فرنسية سورية برئاسة بيير لوريش Leriche.P من الجانب الفرنسي والسيد إدمون العجي Idmon El Ajjy من الجانب السوري وتم استئناف عملية التنقيب في الموقع من جديد, وما تزال هذه الأعمال مستمرة حتى الوقت الحاضر برئاسة السيد بيير لوريش.
أُسست دورا أوروبوس مع نهاية القرن الرابع قبل الميلاد، على يد أحد ضباط الملك سلوقس الأول، كحامية عسكرية مقدونية بسيطة، بهدف بسط السيطرة على الفرات الواصل بين عاصمتي الإمبراطورية السلوقية أنطاكية وسلوقية (على نهر دجلة)، واسم دورا أوروبوس يبيّن أصول المدينة إذ تعني كلمة دورا بالآشورية «الحصن» وأوروبوس اسم مسقط رأس سلوقس الأول. تحولت هذه الحامية إلى مدينة في القرن الثاني قبل الميلاد حين اكتملت تحصيناتها الخارجية وتقسيماتها الداخلية وفق النموذج الإغريقي الخالص.
مع بداية القرن الثاني قبل الميلاد هاجم البارثيون الأراضي السورية، ومن أجل الدفاع عن المدينة، تم استكمال بناء أسوارها بمادة اللَّبِن بدلاً من الحجر المنحوت، ولكن لم يكتب لمباني ساحتها المركزية أن تُستكمل، في عام113 ق.م سقطت المدينة تحت السيطرة البارثية، وبقيت تحت السيطرة البارثية لمدة ثلاثة قرون عاشت خلالها المدينة عصرها الذهبي من حيث السلام والتآخي الديني، فقد انصهرت العبادات والعقائد الدينية البارثية الغربية مع العقائد والعبادات الإغريقية, حيث تنوعت وتعددت الآلهة المعبودة في دورا أوربوس, كالبابلية والآرامية والغربية والفينيقية إلى جانب الآلهة المحلية وبنيت المعابد الجديدة ورُممت القديمة. وما لبث أن ظهر في منتصف القرن الأول ق.م خطر آخر كان بداية مرحلة جديدة للمدينة, هو تحدي الرومان للسيطرة البارثية في وادي دجلة والفرات حيث هاجموا المدينة واحتلوها وأصبح سكانها مواطنين رومان بفضل مرسوم صادرٍ عن الإمبراطور كَرَكلا, وأضاف الرومان إلى المدينة بعضاً من أقواس النصر والمعابد العسكرية والقصور. ولم يدم حكمهم للمدينة أكثر من قرن، عندما احتلها الساسانيون، ودمروها وهجروا أهلها على يد شابور الأول عام 256م، إذ زارها بعد قرن من هذا التاريخ الإمبراطور الروماني جوليان فوجدها مدينة خالية، هجرت المدينة حتى القرن السابع الميلادي، ثم استوطنتها مجموعة عربية أموية بجوار قلعتها قبل أن تترك للنسيان لأربعة عشر قرناً خلت.
لقد أظهرت التنقيبات الأثرية مدينة محصنة بأسوار منيعة مزودة بستة وعشرين برجاً وأربع بوابات أهمها بوابة تدمر إضافة إلى القلعة وعدد من القصور (قصر القلعة، قصر الحاكم، قصر حاكم النهر) وهي ذات تخطيط شطرنجي تقسمها الشوارع إلى عدد من الجزر السكنية المنتظمة وتحتوي على الساحة المركزية (الآجورا) وعدد من الحمامات الرومانية وما يفوق ستة عشر مبنى دينياً مثلت مذاهب وديانات مختلفة منها الوثنية ومنها التوحيدية وأهمها الميثاريوم ومعبد بل وأرتميس وأثارغاتس, أرتميس نانايا, زيوس كريوس، والبيت المسيحي الأقدم في العالم والكنيس المحلي، (الشكل 1) وقد زُين معظمها بالرسوم الجدارية والتي أهّلت المدينة لنيل لقبب ومباي الصحراء (الصورة 6)، كما عثر على الكثير من التماثيل والمنحوتات التي تبرز طبيعة الفن الخاص بدورا أروبوس والتي تأثرت بثقافة الشعوب التي عاشت فيها، كتمثال الإلهة أفروديت فوق درع السلحفاة، ومنحوتة الإله آرشو ومشهد الإله ِبلْ وكثير غيرها، أُنجزت جميعها باستخدام حجر الجبس، كما عُثر على العديد من المخطوطات الرقية والنقود، وأشلاء من ورق البردي والنقوش الكتابية.
لقد عاشت المدينة قرابة خمسة قرون عرفت خلالها التعايش بين الحضارات المختلفة الشرقية والغربية وامتزجت فيها مختلف أشكال الفنون.
المصادر والمراجع:
-الصالح, إبراهيم :1984 "صفحات مطوية من تاريخ دورا أروبوس ", الحوليات الأثرية السورية، دمشق، م34.
-لوريش, بيير: 2004 "الظاهرة العمرانية في سورية الهلنستية ", المدينة في سورية وأقاليمها, ترجمة محمد الدبيات, دمشق,
-BUTCHER. K., 2003, Roman Syria And The Near East,BritishMuseum Press,د
-GELIN, M., 2000, Histoire et Urbanisme d une Ville Atravers son Architecture de Brique Crue ,L exemple De Doura- Europos,. Thèse، universite de Paris.
HOPKINS. C., 1979, The Discovery of Dura-Europos, New Haven and London,-
FROMENTIN.E., 1994, "La Syrie Hellenistique", La Syrie art, Histoire، Architecture، Paris –
ROSTOVTZEFF. M., 1938, Dura-Europos And its Art, Oxford-
المصدر : الباحثون العدد 69 أذار 2013