لقصائد الشاعرة زكية مال الله في مجموعتها الشعرية «على شفا حفرة من البوح»، نكهة معينة لا تتوافر غالباً لشعر الشعراء المحدثين الذين ينهلون من معين الثقافة الغربية، فهي تملك ثقافة لغوية متينة، وقدرة عجيبة على تفجير اللغة وإخضاعها للتعبير عن حياتها الداخلية اللاواعية، وفي قصائدها تعبير عميق عن اللاشعور يصل إلى حدّ التجريد والغموض، ويستعصي أحياناً على القارئ العادي حتى المثقف ثقافة سطحية. على أن شعرها «لا يسلمها إلى لون من العدمية التي نجدها عند بعض الوجوديين، أو العبث واليأس، وقد أنقذها من تلك العدمية إيمان قوي بالخالق، وتمسك شديد بالموروث الديني، تعززه ثقافة فلسفية ودينية راسخة برزت في شعرها، وبخاصة ما يتعلق منه بالتصوف الذي يتجلّى في دواوينها جلّياً، فهي تُضمّن شعرها تجليات صوفية ترقى بها إلى الحلول والاتحاد بالعزة الإلهية»، ويبدو أنها قارئة متعمقة لمذاهب المتصوفة.. ففي مطلع مجموعتها الشعرية تضمّن قصيدتها التي عنوانها: «من بين ثقوبي.. أنت» ما ورد في رسالة المتصوف الشيخ فريد الدين العطار «منطق الطير» المؤلّفة عام 627هـ، وفيها تعرض رمزياً إلى رحلة الطيور بزعامة «العنقاء» مجتازة بلاد الثلج والصحارى والبوادي لتقابل العزة الإلهية بهدف التحرر من قيود العالم المادي عبثاً، والرسالة دعوة للنفس كي تجوب آفاق العشق الإلهي دون أن تطلب ثمناً لذلك أو ميزة.
والعنقاء كما هو معلوم طائر يحترق ويخرج من رماده بيضة تفقس فلا تنتهي حياته، بل تتجدد كل ألف عام، والشاعرة «مال الله» تستعير تلك الأسطورة فتقول:
الطير توافد يستقرئ
غلقتُ الحالَ .. السمع.. البصر
ولا باب يحجبُ روحي
مجمرتي شمس
ورمادي جيشٌ في ذرات الضوء
ثم مليكٌ أوشك أن يتجلّى.. فَأَخِرُّ لهلّته صَعِقا
وأنا الققنسُ أستجمع حطب الذات
وأثقب عظمي
فلتحملني الريح لموطئ قدميّ
حيث الكلأ الجوعُ
يلملم قطعانَ الخطو
ما زلت بسرداب الروح أكلّمُ بردي
والشاعرة في تصوفها، لا تنهل من مذهب صوفي معين، ولكنها تستعين بكل ما خلّفه التراث الإسلامي الصوفي من مذاهب وآراء، فتصوغها تجلّيات تفصح عن ذاتها المتعطشة للمطلق، وفي شعرها شيء من مذهب الصوفي (ابن عربي) ونظريته في وحدة الوجود، فقد كان هذا المتصوف يرى أن الوجود حقيقة واحدة، ويعدّ التعدد والكثرة أمراً قضت به الحواس الظاهرة، ولكن العقل البشري قاصر عن أن يُدرك الوحدة الذاتية للأشياء أو يدرك المجموع كمجموع، وقد عبّر عن نظريته في كتابه «الفتوحات المكية» بقوله:
[سبحان من خلق الأشياء وهو عينها] وقرّر الوحدة الذاتية للخالق والمخلوق في شعره إذ يقول:
يا خالق الأشياء في نفسه
أنت لما تخلقه جامعُ
تخلق مالا ينتهي كونه
فيك فأنت الضيّق الواسع
******
إن مبدأ وحدة الوجود عند «محيي الدين بن عربي» يتجلَّى في شعر الشاعرة «زكية مال الله» إذ لا فرق عندها بين المخلوق والخالق، بين الواحد والكثير إلاَّ بالاعتبار والنظر العقلي، وإنما تدرك وهي العارفة في مفهوم المتصوفين ذلك الفارق بطريق الذوق والتجلي...
والشعر عند «زكية» لون من ألوان التجلي الصوفي الذي يحاول فيه الشاعر أن يعبّر باللغة بالرغم مما في اللغة نفسها من عجز وقصور عن التجليات الداخلية وتوق للخالق والإيمان بوحدة الوجود، ولذلك اختارت الشاعرة عنوان ديوانها: «على شفا حفرة من البوح» لأن تعبيرها الشعري يقف عاجزاً عن البوح الكامل... فلم ينجح في الإفصاح عما يخالج نفسها من تجليات وإنما يقارب البوح دون أن يفصح.
إن وحدة الوجود في قصائد الشاعرة تتجلى في مواطن كثيرة من الديوان، فهي ترى أنها نالت بركة الخالق بتجلياتها:
ها أنا المباركة
جئت أنحني على ركبتي وأستوهب نفحاتي
مثلما تتجلّى حين تخاطب القارئ بلسان نبي:
بشِّرْ عنّي
أعلن مولدك الأول بين يديّ
اخضرَّ الخلق بأعوادي
وتدفّق بين عروقي الليل
فأطبقت بأجفاني
كي لا يتبعثر فيَّ الحلم
إنها بإغماضة جفن تريد أن تسد منافذ الحواس الخارجية، لكي لا تعطل تجلياتها الداخلية، وأما الطريق إلى الكشف الإلهي فإنما يكون بلون من محاولة القبض على المشاعر مع تعطيل العالم المادي الخارجي من حولها الذي يشوّه صفاء الرؤية.
وممّا يظهر ثقافتها الصوفية وإيمانها بوحدة الوجود أنها ترى الوجود كما يراه «ابن عربي» حركة مستديرة تنتهي إلى حيث تبتدئ. ففي شطحاتها الصوفية تخاطب المحبوب، ولعلّها تقصد الخالق فتقول:
النهايات فيك كان تؤجج البداية
من كاحل الشمس اشتققتك
آثرتَ أن تنزوي
في شرفة الغيب ذاكرة من غبار
فالحب عندها حركة مستديرة كحركة الوجود، كل نهاية فيه تؤجج البداية، إنه كطائر الققنس الذي تنبعث من رماده حياة جديدة.
وتزاوج الشاعرة بين مثنوية الحب بمعناه العميق وحب الخالق.. وهي مزاوجة استخدمها شعراء الصوفية كابن الفارض وسواه، غير أنهم جعلوها في إطار من الغزل العذري العفيف، فهي تنسج على غرارهم في كثير من قصائدها الصوفية:
خشيت ليدنو
وما احتملتْ أضلعي مقدمَه
فإن غاب عني شكوت
وإن بانَ نزّ بدمعي دمه
غريب قريب
احتواني بظلي
فأوشك أن يستبيح هوايَ فمه
غير أن الغزل العذري ليس الأسلوب الوحيد للاتحاد بالخالق أو الحلول فيه، فكل فعل إنساني أو مظهر من مظاهر الطبيعة في شعر «زكية» أو تواصل بين المحب والمحبوب هو لون من التسامي والتوق إلى المطلق، ولو كانت الصورة مستوحاة من عالم الجنس:
تقطفني
وتُعيد صياغةَ ألواني
كفّان مضمَّختان
قميص قُدَّ
وبقعة دمْ
تُخفيني في رقعة قدميك
أخطو لسماء تحجبني عن قيح الأرض
فالأبيات فيها تضمين لقصة «يوسف» حين اتهمته زوجة فرعون بأنه اعتدى عليها وقدّ قميصها، ولكنها تضيف إليها صورة العدوان على العذرية بالإشارة إلى بقعة الدم، وفي المقطع الرابع من قصيدة «نساء» تطالعنا الشاعرة الصورة الآتية:
ممتلئ بمناجلَ
وعراجينَ
وقمح
تكنزني فوق شفاهك
أتفتق كالأرجوحة
أتدلّى عبقاً
***
وتغشَّاني
استبقيت بصدري الكأس الأولى
قالَ: نبيذك أشهى
قلت: عبّئ بالموت رحيلك
واستنفدني
إن التناقض الصارخ بين عالم اللذة الجنسية والنقاء والتسامي إلى المطلق يجتمعان معاً في آفاق الشاعرة التعبيرية، فيوفرا لوناً من التضاد بين الطهر والدنس، ويعكسان صراعاً نفسياً لدى الشاعرة بين عالم الإثم الذي تفرّ منه، وعالم البراءة والطهر والنقاء الذي تتوق إليه، متجاوزة أساليب القدامى في التعبير عن وجدها، إذ تجعل حنينها إلى الخالق وشوقها إليه واندغامها به لوناً من التواصل الحسّي بين المحب والحبيب..:
الليالي المعراة
وأمسية من بقايا الشفاه
حبوت لألتمَّ بين نسيجي
تضعضع خيطي
وأمسيت ثقباً
لكنها في مسيرة المكابدة والتجلي لم تبلغ درجة الكمال، فما زالت أمامها مراحل من المعاناة لتحقق وجودها بكل ما تعاني منه، فهي إنسانة، أي عالم صغير تتجلى فيه وحدة العالم الكبير غير أنه عالم لم يكتمل بعد، وهو يعاني من التجزئة والصراع بين الشهوات الأرضية المادية، ونزوع الروح، فما زالت بعيدة عن الاتحاد بالذات الإلهية وإن كانت قد قطعت شوطاً في العروج إليها:
شعرة بيننا
تبتغيها الرياح
قصصت شعوري
وأبقيت فوق الجبين
اشتهاءَكَ خصلة
وفي توقها ومكابدتها تنسى الزمن ووجودها فيه وتعبر عن مواجدها بلغة هامسة:
كالحٌ وجهي هذا المساء
زقاق تعرّج فوق الغضون
توجّستُ أن تصطفيني النفايات
وتلفظني عاديات الزمن
أعدُّ الرهان
هل الأمس كان
أم اليوم كنتُ
ولي مسكنٌ في السهوب
وبي وقدة من لظى الحائرين
ويتحول حنينها للمطلق إلى لون من العبادة تماثل تعبّد النسّاك إلى أن يوصلها التجلي إلى الكشف عن الذات الإلهية، وسبيلها إلى الله شفاعة غار حراء.
ناسك أستجير
بغار الأحبّة
ذاك حِراء
العنكبوت بعينيّ
تجليت ذات نهار
وكنت على أهبة الاصطلاء
شمس تفيق
وأخرى تولّي
وفي سورة القلب
نورٌ تجلّى
لمحتك تخطر بين المنازل
تطوي دروباً
وفي راحتيك الشموس استدارت
فأطللتُ ألثم وجهي فتياً
وقد كنت أرنوه في الليل كهلا
تشبثت بي
احتويتك
ما من مفرّ
وبوحي اضطرم دنا
قاب قوسين مني تدنَّى
وتستعين الشاعرة «زكية» في رسم شعورها بتراكيب لغوية تستمدها من القرآن الكريم والتراث الإسلامي، فتشيع في شعرها إشارات إلى نمل سليمان، والبقرة الصفراء، والعرش والكرسي، وتابوت موسى أو مهده، والحجاب الرباني، والجنات بما فيها من عسل وخمر ولبن، والجبروت والقيوم. وغير ذلك من التعابير الدينية المباشرة والرمزية، فتسبغ على شعرها لوناً من القدسية والغموض، لكنه غموض يختلف عن الغموض في الشعر الحديث بسبب اختلاف المرجعية، ذلك أن أغلب شعراء الحداثة، يحاكون الشعر الغربي، فيرسمون عوالمهم الداخلية بإحساس مشبع بالعدمية وتفاهة الوجود في حين أن «زكية مال الله» لا تعاني من الشعور بالعبث أو العدمية, وهي لا تقلد شعراء الغرب، وإنما تستصفي تجربتها الشعرية من التراث العربي الإسلامي، وتبني تجديدها الفني على أساس راسخ من التراث، وهو تجديد حقيقي جدير بأن يلتفت إليه أدباؤنا، إذ لدينا كنوز من التراث يبني عليها الشاعر تجربته الفنية من غنى الروح، ومن ابتعاث تجاربنا الروحية الماضية بعيداً عن الخواء الروحي واليأس والتشاؤم، فالشاعرة تبدو من خلال قصائدها مشيّعة بالغبطة والرضا، والعمق النفسي والارتباط بهدف سامٍ يجعلها تحيل معاناتها إلى فرح غامر، وتصعّدها نحو المُثل النابعة من التراث، وقد ألحّ النقاد الذين درسوا مفهوم الحداثة الشعرية، وما يجب أن تكون عليه في تراثنا على ضرورة بنائها على أسس راسخة من ماضينا الثقافي، أما التقليد والنقل الأعمى لتجارب المحدثين في الغرب فليس وراءه إلاَّ الإخفاق، لأن الفن الغربي وليد ثقافة غريبة، وبيئة تختلف عن بيئتنا.
وتجديد الشاعرة «زكية مال الله» لا يقتصر على المضامين الشعرية، وإنما يقوم على بعث مصطلحات الصوفيين، واستثمار تراكيب اللغة المتداولة في كتبهم، أو تضمين شعرها عبارات ورموزاً من القرآن الكريم، لكن الصياغة الفنية اللغوية عندها لا تستند إلى التراث فحسب، بل فجّرت طاقات اللغة وعمدت إلى انزياحات لغوية عبثت فيها حتى بالبنية اللغوية، ولاسيما انتقالها المفاجئ على مستوى الخطاب من ضمير المتكلم إلى ضمير المخاطب أو الغائب، فإبداعها لا يتحدد بوظيفته الاجتماعية وإنما يتحقق بشكل التعبير أي بنية الكلام وشعرية اللغة، وكلامها الشعري يقوم على المجاز التعبيري أو ما يسميه أدونيس بالمجاز التوليدي لما يتضمنه من بعد أسطوري رمزي...
من سيصدق...؟؟
بلقيس فوق جفوني
تستقرئني
لِمَ عدتَ
عيناك تطيل التحديق
شفتاك تبوح
وبين الفيئين جبال من ملح تمتد
استعمرتك في الأرض المطمورة
خلف العرش
أسرجت الكرسي
نفيت الحاجب
علّقت الأجراس
غير أن هذه الجمالية الشعرية في قصائدها، ذات فعل دلالي يثير الوعي، ويعمق الإحساس والشعور، ولا ينفي جانب اللغة، وهي تستند إلى عناصر درامية.. فهي تستمد مادتها من الخلفية الدينية والخيال السحري الذي ينقل الإنسان إلى عالم غريب من الرمزية والعمق الفكري وغنى الصور والحركة، والعمق الروحي للتراث العربي الإسلامي.
المصدر : الباحثون العدد 69 أذار 2013