تعيش بساتين التفاح في كل مكان مأساة صامتة: لم يعد اللجوء المكثف إلى مبيدات الحشرات يحمي التفاح من الطفيليات وربما بات الإنتاج مهدداً فعلاً في بعض البلدان. مع ذلك، الحل موجود.. في كازاخستان، التي أثبتت أبحاث مضنية أن أولى أشجار التفاح في التاريخ كانت موجودة هناك. ليس هذا وحسب، فهذه الأشجار الأصلية تحتضن أيضاً الجينات التي يمكنها إنقاذ التفاح الحالي في العالم.
يحتضن بعض مناطق آسيا الوسطى أشجار تفاح أصلية تعتبر جَدّة الأشجار المثيلة الموجودة حالياً، وبها يتعلق اليوم مستقبل صحة التفاح واستمراريته. في الواقع، تتعرض هذه الفاكهة اليوم، في كل مكان من العالم تقريباً، لهجمات في غير أوانها من طفيليات متعددة، إلى درجة أن هنالك اليوم حاجة لنحو 35 علاجاً بمبيدات الحشرات للقضاء على واحد من أسوأ أعدائها: جَرَب التفاح. تحتفظ شجرة التفاح الأصلية الموجودة في كازاخستان المسماة علمياً Malus sieversii، بأسرار المقاومة الطبيعية لأمراض التفاح الحالي، نظراً لما تتمتع به من تنوع جيني كبير جداً.
يشير عدد من الخبراء إلى أن الوقت المتاح لإنقاذ التفاح من آفاته قصير! ويعرف المزارعون، الذين بدؤوا سباق تسلح كيماوي ضد أمراض شجرة التفاح، أن لهذا الإجراء حدوداً. ويكمن الأمل الوحيد لحماية هذه الفاكهة من الانقراض في إيجاد ضروب جديدة أكثر استعداداً للمقاومة. في الواقع، انتهت الآن الأبحاث حول إيجاد ضروب فائقة المردود، وأصبحت "برامج تحسين الضروب كلها تركِّز وحسب على مقاومة الأمراض"، حسب عبارة " فرانسوا لورنس " François Laurens، اختصاصي أشجار التفاح في " المعهد الوطني للأبحاث الزراعية " Inra بفرنسا، لأن ضروب التفاح الرئيسية ("غولدن"، "غالا"، "غراني سمث" Golden, Gala, Grany Smith) المنتجة حالياً في العالم، شديدة التأثر، كما أن التفاح الأحدث، مثل الـ "بنك ليدي" Pink Lady، المنحدر من عملية تهجين مع الـ "غولدن"، أشد تأثراً أيضاً، يضيف الباحث.
أشجار التفاح الكازاخية البرية
ينبغي اليوم إدراج جينات المقاومة، الموجودة في ضروب أخرى تقاوم غزو الطفيليات طبيعياً، في الضروب الجديدة، التي ينبغي إخراجها من مأزق الأمراض. هناك أنواع أشجار تفاح برية تتميز بهذه القدرة من حيث أنها تمكنت من مقاومة الأمراض والاستمرار دون استعانة بالكيماويات المستخدمة في الوقت الراهن. ولكن يلزم أيضاً أن يكون تفاحها صالحاً ومناسباً للأكل. يوجد في الوقت الحالي خمسون ضرباً من أشجار التفاح البرية، بينها نوع واحد يتمتع بهاتين الميزتين الجوهريتين: المقاومة والصلاحية. هذا ما اتضح وجوده للعلماء في جبال كازاخستان منذ ما يقرب من قرن، ولكن لم تكتشف قيمته إلا اليوم. "تتمتع شجرة التفاح الكازاخية بقدرات كمونية عالية جداً"، حسب تأكيد الباحث" هيرب ألدوينكل " Herb Aldwinckle، من دائرة الأمراض النباتية في جامعة Cornell بالولايات المتحدة، نظراً لأن ثمارها كبيرة كفايةً ولأنها تضاهي في خاصياتها أجناس التفاح الحالية. وحسب رأيه، "ستكون ذخيرة جينات التفاح الكازاخي الأصلي مفيدة جداً لإيجاد ضروب جديدة، في العالم كله". سيأتي خلاص التفاح إذاً من الماضي، لا من الحداثة، ولكن ليس أيّ ماض: "ليست الشجرة Malus sieversii، التي تعتبر خزاناً جينياً مذهلاً، سوى جَدّة أشجار التفاح المحلية! أن تكون مجموعة سلف أكثر تنوعاً جينياً من مجموعة أخرى حديثة، فتلك ظاهرة يعرفها علماء الأحياء جيداً: تنشأ هذه الظاهرة من أن الأشجار التي تشكل المجموعة الجديدة لا تكون حاملة إلا لجزء من التنوع الجيني لمجموعة الأشجار الأصلية. ويكون هذا التنوع الجيني محدوداً أكثر لدى الأنواع المحلية ذات الضروب (المجموعات الفرعية) التي كان قد انتقاها الإنسان على أساس مواصفاتها الزراعية وحدها. لزم إذاً العثور على أصول التفاح لكشف "حوضه" الجيني وإثبات خاصة السلف لأشجار التفاح الكازاخية. وكانت هذه فكرة عالم الأحياء الروسي الشهير "نيكولاي فافيلوف" Nicolaï Vavilov الذي توفي منذ نحو سبعين سنة.
كان "نيكولاي فافيلوف" أول من أدرك أهمية التنوع البيولوجي منذ بداية القرن العشرين. لقد رأى فيه وسيلة للحد من تأثر الزراعة بالأحداث المناخية والأوبئة والآفات الحشرية، فطاف العالم بحثاً عن "مراكز تنوع" أصول النباتات المزروعة. وفي عام 1929، أوصلته رحلاته إلى غابات "ألماتي" في كازاخستان. هنا، على مقربة من الحدود الصينية، في سلسلة جبال "تيان شان"، تنمو أشجار تفاح برية، ذات أغصان كثيرة العُقد ومتشابكة مع النباتات المعترشة، وغزيرة الثمار، دون أن تكون قد امتدت إليها يد إنسان من قبل أبداً. فكر حينذاك بأن "تيان شان" يمكن أن تكون المركز الأصلي للتفاح وأن الـ Malus sieversii هي جدة أشجار التفاح كلها. لكن "فافيلوف" مات عام 1943 قبل إكمال أعماله.
في هذه الأثناء، تابع المهندس الزراعي الكازاخي "أيماك جنغلييف" Aymak Djangliev أعمال العالم الروسي وكرّس جهده ودراساته منذ عام 1945 لإنقاذ أشجار التفاح البرية. وبينما كان "جنغلييف" يجمع كميات ضخمة من المعلومات من جبال "تيان شان"، كان الباحثون الغربيون يدرسون نظريات "فافيلوف"، وبدؤوا بإنجاز تحليلاتهم الجزيئية الأولى منذ حوالي العام 1990. وفي عام 2002، جاءت الدراسات الوراثية التي أنجزها "باري جونيبر" Barry Juniper الباحث في جامعة أكسفورد لتؤكد فرضية "فافيلوف". ولكن، لم يأت البرهان النهائي على صحة انحدار التفاح بشكل مباشر من شجرة Malus sieversii إلا بعد إنجاز الوصف الكامل لمجموع جينات هذه الفاكهة في آب 2010.
الجدة المنقذة
" أتاحت عمليات فرز جينات أشجار التفاح الكشف عن وجود جينات هي نفسها في تفاح الشجرة الكازاخية الأصلية القديمة جداً، وفي تفاح الأشجار المحلية في عالم اليوم، ويعود عمرها إلى نحو 6000 إلى 7000 عام من الآن. كانت هذه الشجرة الأصلية، التي هي السلف الأقدم والرئيسي لأشجار التفاح المعاصرة، بطول طريق الحرير ثم انتقلت إلى أوربا منذ ما يقرب من 3000 سنة من الآن. وصارت بعد ذلك، بنتيجة عمليات التهجين والانتقاء، مصدر الضروب المعروفة اليوم كلها "،حسب قول" أماندين كورني " Amandine Cornille، التي تؤلف حالياً بحثاً حول تاريخ تدجين التفاح في "المركز الوطني للأبحاث العلمية" CNRS بباريس. توفي "أيماك جنغلييف" عام 2008، قبل أن يشهد نتائج هذا المجهود الأخير كله بخصوص شجرة التفاح الكازاخية. لم يكن السعي إلى معرفة أصل التفاح مجرد هواية. كانت الولايات المتحدة أول من أدرك أهمية الموضوع، نظراً لجاذبية هذه الفاكهة، وقد نظمت وزارة الزراعة الأمريكية وجامعة Cornell عدة حملات بحثية إلى "كازاخستان" وحصلتا، بالتعاون مع "جنغلييف"، بين عامي 1989 و1996، على كمية كبيرة من البذار المنحدر من 900 شجرة مختلفة. وتعتبر هذه المجموعة، التي وضعت تحت تصرف الوسط العلمي العالمي، المادة الرئيسية اليوم للأبحاث على جانبي المحيط الأطلسي. الهدف النهائي للعملية: القيام بعمليات تهجين بين أنواع تجارية وأشجار التفاح الكازاخية أملاً بالحصول على ضروب ذات جينات تحافظ على الطعم والمقاومة في الآن نفسه.
حصل الباحث الفرنسي "باسكال هيتلزلر" Pascal Heiitlzler، الذي يشرف على بستان تجريبي، على نسائل منها بترخيص من وزارة الزراعة الفرنسية، وكانت النتائج الأولية مشجعة: "لا تعطي عمليات التهجين التي تشمل كلُّها العينات الموجود لدينا هنا سوى أشجار تفاح قوية وسليمة". وفضلاً عن أن أشجار التفاح تعطي ثماراً جديرة بالبيع تجارياً، فإن قوتها ما تزال مدهشة. وفي الولايات المتحدة، يتابع "هيرب ألدوينكل" النتائج: "منذ أن بدأنا العمل على المجموعة، حددنا عدداً من جينات مقاومة الأمراض، منها أربعة أمراض رئيسية على الأقل تصيب شجرة التفاح". تتمتع أشجار التفاح الكازاخية الأصلية، مع تطورها الموغل عميقاً في الزمن وتمازجها الجيني الذي لم يتقيد مطلقاً، بمقاومة معينة ضد جرب التفاح، هذا الفطر الشهير المدمر، آفة البساتين الرئيسية في العديد من البلدان. "نجحنا تدريجياً في التقليل من استعمال مبيدات الحشرات بنتيجة اللجوء إلى طرق إنتاجية جديدة، ولكن بالنسبة لجرب التفاح، تتوجب علينا المعالجة حتى الآن، ولا خيار آخر أمامنا "، يقول أحد المنتجين. مع ذلك، ورغم هذا الاهتمام الكبير بالأشجار الكازاخية، لم تتمخض المحاولات الأولى لإدخال المقاومة ضد جرب التفاح من خلال أنواع برية عن التوصل إلى ضرب عجائبي منشود.
إنعاش الزراعة:
تبيّن أن عمليات التهجين التي بدأت في الولايات المتحدة منذ أربعينيات القرن الماضي مع شجرة تفاح يابانية (اسمها العلمي Malus floribunada)، ذات ثمار غير صالحة للأكل، مهمةٌ شاقة جداً. وبعد أربعين سنة من الأبحاث، حصل "المعهد الوطني للأبحاث الزراعية" بفرنسا على أول تفاح مهجن، تفاح "فلورينا" Florina، لكنه لم يحرز أي نجاح في سوق يهيمن عليه تفاح "غولدن". كانت أخواتها (المسماة "أريان" و"أنتارس" و"شوبيت" Ariane, Antares, Choupette)، التي تم الحصول عليها بالتهجين منذ عام 2000، أجمل من سابقاتها وأفضل معايرة وأطيب مذاقاً، غير أن هذه الضروب الأقل معالجة بمبيدات الحشرات غير مزروعة بمساحات واسعة فضلاً عن أن "أريان" ضعيف المقاومة ضد فطر جرَب التفاح. "مقاومته محكومة بجين رئيسي واحد، ومن هنا كان التفاف الفطر على هذه المقاومة سهلاً. نعمل الآن بشكل مركز على إيجاد عدة جينات تجعل المقاومة الأكثر ثباتاً زماناً ومكاناً"، يقول "فرانسوا لورنس"، الباحث في المعهد المذكور.
في هذه النقطة، تمثل أشجار التفاح الكازاخية "بنك جينات" فريداً يمكن أن يعطي ضروباً غير مسبوقة. وضمن الظروف الجيولوجية المتقلبة جداً التي شهدتها منطقة " تيان شان "، تطورت الـ Malus sieversii في غابات معقدة حيث كل شجرة حالة فريدة بذاتها. وبين أشجار ذات ثمار صفراء بطعم حامض، وأخرى حمراء وطعم أحلى، قاومت كل منها أشكالاً مختلفة من الأمراض، وحمل كل نوع تنوعاً ثميناً في الخواص التي يمكنها أن تسود في الزراعات المستقبلية. إلا أن أنواع أشجار التفاح هذه القديمة وتشكيلة إمكاناتها غير مستكشفة إلا بالحدود الدنيا. وحسب رأي "فرانسوا لورنس"، "أتاحت المجموعة الأمريكية من أشجار التفاح بدء الأبحاث، غير أنها تعاني من نقص كبير، ولا تمثل سوى قسم صغير جداً مما هو موجود في كازاخستان". وفي الوقت الذي كان العلماء يعتقدون أنهم يعرفون كل شيء حول التفاح، تبين لهم أن مركزه الأصلي ما يزال يخبئ الكثير من الاكتشافات، التي لا بد أنها ستكون سريعة لأن لدى العلماء اليوم تقنيات تحليل جيني ذات قدرة لا تضاهى.
مع ذلك، منذ حملات تسعينيات القرن الماضي، لم يطلق أي برنامج علمي واسع. لكن الـ Malus sieversii هي اليوم في وضع حرج، إذ تتعرض بساتين التفاح البرية لقضم توسع المدن في كازاخستان، وفقدت اليوم 70% تقريباً من مساحتها منذ عام 1935. كان "نيكولاي فافيلوف" و"أيماك جنغلييف" على صواب: هناك ترابط وثيق بين ابتكار الضروب والحفاظ على "التجميعة" الجينية الأصلية. والغريب في الأمر إنه قد يكون نمر الثلوج الذي يعيش في تلك المناطق هو الذي سينقذ جَدة التفاح الكازاخية، بعد ترشيح المنطقة الغربية من جبال "تيان شان"، حيث تحيا حيوانات محلية نادرة، لتكون على لائحة التراث العالمي لدى اليونسكو. وبذلك، يمكن أن تتمتع شجرة التفاح الكازاخية بحماية غير متوقعة.
مساهمة الدببة
من النادر أن تتمتع ثمار برية كبيرة بعصير وافر، ومذاق حلو. ولكن، أدت الدببة الكازاخية دوراً! فبينما تحمل أشجار التفاح البرية ثماراً صغيرة، ذات طعم مر، تبدو شجرة تفاح كازاخستان أنها أفادت من حليف مميز: منذ ما يقرب من 50 مليون سنة، انحصرت أشجار التفاح هذه ضمن تخوم محددة بنتيجة تشكل سلسلة جبال "تيان شان"، وهنا تطورت في عزلة تامة. منذئذ، أصبحت الدببة الناقل الرئيسي لها، منتقية الثمار الأكبر حجماً والأحلى مذاقاً. وبعد أن تنشطت البذور بنتيجة المرور المعوي (لأن التفاحة التي تسقط عن الشجرة لا تنبت)، انتشرت عبر فضلات الحيوان. ومع مرور آلاف السنوات، آتت القوة الانتقائية للدببة أُكُلَها.
المصدر Science & Vie, novembre 2011
المصدر : الباحثون العدد 69 أذار 2013