ترجمة: د. خضر الأحمد
مقدمة
حين بدأ هاري ماركوبولوس عملَه في سوق الأوراق المالية، طبّق مهاراتِهِ الرياضيّةَ في تصميم استثماراته. لذا طلب منه رؤساؤه إيجادَ أساليبِ استثمارٍ مبتكَرةٍ تنافسُ تلك التي ابتدعها المموّل برنارد مادوف. وحين رأى ماركوبولوس أنه يستحيل عليه وعلى غيره اكتشاف سرّ أداء مادوف، ومن ثم بلوغ نتائجه، خامره ارتيابٌ في أن مادوف يمارس خطة بونزي - أي أنه لا يستثمر أموالاً، بل يدفع لكل مستثمر نقدًا من أموال مستثمرين آخرين. وقد دفعه هذا الشك إلى القيام بسلسلة أسفارٍ بغية معرفة حقيقة ما كان يجري.
وقد أسفرتْ مساعيه عن أنه وفريقَهُ لم يكشفوا أكبرَ عمليةِ احتيالٍ ماليّةٍ في التاريخ فقط، بل اكتشفوا، أيضًا، نظامًا ماليًّا أمريكيًّا يعاني في بنيته خللاً جوهريًّا خطيرًا. وفي هذا الكتاب، يعرض مؤلّفُهُ ماركوبولوس الجهودَ المحبطةَ والمضنيةَ التي بذلها، لتحذير هيئة الأوراق المالية والبورصة (SEC) من الأضرار الفادحة التي سيُلحقها مادوف بمستثمريه غيرِ الواعينَ لألاعيبه. وبرغم كل ذلك، لم يستطع ماركوبولوس الحصولَ على جوابٍ عن أدلته الكتابية المفصّلة التي قدّمها إلى تلك الهيئة خمس مرات بدءًا من عام 2000، أيْ قبل وقتٍ طويلٍ من اعترافِ مادوف بجرائمه عام 2008 ( وهو يقبع الآن في السجن بعد الحكم عليه بالسّجْنِ مدَة 150 سنة).
أكبر جريمةٍ ماليةٍ في التاريخ
في أحد أيام شهر كانون الأول / ديسمبر عام 2008، كان هاري ماركوبولوس متوجهًا إلى النادي - الذي يتدرّب فيه أولادُه على لعبةِ الكاراتيه - عندما لاحظ عدة رسائلَ صوتيةٍ مسجلةٍ في هاتفه الخلويّ. وقد فُوجئ حين رأى أنّ جميعَ المتصلين بعثوا إليه رسالة مروّعةً واحدةً نصها: "إن برنارد مادوف، أسطورةَ وول ستريت والرئيسَ السابقَ لناسداك Nasdaq، معتقلٌ بتهمةِ ممارسةِ تمويلاتٍ استثماريةٍ زائفةٍ". وما حدث هو أنّ خُطَّةَ بونزي التي كان ينتهجها انهارتْ في أعقاب موجة الذُّعر التي اجتاحت آنذاك الأسواق المالية العالمية. وقد سوّغ اعتقالُ مادوف الجهودَ الحثيثةَ التي بذلها ماركوبولوس طوال سنواتٍ لإنهاء الخِدَعِ الماليةِ التي كان يديرها مادوفْ، ومنعِ المستثمرين من إعطائه المزيدَ من الأموال. وبحلول الوقت الذي اكتُشِفَ فيه مادوف، كان قد جذب إليه مستثمرين من جميع أصقاع العالم، بدءًا بمؤسساتٍ ماليةٍ ضخمةٍ ومنظماتٍ خيريةٍ، وانتهاءً بعائلاتٍ موسرةٍ في نيويورك وفلوريدا، وورثةِ عائلاتٍ أوربية تنتمي إلى طبقة النبلاء. كان ردُّ فعلِ زبائن مادوف، إِثـْرَ الانهيارِ الماليّ عام 2008 ، الإسراعَ في استرداد استثماراتهم لديه، لكنهم سرعان ما وجدوا أنه لا يملك شَرْوَى نَقِيرٍ. وتبيّن، في النهاية، أنه سرق منهم زهاء 65 بليون دولار نتيجة انتهاجه أكبرَ عمليةِ احتيالٍ ماليّةٍ في التاريخ.
إن عدم استجابة "هيئة الأوراق المالية والبورصة" لمَا يَبْلغها من أخبارٍ، وتصرّفَها المتّسمَ برفض تحذيرات ماركوبولوس، كانا مثارَ استياءِ الناس بعد أن صُدِمُوا بالحجم الهائل لعملية الاحتيال هذه. لقد قدّم ماركوبولوس أدلّةً كتابيةً على جرائم مادوف إلى هيئة الأوراق المالية والبورصة خمس مرات دون أن يتسلم عمليًّا أيَّ ردٍّ عليها. هذا وإن كثيرًا من المهنييّن في مجال البورصة شكّكوا في صحة الأدلّة التي قُدِّمت لفضح ألاعيب شخصٍ مثل مـادوف، مـعـروفٍ بتبرعـاته السـخية للأعمـال الخيرية، وبتـصرفاته التي تنـمّ عـن ظَرْفٍ ودمـاثةٍ وحُسْنِ خُلُقٍ. لكنه لم يتمكن من خداع ماركوبولوس والمحققين العاملين معه، الذين صمموا على التوصل إلى دليل قاطع على أن مادوف كان يمارس جرائم مالية على مستوى عالمي لم يسبق له مثيل.
مهمّةٌ تتطلب براعةً في اكتشاف الخداع
أبدى ماركوبولوس، منذ أن كان تلميذًا في المرحلة الابتدائية، موهبةً عاليةً في حل المسائل الرياضية، ومهارةً في كشف الحيل. وفي إحدى المرّات، عُيِّن، ولما يزل في سنٍّ مبكرةٍ، مساعدَ مراقبِ شبكةٍ لمطاعمَ للوجباتِ السـريعة تملكها عائلته. وسـرعان مـا اكتَشف عاملاً يسـرق وجباتٍ مـن أحـد المطاعم، وذلك بتحليله الدقيق للتغيرات في موجودات المطاعم الاثني عشر. وبدلاً من فصل العامل، خفّض ماركوبولوس من ساعات عمله ليشعر العاملُ أنه غير مرغوب فيه ويستقيل من عمله، وهذا ما حدث فعلاً. وقد خفض هذا التكتيك من الخسائر، وحال دون تقديم العامل المستقيل دعوى للحصول على تعويض بطالة unemployment compensation تدفعه مطاعم العائلة. وبحلول بواكير التسعينيات، كانت سيرته المهنية تتجه نحو العمل في مجال الأوراق المالية والبورصة. وبعد عمله في بعض المؤسّسات الاستثمارية، التحقَ بإدارة رامبرت Rampert الاستثمارية في مدينة بوسطن. وفي هذه الإدارة، بدأ تحقيقَهُ الطويلَ الأمدِ في تصرفات مادوف، وما واكبَ هذا التحقيقَ من كفاحٍ لإقناع هيئة الأوراق المالية والبورصة بأن الزعيمَ الموقّرَ والمبجّلَ لِـ وُولْ ستريت كان، في الواقع، بعيدًا عن التوقير والتبجيل.
كان الجميع يقولون عن مادوف إنه خبير مالي متمرّس في مهنته، وإنه شخص محترم وعريقٌ في مجال التجارة والسّمسرة والبورصة. لكنْ، في المقابل، لم يعرف أحدٌ أنه كان يمارس ما سمّاه تمويلاً بطريقة "الصندوق الأسود". وعندما ألحّ عليه أحد المستثمرين شرحَ هذا الأسلوب، قال لضحيتِه إنه كان يدير تجارةً مؤتمتةً للأوراق الماليّة باستعماله برنامجًا حاسوبيًّا سريًّا ذا "صندوق أسود"، مؤسّسًا على سنواته الطويلة التي اكتسب خلالها خبرةً لا يضاهيه فيها أحد. وتجدر الإشارة إلى أن ماركوبولوس لم يشكّ في مادوف عام 1999، عندما سمع أول مرة عن سرور مستثمريه منه وبأعماله الخيرية المجيدة، ورأى فيه آنذاك قدوةً يمكن الإفادة من خبرته، لا مجرمًا يجب القبض عليه.
تقليدٌ غيرُ ناجحٍ يقودُ إلى تحقيقٍ
عندما كان ماركوبولوس يعمل في إدارة رامبرت، استطاع تجميع جزءٍ من مِهَنيـِّي هذه الإدارة، كوّنوا معه في وقتٍ لاحقٍ فريقًا للتحقيق في تصرفات مادوف. ومن أفراد الفريق المحلّل الكمّيّ نيل تشيلو، الذي كان يعمل في مؤسسة رامبرت دون مقابل مادي خلال دراسته الجامعية. كان تشيلو، مثل ماركوبولوس، يملك موهبةً في حل المسائل الرياضية المعقدة. وقد ساعد الفريقَ، أيضًا، محامٍ ماهرٌ هو الدكتور غايتري كاتشرو Gaytri Kachroo .
وجديرٌ بالذكر أن الخبير بالأوراق المالية والبورصة، فرانك كيسي، كان أوّلَ شخصٍ حدّث ماركوبولوس عن أسلوب "الصندوق الأسود" السّريّ الذي كان مادوف يدّعي انتهاجه. وقد ألح كيسي على ماركوبولوس بتصميمَ أسلوبٍ مبتكَرٍ يسمحُ بمنح المستثمرين عائداتٍ تنافس تلك التي يدفعها مادوف إلى زبائنه. وإذ ذاك شرع ماركوبولوس بتحليل ادعاءات مادوف الاستثمارية؛ وما حدث هو أنه كلما تعمّق في هذا التحليل، ازدادت شكوكه في تصرّفات مادوف. لقد كان مادوف يربح أموالاً في أيٍّ جو استثماري يمكن تصوره، سواءً ارتفعت أسعار الأسهم والسندات، أم هبطت، أم ركدت. وقد أوحى هذا لكيسي أن مادوف كان ينعم بإحساسٍ مدهشٍ بالوقت، ومن ثم كان يمتلك القدرة على دخول الأسواق والخروج منها في اللحظات المناسبة تمامًا. لكن ماركوبولوس استبعد وجود مثل هذه القدرة الخارقة لأنها مستحيلة عمليًّا. وثمة عامل آخر عزّز من شكوكه، هو أن المؤسسات المالية التي كانت تحظى بثقة عالية في وول ستريت كانت ترتاب في سلامة السلوك الماليّ لمادوف، لذا لم تكن مؤسساتٌ ضخمةٌ، مثل Goldman Sachs وَ Citigroup وَ Morgan Stanley تضخُّ دولاراتِها الاستثماريةَ باتجاه مادوف. وقد أخبر أحدُ مديري Goldman ماركوبولوس أن "مؤسّسته لا تعتقد أن عائدات مادوف مشروعة."
ناشد المديرون التنفيذيون في إدارة رامبرت وزبائنـُها ماركوبولوس مواصلةَ مساعيه لتصميم منتَجٍ استثماريٍّ قادرٍ على منافسة منتَج مادوف. وكان أحد هؤلاء الزبائن رجلاً فرنسياً، اسمه تيري دولا فيلهوشيه، يتسم بالدماثة ولطف المعشر، ويدير مؤسسةً استثماريةً كبيرة للأغنياء. وقد أقنع فيلهوشيه مؤسستَه بإيداع مبالغَ ضخمةٍ لاستثمارها لدى مادوف.
عمل ماركوبولوس جنبًا إلى جنب مع تشيلو وكيسي ليكشفوا تصرفات مادوف على حقيقتها. وبسبب سعيهم لتحسين جودة منتجات رامبرت الاستثمارية وتنويعها، فإن العثور على طريقةٍ لمعرفة أسلوب مادوف كان جزءًا من مهمتهم. لكنهم كانوا عاجزين عن ذلك. ومع تكثيف فريق رامبرت تحرياته عن مادوف، قرر ماركوبولوس تقديمَ تقاريرَ عن هذه التحريات إلى هيئة الأوراق المالية والبورصة، بدأها بتقرير قدمه عام 2000 إلى مكتب الهيئة في بوسطن، ذكر فيه أنه متوثق من أن مادوف يمارس خطةَ بونزي. وعندما رأى ماركوبولوس أن الهيئة لم تتخذ أي إجراء، تقدم بأدلة إلى المكتب نفسه على سوء تصرفات مادوف، لكنْ دون جدوى. وفي المرة الثالثة قدم معلوماته عن مادوف إلى مكتب الهيئة في نيويورك، بيد أنه لم يصدر عن هذا المكتب أيُّ ردِّ فعل.
مادوف ووسائل الإعلام
وَلَّدَتْ سلبيةُ هيئة الأوراق المالية والبورصة إحباطًا لدى ماركوبولوس، وهذا جعله يفكر في إيجاد طرائق أخرى لِيَحُولَ دون استيلاءِ مادوف على مزيدٍ من أموال المستثمرين.
فكَر ماركوبولوس في إطلاع وسائل الإعلام على التصرفات المالية المشبوهة لمادوف، لكنه قرر التراجع عن هذه الفكرة، لأنه قد يعرّف من لا يعرف خُطَّةَ بونزي التي قد يُعْجَبُ بها كثيرون ويمارسونها. بعد ذلك، وفي مؤتمرٍ عُقِد في إسبانيا عام 2001، قابل كيسي مايكل أوكرانت - وهو صحفي متخصص في الشؤون المالية، ونائب رئيس تحرير المجلة الشهرية MARHedge ، التي تـُعنى بأخبار المال والأعمال - الذي كان كتب مقالةً نالت جائزةً صحفيّةً عام 1994، شرح فيها كيف ساعد سمسارٌ فاسدٌ هيلاري كلينتون في الحصول على 100,000 دولار سنويًّا من استثمارها مبلغ 1,000 دولار فقط في تجارة مشبوهة لقطعان الماشية. وعندما انضم أوكرانت في وقت لاحق إلى فريق تحقيق ماركوبولوس، سأل زملاءه العاملين في مجال التمويل عن مادوف، واستخلص من فيض المعلومات التي تلقّاها أن ضخامة حجم الأموال لدى مادوف كانت مذهلة.
ربما يكون هذا الحجمُ هو الأكبرَ في العالم، وقد يكون مادوف جذب هذه الكتلة الهائلة من الأموال لأنه لم يُعلن عن أيِّ خسارةٍ تكبّدها. ومن ضمن المعلومات التي حصل أوكرانت عليها أن مادوف كان يدفع أجوراً لمئاتٍ من الوسطاء مقابل جَلْبـِهِمْ له مستثمرين جددًا، وأن المبالغ المتعاظمة التي كان يتسلّمها تُوَظَّفُ في دعم خطة بونزي التي كان يسلكها.
وفي أحد الأيام، اتصل أوكرانت بمادوف هاتفيّاً، وكم كانت دهشته عارمة عندما كان مادوف نفسه على الطرف الآخر من الخط. وحين طلب إجراء مقابلة صِحافية معه، دعاه مادوف إلى المجيء إلى مكتبه في وقت لاحق من ذلك اليوم. وبدلاً من أن يتصرف كمجرم يحاولُ إخفاء شيءٍ ما عن ضيفه، كان في منتهى الهدوء والودّ، ولم يتهرّب من الإجابة عن أي سؤالٍ. وكان يقدّم إجاباتٍ معقولةً عن كلِّ سؤال يتعلق بطريقته في تمويل استثماراته. وحين طُلِبَ منه تقديم المزيد من التفصيلات عن برنامجه الحاسوبي المسمى "الصندوق الأسود" الذي كان يوجِّه عملَه الاستثماريَّ، أجاب مادوف أن هذه التفصيلات مِلْكٌ خاص به ، وأن نشرها يمنح منافسيه، دون مقابل، معلومات كدّ واجتهد طويلاً للتوصّل إليها. وقد نُشرت مقالة أوكرانت عن مادوف في الأول من شهر مايو/ أيار عام 2001 في مجلته MARHedge . ثم ظهرت في آخر ذلك الشهر مقالة مشابهة في Barron’s ، وهي مجلة أسبوعية شهرية تُعنى بالشؤون المالية. ومع أنه لم تتهمْ أيٌّ من هاتين المقالتين مادوف بالاحتيال صراحةً، إلا أنهما أوردتا أدلة حاسمة على احتمال سلوكِ مادوف خطة بونزي، وقيامه بتصرفات مشبوهة. ظن ماركوبولوس أن ما نُشر عن مادوف كافٍ لقيام السلطات الرسمية بإجراءٍ ما، لكنه كان على خطأ، ثم إن الاستجابَةَ الجماهيريةَ كانت ضعيفةً جدّاً. ومع ذلك قال ماركوبولوس: "إن تجمّعَ كِسَفٍ صغيرةٍ من الثلج يكوّن كرةً تمتلك قوة يـُعْتـَدُّ بها."
الخطر الخارجي
ظلت النقود تتدفق إلى جيوب مادوف، لا من مؤسسات محلية فقط، بل، أيضًا، من مؤسسات مالية أوروبية أخرى، من ضمنها مؤسسة الفرنسي تيري دولا فيلهوشيه (مع أن كيسي حذّره من مادوف). وقد بدأ ماركوبولوس يدرك تدريجيّاً أن مادوف تسلّم أموالاً من مؤسساتٍ ماليةٍ أجنبيةٍ كثيرةٍ، لا في أوروبا فقط، بل، أيضًا، في أنحاء أخرى من العالم.
وفي عام 2002، سافر ماركوبولوس إلى أوروبا وقابل 14 مديراً لمؤسسات مالية حولت الأموال التي تلقتها من زبائنها إلى مادوف. وما وجده، على حدّ قوله، إن "هذه المؤسسات كانت تنجذب إلى مادوف مثلما تنجذب الفراشات إلى المصباح،" وإن بعضها كان يفعل ذلك للتهرب من دفع ضريبة الدخل المفروضة عليها. وقد تولَّد اعتقادٌ جازمٌ لدى ماركوبولوس أن الناس المنخرطين في الجريمة المنظّمة كانوا يستثمرون أموالهم لدى مادوف عبر مؤسسات مالية معينة. وبعد عودته من أوروبا، بدأ يساورهُ القلق من العواقب المحتملة لفضحه احتيال مادوف، ومن الصدمة التي ستحلّ بالمستثمرين عندما يكتشفون أنهم خسروا كلَّ أموالهم، ثم أنه خشي على حياته من المافيا الروسية. لذا بدأ ماركوبولوس باتخاذ جانب الحيطة والحذر لحماية نفسه وعائلته. وكان دومًا ينظر إلى أسفل سيارته قبل أن يركبها، خوفًا من قنبلةٍ تنفجر عند إدارة مفتاح تشغيلها، كما صار يضع مسدساً قريباً من الوسادة التي ينام عليها.
القضاءُ المتأخر على حيل مادوف
في عام 2004، استقال مادوف من وظيفته في رامبرت بعد عمله فيها زهاء ثلاثة عشر عامًا. أما كيسي وتشيلو فقد انتقلا إلى مؤسستيْن أخرييْن، لكنهما واصلا مشاركتهما ماركوبولوس في تحقيقاته. وأما أوكرانت، فهجر الصِّحافةَ للعمل في شركة استثمارية، ومع ذلك، استمر بتزويد ماركوبولوس وفريقه بما كان يكتشفه من ممارساتٍ مُريبةٍ لمادوف.
وفي شهر حزيران / يونيو عام 2005، توصّل الفريق إلى معلومات أوّليّة تشير إلى أن مادوف يعاني مشكلاتٍ؛ فخلال تناول كيسي طعام الغداء مع مديرٍ لإحدى المؤسسات الاستثماريةِ الإيطاليةِ، سمع منه أن مادوف يفتش عن بنوكٍ يمكنها تقديم قروض لمستثمريه، وذلك ليعطوه أموالَهم إضافة إلى ما يقترضونه من هذه البنوك. بلغ كيسي، أيضاً، نبأٌ يقول إن اثنين من البنوك الكبيرة، هما Royal Bank of Canada والبنك الفرنسي Société Générale ، أَوْقَفَا منحَ قروضٍ للمستثمرين الذين يستعملونها لزيادة استثماراتهم لدى مادوف. ومع ذلك، لم تفعل هيئة الأوراق الماليّة والبورصة شيئًا يُذْكَر لتسريع إيقاف ألاعيبِ مادوف. وفي عام 2005 قدّم ماركوبولوس ثانيةً إلى هيئة الأوراق المالية والبورصة تحذيراتٍ كتابيةً من مادوف. وفي هذه المرّة أجْرتِ الهيئةُ تحقيقًا ضعيفًا في تصرفات مادوف المالية، وطلبت منه تسجيلَ تخصّصه لديها بأنه مستشار في الشؤون الاستثمارية، لأنه كان يدّعي أنه يملك مؤسسة تمارس التمويل؛ لكن مادوف تابع عمله في خداع المستثمرين. وبدلاً من أن تقوم الهيئةُ بإيقافِهِ عن ممارسةِ عملِهِ والتحقيقِ معه، تركته يواصل ممارسة خطة بونزي ثلاث سنوات أخرى.
وفي عام 2008 داهَمَ الولاياتِ المتحدةَ ركودٌ اقتصاديٌّ شديدٌ. ففي شهر أيلول/ سبتمبر أعلنت ليمان بْرَذَرْزْ Lehmann Brothers ، وهي مؤسسة للأعمال المصرفية والاستثمار، إفلاسها، وهذا أحدث نقصاً عالميّاً في الائتمان global credit shortage وأدى إلى قلقِ كثيرٍ من المستثمرين لدى مادوف جعلهمْ يطلبون منه حالاً حساباتِهِمْ نقداً، ليعوضوا خساراتهم في استثماراتهم المشروعة في مؤسّساتٍ أخرى. لكنّ المال الذي طلبوه لم يكن له وجود تقريباً.
وفي 11 كانون الأول / ديسمبر 2008 ألقت الشرطة الأميركية القبض على مادوف. وبعد عام نَشَرَ المفتشُ العامّ لهيئة الأوراق المالية والبورصة مذكّرةً نقديةً عبّر فيها عن دهشته من عدم الاستجابة للتحذيرات من مادوف، التي قدمها ماركوبولوس ومصادرُ أخرى. وقد أدلى ماركوبولوس بشهادته عن مادوف وعن إهمال هيئة الأوراق المالية والبورصة أمام لجانٍ تابعةٍ للكونكرس. هذا وإن الإخفاقاتِ المتكررةَ للهيئة في كشف ممارسات مادوف غيرِ المشروعةِ في وقت مبكر، فضحت هشاشة بنية هذه الهيئة. ويتعيّن على هذه الهيئةِ القيامُ بإجراءاتٍ علاجيةٍ، كأنْ تستأجرَ مزيداً من الخبراء المالييّن وعدداً أقلَّ من المحامين لتفتيش المؤسسات الماليّة، وتمنحَ مبالغَ ماليةً مجزيةً كلَّ من يكشف تلاعبـًا ماليـّاً على نطاق واسع، وتحثَّ المتخصصين في الاستثمار على تقديم أدلةٍ على أفعالٍ غيرِ قانونيةٍ محتملةٍ مارسها موظَّـفو المؤسساتِ أو منافِسُوهم. أمّا الولايات المتحدة فيجب عليها سنُّ قوانينَ تمنعُ بروز نسخٍ عن مادوف في المستقبل.
وفي 23 كانون الأول/ ديسمبر عام 2008، أَيْقَنَ الفرنسيُّ فيلهوشيه أن استعادة، ولو جزءًا من الأموال التي استثمرها لدى مادوف، شيء مستحيل، لذا قرر الانتحار بعد أن خسر 1.4 بليون دولار تعود إلى عائلته ومستثمرين آخرين، من ضمنهم أغنياءُ وملوكٌ أوروبّيّون. وقد بكاه ماركوبولوس طوال أيام، كان فيها ساخطًا على مادوف وعلى هيئة الأوراق المالية والبورصة. وبالطبع، فقد كان يشاركه في هذا السّخط صديقُه الفرنسيُّ الراحلُ، ومستثمرون كثيرون فقدوا الكثير.
المصدر : الباحثون العدد 70 نيسان 2013