كبار الأدباء والمفكرين والفنانين المبدعين منهم على وجه التحديد في تاريخ البشريّة غالباً ما يشار إليهم، بل ويجب أن يشار إليهم بالبنان في كل مرحلة من مراحل الزمن، ذلك لأن تاريخ البشريّة حين يتم رصد أحداثه من قبل هؤلاء يكون رصدهم لها خالياً من مشاعر الانتماء إلى أوطانهم من قبيل التحيّز لا من قبيل الحياد. ومن هنا يكتسب أفراد هذه الفئة من البشر، يكتسبون احترام قرّائهم، بغضِّ النظر عن معتقداتهم السياسية أو الدينية وسوى ذلك. وفي السياق المتصل، يتوقف أحدنا أحياناً أمام ظاهرة قد لا تكون فريدة من نوعها ولكنها مع ذلك تثير لديه فضولاً يدفعه لمعرفة المزيد عن صاحب هذه الظاهرة ودوره في صنع تاريخ البلد الذي ينتمي إليه؛ على غرار قولنا مثلاً: إن هذا الأديب أو المفكر أو الفنان يعبّر حقاً عن هوية بلده مهما كان بلده صغيراً أو مرمياً في جزيرة نائية في وسط البحار، وذلك في حال كونه شخصاً اشتهر بما أعطى بلده والإنسانية في آن ما لم يستطع سواه أن يعطيه لسبب أو لآخر، بمعنى أنه يسهّل من خلال نتاجه الفكري الأدبي أو الفني التعرف على مجتمعه وبيئته وما إلى ذلك من جوانب الحياة في بلده.
ونحن اليوم حين نتذكّر طه حسين، على سبيل المثال، تنهض صورة مصر أمام ذاكرتنا البصرية، وكذلك حين نتذكر نزار قباني تنهض صورة سورية أمام ذاكرتنا البصريّة، وأيضاً كلما تذكرنا أحد كبار مفكري العالم شرقاً وغرباً مثل مكسيم غوركي أو شكسبير أو سوى ذلك، لا بد أن تنهض في ذاكرتنا البصرية صورٌ من بلده كان قد قرأ عنه أو شاهد معالمه على الشاشة أو زاره في وقت من الأوقات وكاد ينسى تلك المعالم مع مرور الأيام والسنوات.
في سياق هذه الخاطرة، أقرأُ اليوم، على سبيل المثال، أقرأُ عن الشاعر الفنزويلي الشهير روفينو بلانكو فومبونا، وأقرأُ له أيضاً في بعض من كتبه التي بلغ عددها الأربعين كتاباً وكان لها وقْعها ورصيدها الغني في الأوساط الأدبية العالمية وبينها كتاب التاريخ الإسباني في القرن السادس عشر، التطور السياسي والاجتماعي لأمريكا الإسبانية، رجل من ذهب، المدرسة الحديثة والشعراء المحدثون؛ إلى آخر هذه المنظومة التي ساهم فومبونا من خلالها في رفع شأن بلده فنزويلا، وجعلها طليعة بلدان أمريكا اللاتينية فضلاً عن دورها في رفد الثقافة الإنسانية بما يضفي عليها من قيم مثلى، وخصوصاً في زمن محاولات قهرها وجعلها رهينة أطماع الدول الساعية لامتلاك ثرواتها وإخضاع أصحاب البلاد لإرادتهم.
ولد الأديب والشاعر رومينو بلانكو فومبونا في الخامس من شهر نيسان عام 1874 ومنذ طفولته استهواه التاريخ كما الشعر، فضلاً عن شغفه بالثقافة عامة. وفي الشأن السياسي عندما بلغ سن الشباب، أعلن وقوفه ضدّ النظام الديكتاتوري في عهد خوان غومث، وبسبب من عداوته للنظام وتحت التهديد بتصفيته جسدياً، اضطر إلى العيش بعيداً عن بلده فنزويلا لعشر سنوات قضاها في فرنسا وإسبانيا حيث أنشأ هناك داراً كبيرة للنشر كان لها أثرها في توثيق العلاقات الثقافية بين إسبانيا وأمريكا اللاتينية. وفي أواخر عمره عاد فومبونا إلى بلده فنزويلا وعهُد إليه تقديراً لمكانته الأدبية ولشيوع اسمه في أرجاء عديدة من العالم كواحد من أبطال المقاومة في دول أمريكا اللاتينية، عُهد إليه بحكم ولاية ميراندا. وسنة وفاته في سنة 1944، عمّ الحزن في فنزويلا كما في البلدان التي تنبّهت إلى أهمية أن يكون الإنسان وفياً لأرض وطنه، سواء كان يعيش عليها أو كان بعيداً عنها.
وفي بعض أوراق التاريخ أن فومبونا يعدّ في طليعة الثوار الذين أثروا تاريخ بلادهم بمواقفهم الوطنية على امتداد القارة الأمريكية جنوباً، وكذلك في عدد من دول إفريقيا في القرن التاسع عشر وخلال عقود عدة من القرن الماضي. ومن هنا اكتسب ويكتسب أدباء القضايا الوطنية، إن صحّ التعبير، يكتسبون لا احترام مواطنيهم فقط بل حتى احترام من يعيشون بعيداً عنهم بآلاف ومئات الآلاف من الكيلومترات.
ومع وصول خليفة الزعيم الوطني الكبير الراحل هوغو شافيز نيكولاس مادورو إلى سدة الرئاسة في فنزويلا مؤخراً، تتوضح صورة هذا البلد الصديق أمام أعيننا، الصورة التي ستنعكس إيجاباً على البلاد التي تناضل من أجل حريتها واستقلالها أملاً بخلاص هذه البلاد من هيمنة القطبية الواحدة، مع تنامي واقع التضامن العالمي على نحو ما تجسِّده العلاقات المبدئية التي توضحت منذ ما يزيد على السنتين وذلك من خلال العلاقات التي ازدادت متانة بين دولتين عظمَيَين هما روسيا الاتحادية والصين الشعبية ودول البريكس في الوقت الراهن. من هنا قولنا بارقة أمل: فنزويلا.
المصدر : الباحثون العدد 70 نيسان 2013