د. عمار محمد النهار
لا شك أن البارود من أكثر المخترعات أثراً في قلب دنيانا رأساً على عقب، فهو لم يغير نظم الحرب القديمة تغييراً جذرياً فحسب، بل غيّر أيضاً وجه العالم، وهو الاختراع الأساسي الذي سبّب تسارع عملية التقدم الحضاري أكثر من أي اختراع آخر، وهو الذي مكّن أوروبا أن تمد حكمها على جميع بقاع العالم تقريباً، فبقوة البارود سيطرت أوروبا حتى على أمريكا، ثم أستراليا ونيوزيلندا وإفريقيا، وغيرها من بقاع العالم، وعلى الرغم من أن اختراع البارود كان اختراعاً مشؤوماً إلا أنه كان من ناحية أخرى أكثر فائدة من الاختراعات الأخرى في انتشاره وتقدم الحضارة.
وقد تسابق الباحثون والمؤرخون - وبخاصة الغربيون - من أجل نسبة شرف السبق في استخدام البارود في الأسلحة إلى هذا البلد أو ذاك من البلدان الغربية، متجاهلين البلاد الإسلامية، وصدرت كتب عديدة في أوروبا عن تاريخ البارود والنيران الحربية، ومعظمها لم يتوخَّ الموضوعية العلمية.
وإن ظهرت مخطوطات عربية وإسلامية كثيرة في الطب والهندسة والكيمياء والفلك أماطت اللثام عن أصحاب الإبداعات الحقيقيين، فإن المخطوطات التي تبحث في البارود والمدافع والأسلحة النارية بحاجة إلى تحقيق ودراسة ثم ترجمة إلى اللغات الأخرى لتصحيح تاريخ نسبة استخدام البارود والمدافع إلى أصحابها الأصليين.
ولما كان مسحوق البارود يتألف من نترات البوتاس والكبريت والفحم، كان لا بد للمؤرخين أن يبحثوا - لمعرفة التاريخ الحقيقي لمسحوق البارود والمدافع - عن تاريخ نترات البوتاس، ونظراً لأن العرب والمسلمين أصبحوا يطلقون على نترات البوتاس اسم البارود في العصرين الأيوبي والمملوكي أي حوالي القرن السابع الهجري = الثالث عشر الميلادي، فقد افترض بعض المؤرخين خطأ أن معرفتهم لنترات البوتاس بدأت في هذا القرن فقط.
فلقد استخدم الجيش العربي الإسلامي النيران ضد الصليبيين قبل القرن السابع الهجري = الثالث عشر الميلادي، ولذلك دار جدل كبير بين مؤرخي النيران الحربية حول احتواء هذه النيران على نترات البوتاس، فقام بعضهم بتحليل المواد المتبقية في القذائف اليدوية الفخارية التي عثر عليها في الفسطاط والإسكندرية وبلاد الشام، ووجدوا أنها كانت تحتوي على نترات البوتاس.
وأهم كتاب عدّ المؤرخون تاريخ تأليفه (669 -679هـ = 1270-1280م) بداية لمعرفة المسلمين لمسحوق البارود؛ هو كتاب نجم الدين حسن الرماح (ت696هـ = 1295م): «الفروسية والمناصب الحربية»، وورد في صفحة العنوان: «قال الأستاذ نجم الدين حسن الرماح ناقلاً عن آبائه وأجداده في علم معركة رأس الميدان، وما اتصل لأحد هذا العلم ولا غيره من العلوم».
فيدل هذا النص دلالة واضحة غير مبهمة أن الرماح لم يبتدع كل ما ورد في كتابه، بل أخذه عن أبيه وأجداده الخبراء في هذه الصناعة وعن زملائهم فيها، وتبيّن مادة كتابه أنه دوّن خبرة أعمال متراكمة عبر عشرات السنين، وإذا ما اعتمدنا جده الأول فقط (وليس أجداده كما يقول) فإن ذلك يعود بنا إلى أواخر القرن السادس الهجري = الثاني عشر الميلادي، أو مطلع القرن السابع الهجري = الثالث عشر الميلادي.
أي إن كلمة البارود أصبحت متداولة في ذلك الوقت للدلالة على النترات، حيث أصبحت تستخدم في تركيب مسحوق البارود، وهنا القول الفصل فقد عدّ المؤرخون الحسن الرماح أول من وصف في التاريخ في كتابه المذكور تنقية نترات البوتاس من الشوائب وهي العملية الجوهرية في صناعة البارود والتي بدونها لا ينفجر، كما أنه أورد العديد من وصفات مسحوق البارود ذات النسب الصحيحة للمسحوق المتفجر.
وتكمن أهمية التوصل إلى تنقية النترات ومعرفة النسبة الصحيحة للمزيج في أنه الخطوة الهامة التي لا يمكن بدونها التوصل إلى صنع المدافع ذات القوة الانفجارية الدافعة للقذائف. ومع أن الصينيين قد عرفوا مسحوق البارود في القرن الخامس الهجري = الحادي عشر الميلادي، إلا أنهم لم يتوصلوا إلى النسبة الصحيحة لتحقيق الانفجار، كما أنهم لم يتوصلوا إلى تنقية نترات البوتاس كي تصبح صالحة للحصول على المسحوق المتفجر، وقد وردت أول وصفات صينية يحتوي قسم منها على تراكيب متفجرة في كتاب (uo Lung Ching) في عام 815 هـ = 1412م، أي بعد أكثر من قرن ونصف من اكتشاف واستخدام المسلمين للمسحوق المتفجر.
ونجد في كتاب الرماح فتحاً تاريخياً آخر، إذ نجد فيه وصفاً ورسماً توضيحياً لما نفترض أنه طوربيد، وقد سمّاه حسن الرماح «البيضة التي تحرك نفسها وتحترق» ، وبالتالي عدّ المؤرخون حسن الرماح أول من صنع الرعّادات (الطوربيدات) المزودة بمحركات صاروخية، حيث استطاع استخدام البارود القاذف كمادة دافعة للصواريخ فكان ينطلق كقذائف نارية قاصفة كالرعد.
وقد اعتمد المؤرخون على نص واضح لحسن الرماح يتضمن تحويل البارود إلى قوة نارية قاذفة، ومخطوط هذا النص محفوظ في دار الكتب الوطنية في باريس، وقد احتفظ لنا به المؤرخ المنصف غوستاف لوبون، وهو: «وصف الذخيرة التي تُدك في المدفع وبيان نسبتها: تؤخذ عشرة دراهم من البارود، ودرهمان من الفحم، ودرهم ونصف من الكبريت، وتسحق جيداً حتى تصبح كالغبار، ويملأ منها ثلث المدفع فقط خشية تصدّعه، ويصنع الخرّاط من ذلك مدفعاً من خشب تناسب جسامته فوهته، وتدك الذخيرة فيه بشدة، ويضاف إليها إما بندق وإما نبل، ثم تشعل ويكون قياس المدفع مناسباً لثقبه، فإذا كان عميقاً أكثر من اتساع الفوهة كان ناقصاً».
ويقول خوان فيرنيت مؤكداً على هذه الحقيقة: «بيّن العربي السوري الحسن الرماح، بوضوح، في مصنّفه: كتاب الفروسية والمناصب الحربية، أن ملح البارود عنصر أساس لا غنى عنه إطلاقاً لصنع البارود، ويعطي قواعد واضحة لتحضيره، ويصف رعادة (طوربيد) ذاتية الحركة تدفعها صواريخ يسميها (سهام الصين)».
وإذا ما تحدثنا عن الرواية الغربية حول اختراع البارود المتفجر الذي يدك بالمدافع فسنجد أنه حتى القرن الثالث عشر الهجري = التاسع عشر الميلادي سادت روايتان، ففي الأولى منهما كان الباحثون الغربيون مؤمنين أن هذا الاختراع يعود للصينيين، ولكن هؤلاء (ومنهم: مسيو رينو، ومسيو فافية، والغزيري، وأندره، وفيارو ) عندما عادوا إلى مذكرة نُشرت عام 1267هـ = 1850م، واطلعوا على ما جاء في بعض المخطوطات التي عثر عليها حديثاً، رجعوا عن رأيهم معلنين أن المسلمين هم أصحاب هذا الاختراع العظيم الذي قلب نظام الحرب رأساً على عقب.
وقالت الرواية الغربية الثانية إن اكتشاف مسحوق البارود المتفجر يعود لكل من العالمين الغربيين: ماركوس غريكوس، وروجر بيكون، أما غريكوس فينسب له كتاب بعنوان (النيران لحريق الأعداء)، وقد كان هذا الكتاب مثار اهتمام مؤرخي التكنولوجيا الغربيين كافة، إلى أن ترجح فيما بعد أن وصفات مسحوق البارود الأربعة فيه (من بين خمس وثلاثين وصفة مختلفة) قد أُضيفت للكتاب في عام 679هـ = 1280م، وربما في عام 700هـ = 1300م. وأما روجر بيكون فيظن بعض الباحثين الغربيين وعلى رأسهم (هايم) أنه مكتشف مسحوق البارود، فقد احتوى أحد كتب بيكون على كتابة مرموزة، وظن هايم أن هذه الرموز تحتوي على معادلة المسحوق، وأنها تتضمن طريقة لتنقية النترات، وادّعى هايم أنه توصل إلى فك الرموز وإلى معادلة مسحوق البارود، وظن أن معادلة باكون تحتوي على (7) أجزاء نترات وخمس أجزاء كبريت، وخمس أجزاء فحم نباتي، وبذلك تكون النسب المئوية 41,17% نترات، و29,41% كبريت، و29,41% فحم، وهذا التركيب يعطي مسحوقاً ضعيفاً غير متفجر، ومع ضعف هذا التركيب فقد شكك كثير من الباحثين الجادين أمثال (بارتنغتون) و(نيدهام) في صحة تفسير هايم للرموز، وخاصة في معرفة بيكون لطريقة تنقية النترات، وعندما لخص نيدهام تراكيب مسحوق البارود العربية والأوربية أسقط معادلة بيكون كلية من حسابه.
ويحسم العالم الغربي جاك ريسلر قضية أول من اخترع مسحوق البارود المتفجر بقوله: «بارود المدفع مخترع عربي رسم نموذجه أحد مخترعي العرب في القرن السادس الهجري = الثاني عشر الميلادي».
أما فيما يتعلق بالمدفعية، فلقد أصبحت الأدلة واضحة على أن العرب المسلمين هم أول من استخدم المدافع في الحروب، وليس الأوربيين بحسب ما يعتقده الكثيرون ومنهم الأوربيون ومؤرخوهم، وقد توفرت الأدلة على ذلك من خلال المخطوطات العربية والإسلامية، ومن خلال أدلة وثائقية، ونملك - إلى جانب كل الأدلة السابقة - في هذا الموضوع حقيقتين واضحتين، الأولى تقول: إن المسلمين استخدموا المدافع للتصدي للحملة الصليبية السابعة التي قادها لويس التاسع ملك فرنسا. والحقيقة الثانية تقول: إن المسلمين استعملوا المدافع في تصديهم للمغول في معركة عين جالوت الشهيرة، وقد غابت هاتان الحقيقتان عن أذهان معظم من كتب عن المدافع وتاريخ استخدامها.
فبالنسبة للحقيقة الأولى يورد قلة من الباحثين نصاً تاريخياً غاية في الأهمية، وغاية في الوضوح، يدلل على أن العرب المسلمين استخدموا المدافع ضد الحملة الصليبية السابعة حملة لويس التاسع ملك فرنسا عام 647 هـ = 1249م، وهذا النص كتبه (اللورد جوانفيل) فارس ومؤرخ الحملة الصليبية السابعة، وبما أنه كان أحد الأعضاء الذين شاركوا في هذه الحملة، فيعد شاهد عيان على ما حدث فيها، وقد أورد النص التالي: «في ذات ليلة كنا نحرس الأبراج حيث أحضر المسلمون آلة لم يستعملوها من قبل يقذفوننا منها بشيء ملأ قلوبنا بالدهشة والرعب.. نار مستقيمة كأنها أسطوانة كبيرة وذيلها خلفها مثل الحراب الطويلة، ودوّيها يشبه الرعد، وكأنها جارح يشق الهواء، لها نور ساطع من جراء انتشار اللهب الذي يحدث هذا الضوء، حتى أنك ترى كل ما في المعسكر كما لو كان في وضح النهار، وقد رمى علينا المسلمون هذه النار في تلك الليلة ثلاث مرات من الآلات الكبيرة، وأربع مرات من القسي العريضة، وكان ملكنا القديس لويس كلما سمعهم يقذفون النار الإغريقية ينهض من فراشه ويبسط يديه إلى منقذنا ويقول باكياً: أيها السيد العظيم احفظ لي رجالي».
ويستطرد جوانفيل في وصف القذيفة النارية: «إنها أشبه ببرميل مشتعل من حامض النبيذ في ذيله عود نار طول عود المزراق العظيم الاشتعال، وأحدثت هذه القذيفة بالذات دوياً مثل دوي الرعد، وتراءت كأنها طائر في الهواء، وأضاءت جوانب المعسكر حتى غدا الليل فيه كالنهار»، ويورد جوانيفيل أيضاً «بأنها كانت أفظع ما رأت عيني على الإطلاق، وعندما شاهد زميلي الفاضل سير والتر هذا السيل المنهمر من النيران صاح قائلاً: أيها السادة لقد ضعنا جميعاً ولا مفر لنا».
وبتحليل هذا النص بالغ الأهمية، يتضح جلياً أن الآلة التي استُخدمت كانت المدفع وليس النار الإغريقية، للأدلة التالية:
- ذكر النص «آلة لم يستعملها المسلمون من قبل» والنار الإغريقية معروفة لدى المسلمين قبل العصر المملوكي بكثير، ناهيك عن أن النار الإغريقية لا تحدث صوتاً شبيهاً بالرعد، وهذه القذائف التي أطلقها المسلمون في المنصورة بمصر كانت مصحوبة بصوت شبيه بقصف الرعد، مما جعل الملك وفرسانه الشجعان يركعون على الأرض مبتهلين إلى الله في رعب قاتل أن ينقذهم من هذا السلاح الذي لم يشهدوا مثله من قبل.
- تشبيه الكاتب لنوعية تأثير السلاح في الضرب، حيث قال: «نار مستقيمة وكأنها أسطوانات كبيرة وذيولها من خلفها مثل الحراب الطويلة، ودويها يشبه الرعد وكأنها جارح يشق الهواء، ولها نور ساطع جداً من جراء عظيم انتشار اللهب الذي يحدث الضوء …»، وكل هذا لا ينتج إلا من تأثير دانات المدفعية.
- ومما يدل ويؤكد على أنه المدفع أو المكحل وأنه ليس باروداً مجهزاً للضرب عنه من القسي العريضة (السهام)، أن جوانفيل قال: «وقد رمى علينا المسلمون هذه النار في تلك الليلة ثلاث مرات من الآلات الكبيرة»، ويقصد هنا من هذه الآلة الجديدة وهي المدفع وليس المنجنيق، أو السهام النارية، وقد أطلق عليها النار الإغريقية لعدم معرفته بهذه الآلة الجديدة، فوجد أن هذا الاسم أقرب رمزاً لما تحدثه هذه الآلة الجديدة من آثار.
- إن وصف جوانفيل للقذيفة لا يمكن أن ينطبق على وصف النار الإغريقية، لأنه وصف القذيفة وصفاً فرقها عن بقية القذائف بإحداثها دوياً هائلاً، ثم وصْفه لها بأنها أشبه ببرميل مشتعل، وما يحدثه هذا البرميل من انفجار شديد نتيجة للاشتعال، وهذا لا يحدث إلا نتيجة للانفجار وأنه من دانات المدفعية.
وقد سبق أن أثبتنا أن المسلمين هم الذين اخترعوا البارود المتفجر الذي يستخدم حتماً في المدافع، وذلك على يد حسن الرماح الذي توفي في أواخر القرن السابع الهجري = الثالث عشر الميلادي، وهذا يدلل بشكل أكبر على استخدام المدفعية في تلك الفترة.
وتعتمد الحقيقة الثانية بشأن استخدام العرب المسلمين للمدافع قبل الأوربيين على أكثر من أربعة مخطوطات عربية إسلامية، ورد فيها ذكر المدافع الخفيفة المحمولة التي استخدمت في المعارك ضد المغول، ومن هذه واحدة في سانت بطرسبرغ وهي أشهرها، واثنتان في المكتبة الوطنية في باريس، وواحدة في استانبول. وفيما بعد وبفترة ليست بالبعيدة أورد كل من ابن فضل الله العمري (ت 749هـ = 1348م) والقلقشندي (ت 821هـ = 1418م) ذكر مكاحل البارود، أي المدافع، عند ذكرهما لآلات الحصار، وذكرا منها «مكاحل البارود في قوارير النفط».
أما الرواية الأوربية عن استخدام المدفع لأول مرة، فهي أولاً: تتخبط بين آراء عديدة، وثانياً: لا تستند لمصداقية علمية، وثالثاً: لا تتبع آخر ما توصلت إليه البحوث، ومن تلك الآراء أن الأوربيين عدّوا المعركة الأولى التي استخدم فيها المدفع معركة كريسي عام747هـ = 1346م. ونلحظ رأياً آخر يقول إن المدفع بدأ استعماله في أوربا لأول مرة عام 725هـ = 1346م في أثناء حصار مدينة فلورنس، وآخر أن إدوارد الثالث ملك إنكلترا استخدمه في حربه ضد فرنسا عام 747 هـ = 1346م.
فيجب أن ننشط بدراسات كثيرة ومتكررة لإثبات أحقيتنا في إبداعات كثيرة، ومنها الإبداع الذي تحدثنا عنه في هذه المقالة، فلا شك أن التقصير كان من طرفنا، ولذلك تطاول الآخرون ونسبوا إبداعات أجدادنا إليهم.
المصدر : الباحثون العدد 70 نيسان 2013