تهتم الدول اهتماماً كبيراً باستغلال مواردها المختلفة، سواءٌ كانت طبيعية أو بشرية، وكان استغلال الإنسان للموارد الطبيعية قديماً قِدم الإنسان نفسه، فمنذ بدء الخليقة وهو يحاول استغلالها وتسخيرها لخدمته، ويبذل في سبيل ذلك من الجهد ما يمكِّنه من تحسين الاستفادة منها بشكلٍ أفضل، إلا أنَّ الموارد البشرية لم تحظ بالاهتمام نفسه مع أنَّها لا تقلُّ في قيمتها عن الموارد الطبيعية، ولم ينل الموهوبون والمتفوِّقون الرعاية التي يستحقونها إلا منذ خمسينيات القرن العشرين، ولكنَّ هذا لا ينفي ظهور بعض محاولات متفرقة لرعايتهم هنا وهناك منذ زمنٍ أقدم من ذلك، ويُرجع البعض السبب الرئيس لذلك إلى الاعتقاد الذي كان سائداً بأنَّ هناك خيطاً رفيعاً بين الموهبة والجنون، ما أدَّى إلى ظهور بعض الاتجاهات السلبية نحو المتفوِّقين من بني البشر، بالإضافة إلى الرأي الشائع الذي كان متداولاً والقائل إنَّ المتفوِّق لا يحتاج إلى أيِّ قدرٍ من الرعاية لأنَّه يملك من المواهب ما يمكِّنه من أن يساعد نفسه بنفسه، وهذا ما يفسِّر لنا لماذا اهتمت بعض الدول برعاية طلبتها ضعفاء التحصيل التعليمي أكثر من اهتمامها برعاية الموهوبين منهم مع أنَّهم ثروة بشرية هائلة، ويمكن أن يظهر من بينهم قادة المجتمع والعلماء والمخترعون والمتخصِّصون في مجالات المعرفة كافة. ذلك أنَّه منذ احتكاك الإنسان بالإنسان، ومنذ أن تصدَّى الإنسان لتربية الإنسان، لُوحظ أنَّ بين الناس فروقاً من حيث قدراتهم ومواهبهم المختلفة، واختلافاً في مدى تذكُّرهم ومقدرتهم على فهم الأفكار واستخدام معرفتهم في إنهاء المشكلات، وتبايناً في إدراك كيفية عمل الآلات وحلِّ المسائل الرياضية والفيزيائية والكيمائية، وتمايزاً في سرعة تعلم كلماتٍ جديدة أو لغةٍ أجنبية.
ومع أنَّ تعداد الموهوبين محدود إذا ما قورنوا بتعداد باقي فئات المجتمع، إلا أنَّ أثرهم واضحٌ وجلي في دفع حياة الإنسان نحو الأفضل، فالظلال الوارفة في العلم والحضارة التي نتفيَّؤ بها ما هي إلاَّ أكفُّ العظماء من بني البشر الذين عملوا – على مدى التاريخ – بدأبٍ وديمومة ليشقُّوا لنا الطريق وينيرونه، ويذلِّلوا الصعاب، ويرسموا القيم والمُثل والمعايير. وهم أيضاً القمم التي يشار إليها بالبنان، وأنداد الغمام التي تجود بحِملها الخيِّر فوق الفيافي والقفار، ثم تمضي تاركةً وراءها الخضرة والنضرة، ومخلِّفةً الرواء والسقيا للعطشى، والشمس التي تغمر الأرض جميعها، فيستنير الإنسان بضوئها، ويتدفَّأ بنارها، ويستمتع بجمالها.ومن هنا اتجهت الأمم للاهتمام بهذه الفئة من أبنائها وصارت تتنافس في زيادة رعايتها لهم ضماناً لحسن استغلال مواردها البشرية وتوجيهها ليحقِّقوا لها ما تصبو له من تقدُّمٍ ونجاح، وأخذت بتأهيلهم ومساعدتهم ومساندتهم إلى أبعد الحدود لفتح قابلياتهم الكامنة بحيث توضع في خدمة مجتمعاتهم ورفعتها بدلاً من إهدارها وعدم العناية بها، ولنا في بعض الدول، كسويسرا واليابان، خير دليلٍ على ذلك، فمع أنَّ مواردهما الطبيعية محدودة جداً، إلا أنَّ كفاءة توجيه إمكاناتهما البشرية قد أدَّى إلى تطوير إنتاجهما الزراعي والصناعي وزيادته وتنويعه، ونمى اقتصادهما حتى أصبح ناتجهما القومي الإجمالي من بين الأعلى في العالم. وفي فترة الحرب الباردة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية (1945) بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، ودخولهما في صراعٍ سلمي لزعامة العالم، برز هذا الصراع أشد ما يكون وضوحاً في ميدان العلم والتقنية، حيث قام الطرفان بمزيدٍ من الدراسات والأبحاث عن ظاهرة التفوُّق وطرائق اكتشاف أصحاب المواهب والكفاءات المتميِّزة، الذين يمكن أن يخرج من بينهم العلماء والمخترعون.
وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ مصطلحي المتفوِّق والموهوب يحملان المعنى نفسه، ويشير إلى تميُّزهما بالذكاء الفائق والقدرة العقلية العالية جداً، في حين تحمل مصطلحات العبقري والمبدع والنابغة المعنى ذاته بالإضافة إلى التَّمتُّع بالقدرة على الخلق والإبداع، وتحقيق إنجازاتٍ عظيمة جداً وأصيلة تماماً. وبشكلٍ عام فإنَ نسبة هؤلاء لا تزيد عن واحد بالمئة من مجموع السكان مع تساوي العدد بين الجنسين، ويعود سبب بروز الموهوبين في المجتمع أكثر من بروز الموهوبات إلى أنَّ معظم النساء – بما في ذلك المتفوِّقات – يتخلَّين عن مطامحِهنَّ المهنية ليتفرَّغن لأزواجهن وأطفالهن وبيوتهن، مع ما يشوب ذلك من حرمان المجتمع من كثيرٍ من المواهب الممتازة.
فالطالب الموهوب هو الذي لديه استعداداتٍ وقدراتٍ غير عادية، أداؤه متميِّز عن بقية أقرانه في مجالٍ أو أكثر من المجالات التي يقدِّرها المجتمع ويقرُّها، ولاسيما في مجالات التفوُّق العقلي والتفكير الابتكاري والتحصيل العلمي والمهارات والقدرات الخاصة، ويملك حصيلة لغوية واسعة ومعلومات غزيرة، سريع البديهة وقوي الذاكرة ونافذ البصيرة وحاد الملاحظة وكثير القراءة، كما أنَّه لا يميل إلى العمل الروتيني، ولا يحتاج إلى الحث، ويتمُّ عمله بإتقان، ويميل إلى العمل الفردي، ويهتمُّ بأمور الكبار، وحازمٌ ومغامر، ويستطيع التمييز بسهولة بين الصواب والخطأ، ومتقِنٌ لأعماله وينجزها بدقة، ويعبِّر عن رأيه بوضوحٍ وجرأة، مرن التفكير، ويتميَّز بطبعه الاجتماعي ومشاركته الآخرين في أنشطتهم، محب للاستطلاع والاكتشاف وخياله واسع، ويتمتَّع بروح الدعابة، إحساسه مرهف وكلامه دقيق، وهو لذلك يحتاج لرعايةٍ تعليمية خاصة قد لا تتوافر له بشكلٍ متكامل في برامج ومناهج الدراسة العادية، ويتمُّ اختباره وفق الأسس والمقاييس العلمية الخاصة والمحدَّدة وفق إجراءات برنامج الكشف عن الموهوبين ورعايتهم.
إلا أنَّ الاهتمام بالمتفوِّقين ورعايتهم قد اتَّخذ طرائق عدة، وانقسمت الرؤى بين مؤيِّدٍ ومعارض لهذا الاتجاه أو ذاك:
الاتجاه الأول: ضرورة إنشاء مدارس خاصة للمتفوِّقين، أو تخصيص صفوف خاصة بهم ضمن المدرسة الواحدة، وحجة مؤيِّدي هذا الرأي تقول إنَّ تجميعهم في صفٍ خاص يبعد عنهم شعور السأم والملل، ويدفعهم إلى بذل الجهد والاجتهاد، حيث تسير الدراسة على مستوى عالٍ يتناسب مع قدراتهم واستعدادهم، وهذا على العكس تماماً مما يحدث عند انضمامهم إلى صفوف الطلبة العاديين، إذ يجد الطالب الموهوب نفسه حائراً أمام ما يدور في الفصل من طروحاتٍ ومناقشات لا ترتفع إلى مستواه المتقدِّم، ولا تحفِّز كوامن قدراته الإبداعية. ويضاف إلى ذلك أنَّ وجود المتفوِّقين في صفٍ منفرد يمكِّن مسؤوليهم من إعداد برامج دراسية خاصة تتفق وتتناسب مع مستوى مواهبهم المرتفعة، وإعطائهم ما يستحقون من رعاية متميِّزة، وقد انتهجت سورية – كما سنرى بعد قليل – هذا الأسلوب.
الاتجاه الثاني: ضرورة تجميع الطلبة من المستويات كافة مع بعضهم بعضاً، وحجة مؤيِّدي هذا الرأي تقول إنَّ فصل الطلبة المتفوِّقين عن العاديين قد يؤدِّي إلى نشوء ارستقراطية علمية منعزلة عن واقع المجتمع ومشكلاته، وإلى انعدام روح التعاون بين المتفوِّقين أنفسهم، وإلى إثارة نظرةٍ عدائية حاقدة من جانب الطلبة العاديين تجاه أقرانهم المتفوِّقين لعدم تمكُّنهم من الالتحاق بالصفوف أو المدارس المتميِّزة، وإلى خسارتهم القدوة الصالحة وحرمانهم من الاستماع إلى الأفكار الصائبة وافتقادهم المشاركة في المناقشات المثمرة، هذا عدا أنَّ وسائل اختيار الطلبة المتفوِّقين قد تكون غير دقيقة ولاسيما إذا اعتمدت أساساً على التحصيل الدراسي، وبدون الأخذ بعين الاعتبار النضج الاجتماعي والنفسي والقدرة الابتكارية والمواهب المختلفة.
وتطبيقاً في الدول التي اتخذت سياسة تجميع المتفوِّقين، فقد جرى إعداد مناهج خاصة لهذا الغرض تختلف في مضمونها وطبيعتها عن المناهج الموضوعة للطلبة العاديين في المرحلة والصف نفسيهما، وهذه المناهج تأخذ عادةً أحد هذين المسربين الآتيين:
1 – الاتجاه نحو التوسع في المناهج دون التعمق، وذلك بتقديم مواد جديدة يدرسها المتفوِّقون بالإضافة إلى المواد الأخرى المخصَّصة للعاديين في المرحلة نفسها.
2 – الاتجاه نحو التعمق دون الاتساع في المنهج الذي يدرسه العاديون، أي دراسة المواد نفسها بمستوى أعلى من المستوى المقرر للطلبة العاديين، مع استخدام أساليب البحث العلمي المختلفة التي تساعد الطلبة المتفوِّقين على تنمية مهاراتهم وإظهار مواهبهم، وتعويدهم التفتيش عن الحقيقة من مختلف مصادرها أينما وُجدت، ولاسيما مع انتشار وسائل المعرفة الحديثة كالشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، وتكريس حبِّ الفضول العلمي لديهم وشغفهم بالاستطلاع.
وفي كلا الحالين لا بدَّ من وضع الطلبة المتفوِّقين في جوٍّ علمي مشبع بالحرية والانطلاق الفكري بما يتناسب مع مستواهم المتقدِّم، ويثير فيهم روح الابتكار والتجديد والكشف، ويبتعد عن طرائق التعليم التقليدية، وأن تكون مناهجهم موضوعة بما يمكِّنهم من النمو العلمي المتكامل، وهذا لا يمكن أن يُكتب له النجاح ما لم يتم تحت إشراف وتوجيه أساتذة ومربِّين متخصِّصين يتميَّزون بمستوى مرتفع من الخبرة والقدرة والعلم، بالإضافة إلى معرفة متقدِّمة بالأساليب المختلفة المتَّبعة في تعليم المتفوِّقين والموهوبين، ذلك أنَّه من الخطأ أن نتصوَّر بأنَّ الطالب الموهوب إنسانٌ لا يحتاج للتوجيه والإرشاد لكي ينمِّي مواهبه ويطورِّها، ومن الخطأ أيضاً أن نتصوَّر أيضاً بأنَّ الموهبة تقود الموهوب تلقائياً إلى أهدافها، وأنَّه قادر على أن يختار بنفسه المصادر التي ستساعده على تحقيق التميُّز والإبداع مسترشداً فقط بقوة ودافعية الموهبة الطبيعية.
ولجأت بعض الدول إلى اختزال عدد السنوات الدراسية بالنسبة للطلبة المتفوِّقين أكاديمياً، حيث يُسمح للطالب أن ينهي المرحلة التعليمية في مدة تقل عن المدة المقررة للطالب العادي، كأن ينهي المرحلة الإعدادية والثانوية في سنتين بدلاً من ثلاث، كما تلجأ بعض الجامعات إلى تمكين الطلبة الموهوبين من إتمام مقرَّراتهم الدراسية قبل سنةٍ أو أكثر من السنوات المقررة للطلبة العاديين، وهذا مما يساعدهم على التحصيل العلمي في مستوى يتفق وقدراتهم واستعداداتهم وإمكاناتهم العقلية. ويقول متبنُّو هذا الأسلوب من رعاية المتفوِّقين – اعتماداً على ما أثبتته الدراسات – إنَّ الكثيرين من أفراد المجتمع يصلون إلى أعلى درجة من القوة الجسمية والقدرة على مواجهة ضغوط العمل واحتمالها والتوقُّد الذهني والإنتاجية والحماس، إنَّما يكون في العقدين الثالث والرابع من العمر، لذلك فإنَّ تخفيض عدد سنوات الدراسة بالنسبة للمتفوِّقين ذوي المواهب المرتفعة يؤدِّي إلى دخولهم الحياة العملية في سنٍ مبكِّرة نسبياً، ومن ثم تزيد الاستفادة من عددٍ أكبر من السنوات التي تتَّسم بأعلى قدرٍ من جودة الإنتاج وابتكار طرائق جديدة، وقد لجأت سورية - كما سنرى بعد قليل – إلى انتهاج هذا الأسلوب أيضاً. ومع أنَّ هذا النهج سليم ومقنع نظرياً وعملياً، إلا أنَّ البعض يعترض عليه بحجة أنَّ الطالب المتفوِّق على الرغم من نضجه العقلي، إلا أنَّ نضجه الاجتماعي والانفعالي قد يكون في مستوى أقل من مستوى نضجه العقلي، وبالتالي فإنَّ اختزال سنوات الدراسة قد يؤدِّي إلى وضعه بين طلبةٍ يفوقونه في النضج الجسمي والاجتماعي والانفعالي، مما يُفقده فرصة ممارسة القيادة الاجتماعية والتدرب عليها، هذا بالإضافة إلى أنَّ تشجيع المتفوِّق على زيادة جهوده المبذولة في الدراسة والتحصيل العلمي إلى درجة استغلاله لكلِّ أوقات فراغه، قد يؤدِّي إلى إضعاف وشلِّ قدرته الابتكارية نتيجة نقص وقت الفراغ، ذلك أنَّ وقت الفراغ إذا ما أُحسن استغلاله يعطي الطالب فرصة البحث والكشف والاطلاع الخارجي، ويزيد من تفاعله مع مشاكل مجتمعه الذي يعيش فيه.
ومن القضايا المثيرة للجدل في مجال رعاية الموهوبين، هو أنَّ التوجُّه نحو الاهتمام بالتفوِّق العلمي دون النظر إلى المواهب الأخرى، قد لا يكون أمراً مقبولاً، إذ إنَّ الكثيرين من العلماء والمخترعين الذين قدَّموا للإنسانية خدماتٍ عظيمة وجليلة غيَّرت مجرى حياة الجنس البشري، لم يكونوا من المتفوِّقين في تحصيلهم الدراسي، بل إنَّهم كانوا يتمتَّعون بقدراتٍ ابتكارية، ويتميَّزون بحُسن الإدراك السليم والتركيز الشديد. ومن هنا يرى المربُّون وأصحاب الرأي - إذا ما أُريد تحقيق الاستغلال الأمثل للطاقات البشرية - ألَّا تقتصر الرعاية على المتفوِّقين علمياً فقط، بل يجب الاهتمام بالمواهب الأخرى بأشكالها وصورها كافة، كالعبقريات والمواهب في الميادين الفنية والموسيقية والقيادة الاجتماعية.
ومما لا شكَّ فيه أنَّ رعاية الموهوبين والمتفوِّقين معادلة تماماً للرعاية المادية لهم، ذلك أنَّ هذا التشجيع له قيمةٌ كبيرة كقوةٍ دافعة على التحصيل العلمي والإجادة والتفوُّق والنبوغ والإبداع، ولاسيما بالنسبة للطلبة غير الميسورين الذين لولا تشجيع الدولة المادي لهم والمنح المالية التي تقدِّمها لهم، لما تمكَّن الكثيرون منهم من متابعة دراستهم، وبالتالي لما تمكَّن المجتمع من الاستفادة منهم. ومع أنَّ مجانية التعليم في أغلب دول العالم تساعد الطلبة كافة على إتمام دراستهم، إلا أنَّ هذه المجَّانية لا تغطي سوى جزءٍ بسيط من النفقات السنوية للطالب، ولاسيما بالنسبة لمن تضطره الظروف للالتحاق بمعهدٍ يبعد كثيراً عن عائلته، أو عن مدينته، فهناك نفقات الكتب الدراسية ومتطلَّباتها بالإضافة إلى الإنفاق على وسائل المعيشة اليومية، وكم من طالبٍ متفوِّق لا يستطيع أن يتابع تعليمه لأنَّه لا يجد المال الكافي للإنفاق على نفسه مع أنَّ التعليم مجَّاني.
ويندرج تحت الرعاية المادية للمتفوِّقين ضرورة استمرار الاعتناء بهم بعد تخرجهم وانخراطهم في الحياة العملية، إذ يجب وضعهم في بيئة عملٍ مناسبة يستطيعون فيها استغلال مواهبهم لخدمة المجتمع الذي كرَّمهم ومنحهم رعايته وعنايته واهتمامه، وألاَّ يُشغلوا في عملهم ووظائفهم بوظائف روتينية تستنزف من طاقاتهم دون نتيجة ملموسة، وأن يمنحوا من إمكانات البحث والدراسة ما يمكِّنهم من استدامة نموهم العلمي والمهني، هذا بالإضافة إلى تهيئة سبل العيش الرغيد بما يساعدهم على التركيز في العمل والبحث، ويبعث في نفوسهم الاطمئنان والراحة والاستقرار.
وإذا ما أخذ المجتمع الإنساني بهذه الأسباب الموجبة، واستطاع أن يستغلَّ العبقريات الكامنة في الجنس البشري، فإنَّه - بدون شك - سيحرز الكثير من التقدم والنجاح اللذين تسعى نحوهما – بدأبٍ لا يتوقَّف - كل شعوب وأمم العالم، ما يؤدِّي في خاتمة المطاف إلى جعل الأوطان قائمةً على أسسٍ صلبة من القوة المادية والقيم الروحية والخلقية.
التجربة السورية في دعم الطلبة الموهوبين
نظرت السلطات السورية إلى أبنائها الطلبة الموهوبين على أنَّهم هبةٌ وعطاءٌ كريمين من الله عزَّ وجل، وثروة وطنية تستحق الرعاية والاهتمام، وبالتالي فإنَّ عليها تجاههم واجباً كبيراً حتى تكون جديرة بتفوِّقهم، ولجأت لذلك منذ السنوات الأخيرة إلى احتضانهم- وبرعايةٍ سامية - في ثلاثة مراكز خاصَّة بهم، وهيَّأت لهم طواقم تعليمية ذات كفاءاتٍ عالية وقدراتٍ متميِّزة، وهي:
أولاً: مدارس المتفوقين:
تأسَّست في عام (1998) بموجب تعليمات صادرة عن وزير التربية، ووصل عددها إلى العشرين مدرسة حتى عام (2013) موزَّعةً على مراكز المحافظات السورية كافة وعلى بعض أريافها، ويُقبل فيها الطلبة المتفوقون من الصف السابع إلى الثاني عشر، وهم الذين حصلوا على نسبة تسعين بالمئة من العلامات في نهاية المرحلة الدراسية الأولى الابتدائية والشهادة الإعدادية، بالإضافة إلى اجتياز امتحان عالي المستوى وفق مقاييس دولية يجري سنوياً بإشراف وزارة التربية، وذلك حرصاً على استثمار طاقاتهم الإبداعية وتنميتها بشكلٍ مميَّز عن أقرانهم ووفق منهاج وزارة التربية، ولا يزيد عدد الطلبة في الصف الواحد على الثلاثين، ودوامهم يكون كما هو دوام أقرانهم العاديين، ولا يترتَّب عليهم دفع أي تكاليف، إذ تتحمَّل الحكومة السورية النفقات كافة. بعد حصول الطالب المتفوِّق على شهادة التعليم الثانوي، يمكن أن تُقدَّم له منحة دراسية في وزارة التعليم العالي حتى حصوله على شهادة الدكتوراة.
ثانياً: الهيئة الوطنية للأولمبياد العلمي السوري:
وتتبع القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي، التي أسَّستها في عام (2006) لتحقيق رسالة: " تكوينٌ وتربية، علمٌ وعمل، فنٌ وإبداع، روحٌ جماعية وعملٌ جماعي"، وبهدف توفير مستقبل علمي جيد للطلبة السوريين من خلال تطوير وتحفيز قدراتهم العلمية في مختلف المجالات، واكتشاف الموهوبين والمتميزين علمياً، ورعايتهم وتطوير وتنمية معارفهم وقدراتهم الإبداعية ومهاراتهم في التفكير العلمي، والارتقاء بمستوى الفكر البحثي العلمي لديهم،وتدريبهم وتأهيلهم بطرائق علمية جديدة مختلفة عن الآلية المدرسية، ويجري كل ذلك نظرياً وعملياً في أهم المراكز العلمية السورية مثل مخابر الجامعات والمعهد العالي للعلوم التطبيقية والتكنولوجيا، والمحاضرات الخاصة بالأولمبياد التي تقدَّم عبر شاشة القناة التربوية السورية، وتحت إشراف أفضل الخبراء السوريين المتخصِّصين، لخلق جيلٍ مبدعٍ من الشباب قادر على الفعل والتفاعل في عصر المعرفة المتقدِّم، وتحقيق الريادة العالمية باكتشاف الكوادر البشرية ذات الكفاءة العالية، وذلك من خلال إقامة "الأولمبياد العلمي السوري"، الذي انطلق محليَّاً بأعدادٍ محدودة من الطلبة تزايدت في السنوات اللاحقة، والذي هو مسابقة علمية ذات فرصٍ متكافئة دون تمييز في العلوم الأساسية: الرياضيات، الفيزياء، الكيمياء، المعلوماتية، وتبدأ تصفياتها في المحافظات السورية كافَّة لتشمل أكبر عددٍ ممكن من طلبة صفوف العاشر والحادي عشر والثاني عشر، ثم تنتقل لتصفيات المناطق، والأوائل منهم يتأهلون لتصفيات المحافظات، والنخبة من هؤلاء يتأهلون للمنافسة بدمشق - وسط أجواءٍ مريحة بأماكن مميَّزة - في التصفيات المركزية النهائية ذات المستوى العالي، بتوقيتٍ متزامن مع عطلة منتصف العام الدراسي، حيث يجري العمل على استثمار الحالة التنافسية في تحفيزهم، اعتماداً على تنمية العامل الذاتي في التحضير بعد تزويدهم - مسبقاً - بكل المناهج والمحاضرات والمسائل المهمة، لدراستها وحلِّها، مع إمكان التواصل مع المشرفين العلميين في اللجان المركزية عبر شبكة الإنترنيت، والفائزون العشرة الأوائل يتكوَّن منهم الفريق الأوليمبي العلمي السوري. وفي حفلٍ مميَّز، يمنح كلٍّ منهم شهادة تقدير، ويمنح الثلاثة الأوائل على التوالي ميدالية ذهبية وفضية وبرونزية ومكافأة مالية مقدارها ( 150 - 125 - 100) ألف ليرة سورية، ومن ثم يبدأ إعداد الفرق للمشاركة في الأولمبياد العلمي العالمي. كما يشارك في التصفيات النهائية أوائل السنوات السابقة، وإنَّما من خارج المسابقة، ولا تحتسب علاماتهم ضمن الترتيب، وذلك حفاظاً على استمرار تواصلهم مع الأولمبياد وأجوائه، وتعزيزاً لخبراتهم ومهاراتهم، ومن ثم يستهل الجميع رحلة تفوق جديدة ومنافسة أشد بينهم للوصول إلى تمثيل سورية في الأولمبيادات العلمية العالمية والآسيوية والعربية. ولا شكَّ في أنَّ كل ذلك يؤدِّي إلى توسيع مؤهِّلات الطالب الموهوب، ويفتح الباب أمامه واسعاً لدخوله ميدان البحث العلمي، وإطلاق العنان لمهاراته وإبداعاته، وصولاً إلى آفاقٍ أكثر إشراقاً تلوح من خلالها ملامح علماء المستقبل. يُشار إلى أنَّ مشاركة الطلبة في الأولمبيادات العلمية كافة مجانية، وتتحمَّل الدولة السورية النفقات كاملةً.
نشأت فكرة الأولمبياد العلمي العالمي قبل نحو خمسين عاماً في ألمانيا، ومنها انتشرت في العديد من دول العالم، ويستضيف بعضها المنافسات الدولية، حيث تتابع رحلة العلم التخصصي مسيرتها، ويستمر البحث عن المتميزين، ويتواصل الكشف عن المبدعين، بجهود اللجنة العالمية للأولمبياد العلمي العالمي، التي تضع المنهاج العام وتعمِّمه عبر موقعها الإلكتروني، الذي يتضمَّن مواضيع علمية عالية المستوى من المرحلة الجامعية. في عام (2009) بدأت سورية مشاركتها في الأولمبياد العلمي العالمي، ومع الفارق الزمني الذي يفصل الأولمبياد العلمي السوري عن الأولمبيادات العالمية التي سبقته بنحو نصف قرن، فقد تمكَّن خلال أربع سنوات من فرض حضوره في الساحة العلمية العربية والقارية والعالمية، وأحرز الطلبة السوريون عدة شهادات تقدير تمنح لمن هو دون العشرين من عمر هو يتمكَّن من حلِّ مسألةٍ بكاملها، وتوزَّعت الشهادات على النحو الآتي:
- بمادة الرياضيات: شهاداتا تقدير في الأولمبياد العلمي العالمي بكازاخستان (2010)، وواحدة في هولندا (2011)، وواحدة في الأرجنتين ( 2012)، واثنتان في الأولمبياد الآسيوي باليابان (2012).
- بمادة الفيزياء: ثلاث شهادات تقدير في الأولمبياد العلمي العالمي بأستونيا (2012).
- بمادة الكيمياء: ميداليتان فضيتان ومثلهما برونزيتان في الأولمبياد العلمي العربي بدولة الإمارات العربية المتحدة (2010).
ومن المقرر أن تشارك سورية في عام (2013) بأولمبيادات الرياضيات في كولومبيا, والفيزياء في الدانمارك، والكيمياء في روسيا، والمعلوماتية في أستراليا، وغيرها...
يُشار إلى أنَّ مسابقات الأولمبيادات العالمية تجري باللغة الإنكليزية، ويتمُّ تأهيل الطلبة السوريين في المراكز اللغوية السورية.
ثالثاً: المركز الوطني للمتميِّزين:
بتاريخ 27/8/2008 أصدر الدكتور بشار الأسد رئيس الجمهورية العربية السورية المرسوم التشريعي رقم (45) القاضي بتأسيس "المركز الوطني للمتميِّزين"، ويتمتَّع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال الإداري والمالي، مقرَّه في مدينة حمص مع إمكان إحداث فروعٍ له في المحافظات السورية. يهدف المركز إلى تدريس الطلبة المتميِّزين الحائزين على شهادة التعليم الأساسي وفق أسس انتقاء محدَّدة، وتقديم الرعاية العلمية لهم من خلال مناهج خاصة وبرامج إثرائية وبيئة تربوية وتعليمية ملائمة، وتنمية مواهبهم وقدراتهم في المجالات المعرفية والبحثية، وتعزيز انتمائهم الوطني في إطار بناء الشخصية المتكاملة التي تسهم في تقدم الوطن وحمايته، وتقديم الرعاية النفسية والاجتماعية لهم وتحقيق التواصل مع أسرهم وبيئتهم الاجتماعية، والإسهام في حلِّ المشكلات التي تحدُّ من نمو قدراتهم ومواهبهم، وتحفيزهم للتعبير عن مواهبهم وإبداعاتهم العلمية والتقنية، وتوثيق الصلة بينهم والمؤسسات التعليمية والبحثية لتنمية مهارات البحث العلمي والاكتشاف والإبداع لديهم، وتنمية شخصيتهم وتمكينهم من اكتساب مهارات التفكير العلمي والاكتشاف والتواصل مع الآخرين.
يمنح الطلبة خريجو المركز شهادة الدراسة الثانوية حسب فرع الاختصاص وفق المناهج والخطط الدراسية المعتمدة للمتميزين، ويلتزمون بمتابعة دراستهم العليا وفق الحاجات التي تقتضيها المصلحة العامة في إحدى الجامعات والمعاهد العليا السورية ضمن الإيفاد والبعثات الداخلية والخارجية. ويجري في كل الجامعات السورية التي يتقدم إليها الطلبة المتميزون لمتابعة دراستهم دائرة لقبول الطلبة المتميزين ومتابعة دراستهم وفق أسس القبول الخاصة بهم. ويقبل الطلبة المتميزون في الجامعات والمعاهد العليا السورية وفق أسس متميزة عن المفاضلات وأسس القبول المعتادة، وتجرى لهم امتحانات قبول ذات طبيعة خاصة ومقررات محددة تؤدي إلى اختصار سني الدراسة في الجامعة وفق نظام التسريع، وتعادل الإجازة الجامعية التي يحصلون عليها مثيلتها التي تمنح للطالب الذي ينجح في نهاية مدة الدراسة المعتمدة في الكلية. كما يسمح لمن يتابع دراسته العليا (ماجستير– دكتوراة) بعدم التقيد بحدود المدة الزمنية الدنيا لإنجاز الدراسات والبحث المرتبط بإحدى هاتين الشهادتين في تمكنه من إنجاز البحث المطلوب خلال فترة أقل مما هو محدد لها، وقد يجري إعداد مناهج دراسية خاصة بهم يتلاءم مستواها العلمي مع قدراتهم ومواهبهم حرصاً على استمرار تفوقهم وتميزهم.
بدأ المركز الوطني للمتميزين عمله في عام (2009)، حيث تقدَّم الطلبة ممن حصلوا على نسبة تسعين بالمئة في شهادة التعليم الأساسي بطلباتٍ للانضمام إليه، وأدُّوا امتحاناً خاصاً اسمه: "اختبار المتميزين"، واشتمل على مرحلتين هما: اختبار كتابي، واختبار القدرات العقلية. بعد الحصول على علامة النجاح في الاختبارين، قُبِلوا في المركز حسب تسلسل الدرجات إلى أن وصل العدد إلى الخمسة والسبعين حسب الطاقة الاستيعابية. الدراسة في المركز بمدينة حمص داخلية وسط أجواءٍ مثالية رائعة، وتتحمَّل الحكومة السورية النفقات كافة. في عام (2012) تخرجت الدفعة الأولى ( 75 طالباً)، وأقيم لهم حفلٌ مهيب بدمشق.
المصدر : الباحثون العدد 70 نيسان 2013