لا تبرّر الحياة الإنسانية للمتمتع بها استمراره بطريقة خاطئة، فالهدف الإنساني حلم جماعي خصّ الوجود البشري أينما وُجد، بكونه طموحاً سامياً يتجول حتى في داخل أعتى المخطئين، وبما أن أيّ حلم يتجول في عقل الإنسان قابل للتحقق إن قام بامتلاك مكونات الإيمان به؛ حيث يتحول الفعل إلى عملية البحث عن الوسائل من أجل تحقيقه، فإذا حصل وعمل له وصل وتحقق السؤال الذي يفرض حضوره في عنواننا: هل يمكن تغيير المستقبل؟
البديهية الفكرية تتحدث أن التسامح مع من أساء إليك لا يغيِّر الماضي والحاضر فقط؛ بل يغير المستقبل، وهذا ما يحتاج القدرة الاستثنائية التي تحطم الأوهام والحواجز، فمن قال: مستحيل أقول له جرِّب، ومن قال لا أقدر أطالبه بأن يحاول، ومن قال لا أعرف، أدعوه للتعلم.. فما معنى المعرفة بلا علم، والعلم بلا معرفة، والإنسانية بلا أخلاق، والعبادة بلا تضحية، وما معنى أن تخشى الناس؟ العيب أكثر من ارتكاب الكبائر وفعل الحلال بلا تسامح، فلا خير في إنسان ليس بناصح، وكذلك لا خير فيه إن لم يتقبّل النصح، فالحقيقة جدّ قاسية، ونسقطها أثناء إحداث مقاربه تغيير السلوك بين الحيوان في تنوعه، ومن ثم بين الإنسان والحيوان، فعندما ينتاب الحيوان الجوع يتطور الخطر في داخله إلى أن يتملّكه فيغدو خطراً جداً، فإذا شبع يهدأ ويستكين مهما كان شرساً، فهل الإنسان كذلك؟ أم إنه يصبح خطراً عندما يشبع، وكلما تطور الشبع لديه تزداد خطورته من باب "استعادته لنشاطه" وهل يمكن أن تتحقق المتعة إن لم يتملّكها الضمير، وأية ثروة يتملكها الإنسان إن لم تتحصّل من خلال العمل الحقيقي والشريف؟ وحينما نعلم أن المستقبل لا يخصّ فرداً بعينه، وإنما هو مجموع الكل، نتقاسمه فيصيب كلُّ واحد منّا منه نصيباً، نعلم من أجل من نعمل، ويظهر حلم الحاجة إليه إلى أن يكون مشرقاً.
دعونا نستيقظ ولو ليوم واحد بعد نوم قلِق وأرق، وننهض متفكرين بأننا استطعنا فيه أن نغير كلّ شيء في داخلنا، أي: ننسى ما كان، ونعِد فيه أنفسنا بأن نبدأ من جديد، يوم قريب نستحضره من المستقبل، ونعكسه على حاضرنا، نؤمن بأنه يمتلك خلاصنا، ونعترف لبعضنا مباشرة ودون مواربة أننا تغيّرنا، فنكون به قد دخلنا إلى مستقبل جديد؛ بعد أن نؤمن بحرية الإنسان التي تلج الحياة مع ولادته، والتسامح يحتاج الحرية، فلا تسامح مع العبودية، والحقيقة المجردة تتحدث أن مسامحة العبد وهو عبد سطحية إلى أن يتحرر، فطالما هو عبد لا تتحقق معادلة التسامح، إنما الفقير الحر يسامح برضائية حريته، وإيمانه العميق بأن الفرص التي لم يحصل عليها في حياته، محفوظة له في عالم الآخرة، أيضاً الغني أخلاقياً يسامح بحريته، فالحرية والتسامح متلازمتان لا يمكن فصلهما عن بعضهما، وإلّا كان بالتأكيد هناك خلل، وعالمنا اليوم عالم خلل أخلاقي، أي إن طرفي المعادلة ضعيفا الوجود، لذلك فيما أعتقد أن علينا العودة للأخلاق، وحينها نجد أن ليس المستقبل فقط يتغير، وإنما العالم في جلّه.
إن وصول المجتمعات إلى حالة انعدام الأخلاق وضياعها نتاج عدم القدرة على تحليل أزماتها وتراكمها، والتباطؤ في إيجاد الحلول الناجعة والمرضية المنجزة للتجانس، والمبعدة لسيطرة عناوين انتشرت من أجل فصل الإنسانية عن بعضها، وتعميم صورة البشرية المادية صاحبة الأنا الفردية، وتضخّم مفهوم النخبوية والنرجسية التي لا تؤمن إلا بالغوغائية مثل: الغاية تبرر الوسيلة، ولكل فعل ردّ فعل يساويه في القوة ويعاكسه في الاتجاه، وانتشار لغة القتل من أجل البقاء، وتبنّي مفاهيم شريعة الغاب، واعتماد التدمير كوسيلة لإعادة البناء.. وبما أن كل واحد منّا إنسان ضمن حقيقة وجودنا التي نؤمن بها؛ أقول: كفانا بحثاً عن جذور وجودنا وكفانا تفصيلاً في حسَبنا ونسبنا، فكلنا إنسان ابن إنسان، يكفي لنا أن نستعيد إنسانيتنا فنلتقي.
أسأل كلّ واحد منّا فرادى ومجتمعين: إن بقينا على ما نحن عليه مؤكد أننا واصلون إلى الاهتراء؛ من خلال قافلة خطايانا التي تنهك عقولنا وأفكارنا، وترتمي على كواهلنا فتمنعنا من لقاء بعضنا.. تعالوا نطلب الغفران ولنشعل التسامح في قلوبنا، ونطلب منه أن يضيء دروب لقائنا، وبدونه أي بدون التسامح لن يتغير مستقبلنا، ومن المؤكد إن لم نصل إليه ونمتلكه سيكبر جحيمنا وزعلنا من بعضنا وعلى بعضنا.. وبالتالي يحل غضب الربّ على جميعنا، ولنتذكر.. إن حلَّ فلن نكون.
المصدر : الباحثون العدد 71 أيار 2013