التنبؤ بالمستقبل يبدو أنه لا يقتصر على شريحة معينة من الناس كما هي قناعة البعض من الذين يتتبعون أقوال المنتمين إلى هذه الشريحة، وبنحو خاص في الأيام الأخيرة من كل عام على وسائل الإعلام المختلفة ويصدقونهم، وذلك رغم المعادلة التي تقول كذب المنجمون ولو صدقوا.
في هذا السياق نقرأ أن فريقا من الباحثين من معهد للتكنولوجيا في الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، تحدثوا مسبقاً عن النمو العالمي في سنة 2000، وذلك في ضوء تقرير تم إعداده في سنة 1972 ونُشر في الولايات المتحدة الأمريكية قبل بضعة أشهر كتاب "حدود التنمية" ضمّ أبحاثاً قام بتحليلها البروفسور دينيس ميدوز وانتهى إلى النتيجة التالية وهي إنه بعد العام 2000 الأغنياء سيزدادون غنى وأما الفقراء فسوف يستمرون في إنجاب الأطفال. ويبرر البروفسور ميدوز هذه النتيجة بالقول إن العوامل الرئيسة التي سوف تؤثر في عملية التنمية من حيث الزيادة والنقصان هي: السكان. الإنتاج الزراعي. الإنتاج الصناعي. الموارد الطبيعية. التلوّث.
وبطبيعة الحال فإن هذا الرأي قد يحتمل وقد لا يحتمل القبول من جانب باحثين آخرين، يرون أن المسألة تتعدى كل ما أشير إليه في كتاب "حدود التنمية" لأن باحثين ينتمون حصراً إلى مجتمع ما وإلى بيئة ما، لا يمكن أن تعبّر نتائج جهودهم العلميّة عن واقع المجتمعات والبيئات الأخرى الواقعة في أرجاء أخرى من العالم.
إن مسألة زيادة الأغنياء غنى لا تتعلق حكماً بتقديرات فريق من الباحثين في مكان معين وفي زمن معين. كذلك شأن الفقراء الذي يستمرون في إنجاب الأطفال، لأن هاتين المسألتين يحددهما أكثر من سبب، وأهم هذه الأسباب الظروف الاقتصادية خصوصاً تلك التي يتعرض لها هذا البلد أو ذاك، مع الأخذ بعين الاعتبار الفوارق الموجودة بين دول الشمال والجنوب من ناحية، ومن ناحية أخرى بين دول الشرق والغرب. إن ثمة عوامل عديدة تتداخل وتؤثر بشكل واضح، في سياق مثل هذه المسألة، وبالتالي تؤدي دوراً بمقدار ما يصيب هذا البلد أو ذاك من تداعيات الفوارق بين الدول على حياة الناس فيها.
من هنا يبدو أن البحث في مسار قضايا التنمية البشريّة في ضوء ما هو متاح أمام شريحة معينة من الباحثين، لا يمكن أن يقارب الحقيقة بعد مرور عشر سنوات أقل أو أكثر، لأن المتغيرات التي تحدث على الأرض يصعب تحديد أبعادها والأمثلة في تاريخ البشرية أكثر من أن تعد أو تحصى. وفي اعتقادنا أن كتاباً كهذا إذا ما احتل مكاناً في مكتبة عربية، أينما كان موقع هذه المكتبة، لا بد أن يلعب دوراً في إقناع سكان البعض في الأقاليم والبلدان الفقيرة، بأن "قدرهم" سيكون على نحوِ ما انتهى إليه التقرير وبالتالي لا نفع من محاولة الهروب من مواجهة هذا المصير والتغلب عليه. وهنا تحديداً خطورة تعميم أساليب الاعتداء على الوعي الوطني لا الفكري فقط عند غالبية الناس.
إن كتاباً كهذا، ربما أراح البعض من سكان البلدان الغنية وأشاع الطمأنينة في نفوسهم، ولكن ماذا عن البلدان الفقيرة؟ ماذا عن هذه البلدان في الوقت الراهن خصوصاً وهي تعاني وتدفع ثمن الاعتداء على كيانها لا فقط من نقص مواردها الاقتصادية؟ وهل يحق لأحد أن يؤكد بالدليل القاطع أن قدر أبناء البلدان الفقيرة أن يبقوا في أماكنهم ويمارسوا واجباتهم لجهة إنجاب الأطفال وتحت بند القول الشائع: المكتوب على الجبين تراه العين؟
إن ترويج مثل هذه المؤلفات على المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي التي جرى ويجري تعميمها على مستوى الرأي العام، في سياق ما نعلم عن تداعيات موجة العولمة منذ ثمانيات القرن الماضي ومستمرة حتى اليوم، إن ترويج هكذا آراء هي أشبه ما تكون كالبضائع المغلفة بأرقى أنواع الورق لإغراء الشاري دون معرفة تفاصيل ما تحويه على نحو قراءة محتويات حافظات الأدوية ومعرفة منافعها بالدرجة الأولى قبل تناول الدواء بناء على وصفة الطبيب.
من هنا خطورة قبول الرأي الآخر مهما يكن موقعه في سلّم الشهرة بإغماض العين عن عمد، لأن التاريخ يروي لنا سقوط علماء ومفكرين في التجارب التي قادتهم إلى المثول أمام محاكم الضمير ليس تحت أقواس المحاكم أمام القضاة فحسب. وفي اعتقادنا أن ما استنتجه البروفسور دينيس ميدوز لا يمكن أن يخضع لقوانين الطبيعة لا اليوم ولا في المستقبل، لأن الطبيعة بحد ذاتها تخضع لمتغيرات من المستحيلات أن يتمكن إنسان مهما علا شأنه في العلم رصد ما ستكون عليه الطبيعة بعد لحظات لا بعد أشهر أو سنوات.
إن الرأي الآخر، يحتل مكانته في الذاكرة الجمعيّة لشعب من الشعوب، عندما يكون شاملاً لتوقع مصير ما يصيب العالم ككل أو أجزاءً كبيرة منه، لا فئة من هذا المجتمع أو ذاك، سواء أكان يعاني من فقر أم كان يتمتع بالغنى. مصير البشريّة لا يمكن أن يرتبط بنتائج بحث لا يستطيع الإجابة عن سؤال: لماذا سيبقى الفقير فقيراً وظيفته إنجاب الأطفال، والغني ستزداد ثروته بعد العام 2000؟
قد يكون الجواب: لأن العدالة فُقدت منذ سنوات طويلة ولم تعد تسعى دول في العالم قادرة على تحقيق التوازن بالنسبة لاحتياجات البشر اليومية المتنوعة بغض النظر عن التحولات التي تحدث على الأرض ولا تتوقف ساعة وخصوصاً في المجالات التي تتصل بتداعيات الأوضاع الاقتصادية في المجتمعات مع تخطيها عتبة القرن الحادي والعشرين في بداياته التي ما تزال شبه غامضة.
iskandarlouka@yahoo.com
المصدر : الباحثون العدد 71 أيار 2013