أنت عصبي.. أنت مضطرب.. حزين.. غاضب.. مريض.. مكتئب.. إذاً أنت بحاجة إلى الاستماع إلى الموسيقى للخروج من الحالة التي تعانيها.. هذا ما كشفت عنه دراسات طبيّة ونفسيّة عديدة، تؤكد الدور الفعّال والمؤثر الذي تلعبه الموسيقى في علاج مشكلات الجهاز العصبي، وقد أكدت الأبحاث التي أجريت على مرضى القلب ممن يخضعون للعلاج بالموسيقى، انتظام ضربات القلب، وقصر فترة النقاهة لعمليات جراحة القلب، حيث تعمل الموسيقى على تحسين أداء العمليّات الفسيولوجية، كالتنفس والتفكير، وقد لوحظ انخفاض نسبة إفراز الهرمونات المسببة للتوتر عند الاستماع للموسيقى..
هذا ما يسمى في العلم الحديث بـ «الموزيكوتيرابي» أو علم «العلاج بالموسيقى» الذي بدأ يشق طريقه في شتى أرجاء العالم منذ سنوات عديدة، ويبدو أننا أصبحنا بحاجة ماسّة إليه في عالم الاضطرابات و«الفوضى الخلاقّة» التي صدّرتها إلينا الولايات المتحدة الأمريكية، وجعلت حياتنا في أزمات لا حدود لها..
العلاج بالموسيقى
لقد ثبت من خلال التجارب الكثيرة أن الاستعانة بالموسيقى كعلاج نفسي هام، يقوّي الشخصية، وينمّي الموهبة، ويصقل الفكر، ويهذّب العقل، ويقوي الروابط بين الله والبشر، وأن إقامة حفلات الموسيقى تؤثر بشكل إيجابي على حالة الناس وتهدئ روعهم، وأن المريض الذي لم يكن قادراً على الكلام، كان ينفعل مع الموسيقى، فيعّبر عن أحاسيسه، كما ثبت أن للموسيقى تأثيرها على فترة الحمل عند المرأة، وتقوم بتخفيف آلامها أثناء الولادة، وكذلك يلجأ أطباء الأسنان إلى الموسيقى لتهدئة مرضاهم أثناء علاج أسنانهم، فالمريض في هذه الحال يسترخي بفعل الأنغام بدل أن يتشنّج ويتألم، وفي بعض حالات الصم والبكم، تمت المعالجة بالموسيقى..
الموسيقى، وسيلة مهمة للوقاية، ويجب أن نبدأ بتعليمها منذ الصغر، في صفوف الحضانة، لأنها تعلّم الأطفال الانضباط وحسن الإصغاء وفن الكلام، وهي تهذّب ليس الأذن فقط، بل الجسد والروح واللسان. وفلاسفة اليونان، وفي طليعتهم أرسطو وأفلاطون كانوا يربّون أولادهم بالموسيقى، لأن إيقاع الجسد متعلق بإيقاع الموسيقى، وبقدر ما يترابطان، بقدر ما يتمكّن الجسد من مقاومة الأمراض والحالات النفسية والاجتماعية التي نعيشها في ظل الأزمة التي تركت آثارها البغيضة على شتى أرجاء وطننا العربي..
الموسيقى.. ثقافة وصحة وعلم
إن أكبر خطأ يقع فيه الناس، أنهم يعتبرون الموسيقى أحد أنواع اللهو والتسلية، فهي ليست كذلك، وهنا يبرز دور وسائل الإعلام التي يجب أن تتخذ من الموسيقى قضية ثقافية وفنية وصحيّة وعلمية، كما يجب على وزارة التربية مراقبة المدارس لمعرفة ما إذا كانت تطبق نظام تدريس الموسيقى في برامجها، وأن لا تتحول ساعة الموسيقى إلى «حصة فراغ».. والموسيقى كما هو معروف، لغة إذا لم يفهمها الإنسان، فمن الصعب أن يتذوقها أو يستمع إليها، أو أن تكون علاجاً له، وإذا لم ترافقها ثقافة واسعة، تجعله يفهم معانيها، فلن يتأثر بها.. قد يسمعها ويدندن نغماتها أو كلماتها، لكنه لن يفهمها، ومن هنا لن يلجأ إليها بشكل دائم..
الموسيقى عندنا، بشكل عام، غريزية، نتجاذب معها بشكل بدائي، لأنها تحرك الإيقاع الموجود في داخلنا لإشعاره بالمتعة.. الطفل منذ ولادته يبدأ بالتنغيم، فتسرّ له آذان العائلة، وهكذا كل أنواع النغم في حياتنا.. بينما الاستماع إلى الموسيقى نتيجة الثقافة، تولّد لذة حقيقية، وميلاً دائماً، وفائدة أكيدة.. ولكن هل لدينا شعب مثقّف موسيقياً؟! وهنا مربط الفرس..
أطباء «الموزيكوتيرابي» أو «العلاج بالموسيقى» يقولون: «ننصح المريض بالإخلاد إلى الراحة والاستماع إلى الموسيقى، إذا كان راغباً فيها، فليس كل المرضى يحبّون الموسيقى، خصوصاً بعدما دخلت فوضاها في مجتمعنا بشكل متسارع، ومن كل الأنواع، فذابت قيمتها الحقيقية» وأذكر هنا أن الشعوب القديمة كانت تلجأ إلى الموسيقى في مناسباتها المختلفة، وكانت لغة تعبيرهم الحقيقية، من موسيقى الحروب إلى موسيقى المآتم والأحزان إلى موسيقى الأفراح والطقوس الدينية، وهذا الواقع القديم نجده اليوم في حياتنا حسب الميول والأذواق والمشارب الخاصة..
الموسيقى من أجل الحياة
وينصح أطباء العلاج بالموسيقى، لمن يريد أن يريح أعصابه في المجتمعات أو البيئات الاجتماعية التي تكثر فيها حالات «النرفزة» والعبوس و«الجفاصة» والغضب السريع، أن يستمع إلى الموسيقى الهادئة «سوفت ميوزيك» أو الكلاسيكية لأنها قادرة على وضع الإنسان، مريضاً كان أم معافى، في أجواء «رومانسية» هادئة، تبعده عن أجواء العنف والإرهاب الذي يتخبط فيه مجتمعنا.. ولتعميم فائدة الموسيقى، لابد من ثقافة اجتماعية، وتأهيل موسيقي عند العامة عموماً، وعند الناشئة خصوصاً، لأنها سلاح فعال بإمكانه القضاء على الفوضى والاضطراب والكراهية، وتنشر الحب والتسامح والإخاء..
الدراسات الحديثة أكدت أيضاً أن الموسيقى ضرورية للنبات والأزهار والحيوانات المختلفة، حيث ثبت أن النباتات تنتعش وتزهر وتنمو أكثر مع الاستماع المستمر للموسيقى، وأن الأبقار الحلوب التي وُضعت في أجواء موسيقية، كانت نسبة حليبها أكثر من الأبقار التي بقيت بعيدة عن الاستماع إلى الموسيقى..
لكن بالطبع ليس كل الموسيقى لها فعل وتأثير «الصيدلية المناوبة» وفعل المهدئ والمسكّن والمساعد على راحة البال والأعصاب، فهناك بعض الأشكال الموسيقية الحديثة، لاسيما الصاخبة منها، التي تصيب الإنسان بأضرار «بيولوجية» ونفسية، إذ تفيد دراسات عديدة أن الأصوات المزعجة، وضجيج المواصلات، ومكبّرات الصوت، و"زمامير" السيارات وأصوات التفجيرات تشكّل مرضاً عصرياً يهدد البشرية بأخطر الأمراض، بل وتمتد آثاره إلى الجنين في بطن أمه، إذ تصيبه ببعض التشوهات الخلقية، وتصف الدراسات الأشكال الموسيقية التي تسبب الإصابة بأنها تلك المليئة بالإيقاعات السريعة العالية، ذات النمط الإيقاعي الواحد، وإن أول المتضررين هم العازفون أنفسهم، حيث تسبب لهم أضراراً نفسية، تؤدي بهم إلى العزلة، لعدم تحملّهم التجاوب مع الآخرين في حياتهم الاجتماعية، لزيادة نسبة الأصوات العالية التي يتعاطونها يومياً، مما يدفعهم إلى الهروب من الناس، كما تسبب لهم توتراً عصبياً، وبعض الأمراض العضوية، كضعف السمع، أو زيادة التشويش السمعي والصمم، وارتفاع ضغط الدم والأرق واضطراب في ضربات القلب، إلى جانب الأمراض النفسية والعقلية التي يمكن أن تكون أحد الدوافع لارتكاب الجرائم وزيادتها..
أشياء كثيرة يمكن أن تقال عن دور الموسيقى في حياة الناس عبر العصور ويكفي أن نقول إنها بنظر العملاق الرائع بيتهوفن كانت أعلى من كل حكمة وفلسفة، وهي التي قال عنها الفيلسوف العالمي الكبير «نيتشه»: «إنها تقويني.. إن الحياة بدون موسيقى هي بكل بساطة غلطة، تعب، منفى..» وجوهرها يكمن كله في التساؤل الفلسفي: لماذا نشعر ونحن نصغي إليها بذلك الفرح الكياني المنزّه عن الدوافع والغايات.
المصدر : الباحثون العدد 71 أيار 2013