بعد ممارستي للطب لمدة تقرب من ستة عقود، وفي السنوات الأخيرة بشكل خاص، تعاودني أسئلة ملحّة ومترددة: هل مهنتنا الطبية بخير؟ وهل مستواها في تحسن وتقدّم؟ يأتي الجواب عجولاً وقوياً: لا. بالتأكيد لا. وكأنه في عجلة من أمره خيفة أن تتقدّم أجوبة ملتوية ومموّهة تحاول أن تلفّ وتدور.. إذن لأتساءل: هل المهنة محتفظة بمستواها، لا تتقدم ولا تتأخر؟ ويأتي الجواب ثانية بالنفي. إذن لم يبق إلا الاحتمال الثالث وهو أن مستواها في تدهور وتراجع. ولكن لماذا؟ كل العالم في تطور وتقدم مستمرين، والإنجازات العلمية الطبية مذهلة في كل مجالات الاختصاصات. فلماذا نحن في تقهقر؟ لماذا نحن في تقدّم! ولكن نحو الوراء؟ لاشك أن الكثير من الزملاء الأطباء لاسيما الشباب منهم سينبري للاعتراض والمواجهة وللتأكيد أن الطب بألف خير وأن مستوى المهنة في تقدم مذهل وغيرها من توصيفات عاطفية إن كشفنا عنها الغطاء نجد أنها كلام لا يستند لأية دلائل وقرائن. ولكن كيف لي أن أثبت صحة ما أقول من حقيقة مؤلمة ومحزنة؟ أليس من المحتمل أن الإنسان متى اجتاز عقده الثامن من الحياة تغدو نظرته متشائمة وسوداوية نحو كل ما يحيط به؟ هذا أمر محتمل. إذن لأرسم لكم شريطاً من أحداث الحياة الطبية في حقبتين من الزمن يفصل بينهما نصف قرن.
في نهاية الأربعينات من القرن الفائت كان الناجحون في الشهادة الثانوية يقدمون أوراقهم للقبول في الجامعة. غني عن الذكر أن العلامات التي كان يحصل عليها كل طالب ثانوي كانت هي العلامات الحقّة التي استحقها، أياً كان اسمه وأيا كان مكان فحصه ومثيلاتها الخ.. هل سمعتم باسم مطاع الجعفري؟ لا. كان هو المسؤول عن فحوص البكالوريا وعن الأوراق.. إلخ وكان مشهوراً باستقامته الصلبة التي لا تلين ولا تحيد وأكثر مما يستطيع أي إنسان أن يتصور في أيامنا هذه. كان الطلاب يؤخذون بحسب العلامات التي لم تمسسها يد ولم تحوّر فيها سلطة ولم يؤثر فيها هاتف علوي سماوي.. من يدخل الطب تكون علاماته تسمح له بذلك دون أي مزلّقات أو أية علامات مظلية أو جانب المظلية.. كنّا حوالي عشرين طالباً، البعض من لبنان الشقيق والبعض من العراق ومن الأردن ومن فلسطين.. كنا نحضر دروسنا في ساعة مبكرة ونتابع نهارنا بين القاعات وغرف التشريح أو فيما بعد في المستشفى الوطني (الغرباء) وكان أساتذتنا متفانين في تدريسهم وفي تعليمهم، وفي فترة الظهر نذهب إلى المكتبة وكانت في تكية السلطان سليم. كنا نجلس هناك ونراجع دروسنا ويسأل أحدنا الآخرين هل فهتم هذه الكلمة أو تلك الجملة وما هي مقابلتها باللغة الفرنسية، إذ كان معظمنا يدرس مواد الطب بالعربية والفرنسية، ماعدا زملاءنا العراقيين والأردنيين والفلسطينيين فكانوا يلتزمون بكتبهم الإنكليزية إلى جانب العربية.. ما كنا نعود إلى منازلنا إلا مساء. لم يكن هناك شيء اسمه تلفزيون ولا حتى سينما ولا مقاهٍ ولا تسكّع في الشوارع.. كنّا نسارع إلى بيوتنا لنتابع دراستنا حتى وقت متأخر من الليل، ثم ننام ونحن نحلم بدروس اليوم التالي. أذكر زميلاً لي في الصف من حلب، الدكتور ناظم نسيمي، وكان يسكن في غرفة صغيرة في جامع القنوات – التعديل وكان مُجدّا في دراسته ومن الأوائل فاخترت أن ندرس سوية ويُسمِّع كل واحد منا للآخر دون إضاعة للوقت. كانت سنوات الدراسة الطبية مستمرة لا انقطاع فيها ولا أعياد ولا عطلة صيفية. أذكر أنني صرت أتصل بزملائي العراقيين وتصفحت كتاب غرييزGray's للتشريح. كنت أدرس التشريح في كتاب "تيستو" Testut الفرنسي لأنه كان أكثر تفصيلاً من "روفيير" Rouviere. ثم كان أن بدأت أدرس بالإنكليزية إلى جانب العربية والفرنسية وتدريجياً اتخذت الإنكليزية لغة ثانية لي عوضاً عن الفرنسية اللغة المحببة لي، لغة الشعر والأدب. ما كنا درسنا الإنكليزية في الثانوي إلا سنتين ولكن من يضع القاموس إلى جانبه ويفتش عن كل كلمة لا يعرفها في القاموس فيحفظها يجد نفسه قد تعلّم اللغة. إنها طريقة سهلة وقويمة ولا تحتاج إلى مدرسة أو مُدرّسين بل لقليل من الصبر والمثابرة. أحب دوماً أن أتذكر أستاذنا المرحوم الدكتور حسني سبح أستاذ الداخلية فقد كان درسَ الطبَ في اسطنبول، أي باللغة التركية ثم بالفرنسية وبعدها بالعربية، ولكنه قرر أيامنا، أي في خمسينات القرن الماضي، أن يتعلم الإنكليزية وهو في تلك السن المتقدمة فاتبع تلك الطريقة السهلة – الصعبة السالفة الذكر، أي أن يعلم نفسه بنفسه، وصار يحضّر محاضراته من كتاب "برايس"Price's Textbook للأمراض الداخلية من جامعة أكسفورد وقد شجعنا على اقتناء الكتاب وهذا ما فعلناه. كان القبول لرتبة معاود تخضع لفحوص كتابية وشفهية وسريريه ولم تكن هناك أية وسائط غير طبية للنجاح.
أذكر أن ناظم المذكور نجح الأول.. هذا قدْرٌ كاف لإعطاء فكرة عن الجامعة والدراسة فيها والنجاح والتعيين. لم يتغير شيء في هذا الروتين فكانت الدراسة النظرية مستمرة دون أية هوادة والدراسة العملية كانت تتم على أيدي أساتذة كرام كانوا يعاملون مساعديهم كأبنائهم ويقدمون كل جهد لتعليمهم وتدريبهم خطوة خطوة. أذكر بالحب والعرفان أستاذيّ المرحومين شوكت القنواتي ومحمود مظفر برمدا والأستاذ إبراهيم حقي أطال الله عمره ومتّعه بالصحة...
لنأت إلى الصورة الثانية الجديدة. ماذا نرى ؟ بدأ الفساد تدريجياً ولكن بتسارع. تدهورت الدراسة قبل الجامعية ثم عمّت الفوضى في القبول إلى الجامعة فوضعت قوانين "خياريه – فقوسيه" ثم صار هناك قفز رياضي فوق الحواجز فدخل إلى الجامعة من لم يدرس وحِيل دون دخول المجدّين والمجتهدين وكذلك حدثت نفس الطفرات في الهيئة التدريسية لاسيما بعدما بدأت تلك الإيفادات القطيعية لدول المنظومة الاشتراكية حيث كان معظم الموفدين يمضّون وقتهم في المقاهي وتهريب العملة وو.. وصارت تعرفة النجاح سهلة وميسورة : عشر دولارات أمريكية يدفعونها لفاحصيهم في البلاد الاشتراكية.. ثم عادت تلك الموجات التزلجية إلى الوطن لتعلّم الأجيال القادمة. وهل يعطي المعرفةَ من لا يمتلكها؟ بل تعدّى الأمر ذلك إلى تواجد دفعات من المعلمين الذين آخر ما كانوا يفكرون فيه هو تعليم من أتى بعدهم. كانوا ينظرون لهؤلاء الجدد أنهم تهديدٌ لهم ولمراكزهم، لذلك تركوهم يتخبطون في حياتهم العملية وإن حاولوا تعليمهم فكانوا مثل عميان يعلّمون عميانا! ومما زاد الطين بلةً أن هدف الطبيب الجديد الأوحد غدا تجميع أكبر قدر من المال في أسرع وقت ممكن. لماذا لا يحقّ له ذلك وهو ينظر حوله فيرى أناساً لم يتعبوا في دراستهم ولم يدخلوا مسابقات ومع ذلك فقد صاروا في ليلة ما فيها ضوء قمر يملكون الملايين من الدولارات الأمريكية مع القصور والعديد من السيارات المرسيدسية وأشباهها إلى آخر ذلك من آثار النعم الماركسية واللينينية والشاوشيسكوية... لماذا لا يحق للطبيب أن يمتلك بعضاً منها؟ الغاية تبرر الوسيلة. بالإمكان بقليل من الشطارة والخيال الواسع أن يزيد الطبيب صبيبه اليومي من الدولارات. هل بقي مكان لأية مطالعة طبية أو دراسة؟ طبعاً لا؛ فهناك الكثير من الارتباطات والمناسبات الهامة التي يتوجّب عليه حضورها وإلا يحدث ما لا تحمد عقباه. كم هي العمليات التي تُجرى اليوم دون أي استطباب (أي دون ضرورة طبية حقيقية)؟ كم هي الأدوية التي تُصرف دون أية فائدة علمية وكم من قوائم طويلة لفحوص مخبريه تُرسل إلى مخبر مُحدد؟ كم هي الأخطاء التي تحدث في الممارسة؟ لا يمكن لأي طبيب أن يدّعي إنه طيلة حياته الطبية لم يرتكب خطأ طبياً ما، ولكن مثل ذلك يحدث لماماً وفي حالات في غاية الصعوبة أو في الظروف الحرجة، وإذا حدث مثل ذلك فغالباً ما يتمكن الطبيب من إصلاح خطئه مباشرة ودون عواقب تذكر. من هو المسؤول أو من هم المسؤولون عن الأخطاء الكثيرة التي تحدث في يومنا هذا؟ الطبيب الذي لم يحصل على التدريب والخبرة الكافية، وهو الذي دخل الطب دون أن يكون من خيرة الطلاب، والأستاذ الذي لم يقدّم للطالب كل ما في جعبته من معرفة وخبرة وعلم بل تركه يتخبط وحده دون أن يميّز بين الجيد والسيئ في الممارسة. المسؤولون كثيرون. الكل مسؤول عما حدث من تدهور في مستوى الممارسة، وليست الغاية من ذلك تمييع المسؤولية بل إنه الواقع المرير.
كيف يمكننا أن نصلح ما أفسده الإنسان؟ مثل كل إصلاح باتباع الطريق القويم وبالعزيمة الصادقة والحزم والمثابرة.
المشكلة أن التطرق لمثل هذه المواضيع بصراحة يثير الكثير من ردود الفعل الشديدة، لا لأن تلك الحقائق العارية غير صحيحة، بل، وعلى العكس، لأنها تمس قلب الحقيقة ولذلك فهي مؤلمة. ولكن إن لم نكن صريحين مع أنفسنا ومع الآخرين فلا جدوى من تجاهل الأمر الواقع المؤلم ولا فائدة من وضع طلاءات تجميلية لإخفائه. الخطوة الأولى تكون بالاعتراف بما حدث وبإيجاد طريقة علاجية فعالة ومُجدية وإلا فسنبقى في هذا المستنقع نغوص ونغوص حتى نبلغ القعر، إن لم نكن حقاً قد بلغناه.
لقد آن الأوان أن يدرك الجميع أن المؤسسات التعليمية، منذ الابتدائي وحتى الثانوي والجامعة وما بعد التخرج، يجب أن يكون ميزانها الوحيد هو العلم والمعرفة وألا يكون هناك مكان للخيار والفقوس، أي الوساطات بكل أشكالها. كذلك يجب اختيار الأساتذة بحسب مستواهم العلمي وليس بحسب وساطاتهم أو انتماءاتهم.. إلخ، كذلك يجب على المعلمين كلهم، جامعيين كانوا أم قبل الجامعيين، أن يكونوا قدوة لطلابهم بمتابعة مطالعتهم العلمية طيلة سنوات عملهم وألا يتوقفوا عنها بعد تخرجهم كما هو الحال عند معظمهم، معلمين كانوا أم أطباء، وأن يشجعوا طلابهم على البحث العلمي ويرشدوهم إليه لكي تنمو شخصياتهم وتفكيرهم ولا يكونوا مثل ببغاوات حفظت "أبجد هوز" ثم توقفت عن أي مطالعة أو قراءة علمية. كذلك يجب على المسؤولين عن كل المؤسسات العلمية أن يشجعوا ويكافئوا المدرسين بحسب درجات نشاطهم العلمي وبحسب درجة أبحاثهم العلمية التي نشروها في مجلات علمية محترمة.. إنه طريق طويل وصعب وعسير ولكنه هو فقط الذي سيوصل بلادنا إلى التقدم العلمي الحقيقي وبالتالي سيضع بلدنا في مصاف البلدان المتطورة وليس في مجموعة البلدان النامية وسموها كذلك كي لا يقولوا حقيقة إنها "متخلفة".
رغم كل ما يبدو من تشاؤم في كلماتي فإن لبّها يمتلك قدراً كبيراً من التفاؤل والأمل، وهو ما يأمل جيلنا أن تحققه الأجيال الشابة اليوم وغداً. والله الموفق وإلى الأمام.
المصدر : الباحثون العدد 71 أيار 2013