* محمد مروان مراد
بعد مئة عام من العزلة عاشتها تينبكتو عروس الصحراء ومهد حضارة الغرب الإفريقي، وبعد أن طُويت في صفحات الماضي، ها هي تنفض عن نفسها غبار السنين لتعلن عن عودها، ولتواصل عطاءها الحضاري الذي بدأته قبل ألف سنة مضت، العودة المزمعة للحاضر بدأت بالآمال التي عاشتها مدينة تينبكتو منذ اندثرت معالمها وطوتها صفحة النسيان.
جوهـــرة الصحـــراء
تين بكتو أو تينبكتو مدينة في وسط شمالي مالي، وتعدّ من أهم الحواضر الإسلامية في غرب إفريقيا، وتلقّب بـ «جوهرة الصحراء المتربّعة على الرمال»، وهي البوابة بين شمال وغرب إفريقيا، وملتقى القوافل البرية للقادمين من النيجر وليبيا، وكذلك تجار الملح القادمين من (تودني)، وتسمى منطقة تينبكتو في الأرشيف الرسمي لجمهورية مالي (تريبي كل انتصر) لأن أغلب سكانها من الأنصار والطوارق وحلفائهم والقبائل المتفرعة من الأدارسة القادمة من الشمال المغربي، وبعض القبائل الأخرى ذات الأصول الإفريقية، وتسميتها «تين بكتو» (منسوبة إلى: بكتو وهي عجوز مشهورة لدى القبائل المحلية، ثم يأتي السنغاي بعدهم، وبعض قبائل السود الأخرى).
وسكان تينبكتو كلهم مسلمون وأشهر القبائل التي تقطن المنطقة هي قبيلة الأنصار التي ظهر فيها المجاهد المعروف محمد علي الملقب «انقونا»، الذي قاوم المستعمر الفرنسي عند اجتياحه للمنطقة، حتى قام الفرنسيون باغتياله عام 1897، كذلك القبائل المتفرعة من الأشراف الأدارسة الذين اشتروا منطقة شمال النهر من أحد ملوك مالي السابقين وبعض القبائل ذات الأصول العربية والطوارق، وقبيلة السنغاي، والبرابيش.
من مخيم للطوارق إلى مدينةٍ زاهرة:
تأسست «تين بكتو» وليست «تينبكتو» وهو الخطأ الشائع، في أوائل القرن الخامس الهجري الموافق لسنة 1080 ميلادية، ولذلك (أي تأسيسها) قصة، وهي أن الطوارق (الملثمين).. كانوا يعيشون أثناء موسم الأمطار في ربوع صحرائهم ويعودون في فترات الجفاف إلى المناطق الخصبة حول نهر النيجر الشهير، وهو ما دفعهم إلى اختيار موقع تينبكتو بجوار ثنية نهر النيجر، كمكان مناسب لتخزين احتياطي الغذاء، والموقع كانت تسكنه كما أسلفنا امرأة عجوز من الطوارق من قبيلة «ايمقّشرن» اسمها بكتو، وعليها سمي المكان بـ «تين» بمعنى (صيغة ملكية يخص كذا) بكتو. وقد ظلت تينبكتو في البداية عبارة عن مخيم للطوارق، ثم تحولت مع مرور الأيام إلى قرية، وظلت تنمو باضطراد إلى أن تحولت بفضل موقعها من ملتقى للطرق التجارية إلى مدينة يؤمها آلاف التجار والزوار، وبلغ ذلك أوجه في بداية القرن الرابع عشر الميلادي، حيث انتزعت وبكل جدارة مكانة مدن كبيرة في ذلك العصر مثل «ولاتة» في موريتانيا و«برنو» في غانا اللتين كانتا من أهم أسواق التجارة في الغرب الإفريقي آنذاك.
أسطورة على شاطئ النيجر:
حينما قصد الحسن الوزان الشهير بـ (ليون الإفريقي) مدينة تينبكتو في بدايات القرن السادس عشر الميلادي، كانت تلك ولا شك هي الفترة الذهبية التي جعلت من تينبكتو أسطورة الصحراء وجوهرته، حتى غدت مضرب الأمثال، ومثار الخيال عند الرحالة الأوروبيين، الذين اقترنت في أدبياتهم بأقصى مكان في الأرض وأبعده، واليوم لا تكاد تجد أوروبياً واحداً، لا يعرف تلك الجوهرة التي تغوص وسط رمال الصحراء الأزوادية شمالي جمهورية مالي، فحسن الوزان نفسه الذي افتتن بـ«تينبكتو» يقول عنها: إنها هي المنطقة التي تفجرت فيها صبابته، حيث أعرس بها وكانت له بها منادمات، لم يُنسه إياها بلاط البابا في روما، ولا رحلاته إلى الآستانة أو القاهرة، فكما يقول: إن الوصول إلى تينبكتو هو سر أسرارها، فقد كانت ملتقى القوافل الذي يربط أهل إفريقيا غرباً وشرقاً، وكان الوصول بحد ذاته يعني نوعاً من المغامرة، حيث لا يربطها بأيٍّ من عواصم التجارة المشهورة أية محطات لمن يؤمها.
سوق تجارية ومركز إشعاع علمي:
لا شك أن أكثر ما تزدهر به تينبكتو في ذلك الوقت هو التجارة فقط أكثر من أي شيء آخر، ولكن الأهمية ازدادت يوماً بعد يوم، حينما صارت إلى جانب تلك الخاصية عاصمة للعلم، فصار فيها ذلك التزاوج الذي جعلها في مصافِّ كبريات مدن العصر في ذلك الوقت كقاهرة المعز، والآستانة، وفاس وغيرها من المدن. ويعتقد البعض أن ذلك النشاط تضاعف كثيراً بعد سقوط آخر معاقل الأندلس وهو مملكة غرناطة، وقد ظلت تينبكتو مع ذلك التميز صامدة أمام كل الأهوال التي تعصف بها على الدوام على يد أهلها خاصة. وقد كُتب للوزان الذي رأى عِزّها أن يرى كذلك جزءاً من نكباتها، ترقد تينبكتو بمحاذاة نهر النيجر الذي يلتف بها من جهة الجنوب، وعدا تاريخها الممزوج بكثير من المآسي فإنها اليوم مدرجة في سلّم الماضي السحيق، إذ لم يتبقّ منها سوى تاريخها المجيد، ولعل آخر فتراتها الذهبية كانت في عهد السعديين، وتحديداً في عهد منصور الذهبي، وقد أُعيد اكتشاف تينبكتو مرات الواحدة تلو الأخرى بفضل المستكشفين الأوروبيين، أمثال البريطاني «الماجور غوردن لينغ» الذي استمات حتى دفع حياته ثمناً لاستكشاف معشوقته تلك. وكذلك المستكشف الفرنسي «رينيه كاييه» الذي سكنها حتى توفي بها، ولعل الجمال كله يتمثل في تلك الكثبان الرائعة التي تحيط بتينبكتو ويشقها النهر الذي يحيط بها يعد أحد أجمل المناظر الأسطورية في الصحراء.
حرير وتوابل في صحراء ساحرة:
كانت أكثر البضائع الرائجة في تينبكتو ذلك العصر من أفخر بضائع الدنيا، فكان التجار يقايضون فيها الحرير والتوابل والنحاس الأحمر، ببضائع مملكة مالي الفاخرة التي اشتهر سلاطينها بملوك الذهب، حيث كانت تينبكتو من أكثر مدن إفريقيا التي تصدّر الألماس والذهب والعاج وريش النعام، إضافة إلى ملح صحراء «أزواد» الذي اشتهرت قوافله حتى عصرنا هذا، وكانت مثار إعجاب الأوروبيين الذين صوروا عن رحلة «أزلاي» شمال تينبكتو أجمل الأفلام، وهي حقاً من أعجب الرحلات، حيث كان تجار الملح ينطلقون من تينبكتو في قوافل تضم عادة أكثر من 300 جمل أصيل يقطعون مسافة شهر في الذهاب والإياب في صحراء «أزواد» الملتهبة، التي لا ماء ولا عشب ولا ظل فيها، ثم يعودون منها بألواح الملح الصخري البلّوري من «تودَنيّ». واستطراداً في وصف تلك الفيافي التي هي جزء من حضارة منطقة تينبكتو كتبه الإعلامي «جان كلود تشكوف» حيث يصف الصحراء «الأزوادية» أنها كانت من الأزمنة السحيقة عبارة عن منطقة خالية من البشر، وظل موقعها على الخرائط خالياً من أي إشارة حتى أن الطوارق أنفسهم كانوا يتجنّبونها، ولكنها رغم تلك القسوة التي تجعل الضائع يفقد الأمل في الحياة، تظل سحراً يستهوي عشاق المغامرة، فيصفونها بأنها صحراء ساحرة، وينقل كلوتشكوف أن الصحراء في الأساطير كانت مقراً لملكة الساحرات، كما تذكر القصص الأسطورية فإن تلك (الملكة) سحرت عدداً من تجّار الطوارق ووجهائهم.
تزاوج رائع بين العلم والمال:
* بدأت تينبكتو بلفت الأنظار إليها كمركز إشعاع علمي بعد رجوع ملك المندينغ «مانسا موسى» من رحلة الحج الشهيرة التي قام بها عام /1325م/ ووزع في طريقه إليها آلافاً مؤلفة من سبائك الذهب، خاصة في القاهرة. مما تسبب في هبوط أسعار الذهب، وقد أمر السلطان الشاعر الغرناطي الملقب بالسهيلي بتصميم جامع كبير والإشراف عليه (هو جامع تينبكتو القائم إلى يومنا)، وكانت تلك النواة الأولى لبناء صرح علمي في تينبكتو حيث صار مع مرور الأيام مركزاً للعلم، وقد ازدهر العلم مع تقاطر الطلبة من شمال وغرب إفريقيا على تينبكتو، وقد ساعد على ذلك الإنفاق السخي الذي قام به التجار على دور العلم، فكان أروع تزاوج بين المال والمعرفة في عروس الصحراء، حيث نشأت في المدينة أكثر من 180 مدرسة ومركز دراسات إسلامية، تجاوز اهتمامها علوم الدين والشريعة والفقه إلى العلوم الأخرى كالفلسفة والطب والفلك والرياضيات والفيزياء والكيمياء والموسيقا، وقصد هذه الحاضرة الإفريقية في القرون الغابرة وحتى القرن الـ 16، طلاب العلم – ليس فقط من مالي وإفريقيا - بل كذلك من الأندلس ومصر والمشرق العربي، وضمت تلك المدارس أكثرمن 25 ألف طالب في وقت واحد، بينما لم يكن عدد سكان تينبكتو كلها يتجاوز الـ 55 ألف نسمة، لذلك لم يكن غريباً أن يكون بين تلك الحشود من الطلاب والأساتذة على مدى قرون عشرات الأولياء الصالحين أعطوها لقب مدينة الـ 333 ولياً صالحاً.. وبفضل ذلك الإشعاع العلمي والديني والثقافي الذي استمر قروناً، وعبأ آلاف الوراقين والخطاطين، فضلاً عن الكتّاب والمترجمين والحكماء والمدرسين والقضاة والتجار، وصل مستوى التعليم في «تينبكتو» إلى نفس المستوى الذي بلغه في «قرطبة» وتلمسان، والقاهرة – كما يؤكد «شاربون»، وتراكمت في مكتبات الحاضرة الصحراوية العريقة، مئات ألوف الكتب والمخطوطات والسجلات النادرة، أكثرها بالعربية، تعود إلى فترة طويلة امتدّت بين القرنين الميلاديين الـ 7 والـ 16.
استعباد وتشويه الفكر والإبداع:
على الرغم من ذلك الثراء الثقافي، بقيت مخطوطات تومبكتو وكتبها النادرة مطمورة قروناً، مهملة في صناديق، مُبعثرة من دون جَرْد أو أرشفة.
ولم يبدأ الاهتمام باكتشافها وتسجيلها سوى في سنة 1970، والسبب: سعي القوى الاستعمارية (فرنسا تحديداً، فيما يخص مالي) إلى تكريس صورة مشوهة عن إفريقيا، تزعُم أنها قارة «وحوش» جهلة غير متحضّرين، بغية«تحليل» استعمارها هذا، في أي حال هو رأي الكاتب الفرنسي جان ميشيل جيان، مؤلف كتاب «مخطوطات تومبكتو» الذي يؤكد «أن التعتيم على مخطوطات تومبكتو، وماضيها الثقافي المشع، نبع من تلك الرغبة في طمس أي معالم حضارية إفريقية، لكي لا تصدم «الضمائر الحية» تجاه استغلال ثروات القارة واستعباد سكانها».
أول غربي في تينبكتو:
صُوّرت تلك الحاضرة، في أيام الاستعمار، على أنها ناحية صغيرة نائية، بحيث استنبط الإنكليز مصطلح «أبعد من تومبكتو» في الحديث عن «ضيعة ضائعة» بعيدة في تلك الأيام أيضاً في القرن الـ 19، راجت أساطير مفادها أن «ذهب السودان» مُخبأ في تينبكتو، ومعه كنوز كثيرة أخرى. وذلك ما حَدَا بالحاكم الاستعماري الفرنسي في السنغال، بعبارة أخرى «المندوب السامي» إلى إرسال المستكشف «رينيه كايلييه» لتقصّي الأمر، طمعاً في الكنز، فوصل كايلييه إلى الحاضرة في ربيع عام 1828، متخفياً في لباس عربي، فلم يجد شيئاً سوى قرية ضئيلة مغمورة بالتراب مثلما في النسيان، فخاب ظنه وعاد أدراجه، فشاع عنه أنه أول غربي زار تومبكتو وعاد منها سالماً.
في الواقع كان كايلييه ضليعاً بالعربية، التي درسها سنوات في المغرب، حيث أتقن القرآن الكريم والأحاديث الشريفة. فزعم أنه من علماء الإسلام، فصدّقه أهل تومبكتو وسَدنَة مساجدها، لِما أبداه من فصاحة وضلوع في اللغة والفقه (وتقول رواية أخرى، إنه لم يتقن العربية إلى ذلك الحد، إنما أجادها بما يكفي للتحدث وذِكر آيات قرآنية) لاحقاً. كتب في مذكراته: إن أروع مدينة رآها في إفريقيا هي فاس المغربية، بينما لم تترك تومبكتو في ذاكرته سوى انطباع متواضع، عن ناحية متربة ضئيلة، في الواقع لم تكن كنوز تومبكتو كنوز ذهب، إنما هي كنوز فكرية، حصيلة اجتهاد مئات آلاف الكتّاب والطلاب الذين درّسوا فيها، أو درَسوا طوال قرون عديدة.
* لم يفطن كايلييه، الذي يمكن وصفه بأنه «لورنس العرب الإفريقي» إلى تلك المخطوطات والكتب النادرة، الكنز الحقيقي، فهذه لم تُكتشف سوى بعد ربع قرن عام 1853، من جانب مستشكف أوروبي آخر، هو الألماني «هاينريش بارخ» الذي ذُهل بإيجاد مخطوطة كتاب «تاريخ السودان» المكتوب بالعربية في حدود العام 1650، فالكتاب الذي يروي تاريخ سلالات إفريقيا الغربية ومنطقة الساحل منذ القرن الـ 11 كان يُعدّ مفقوداً.
كنز مخطوطات ومراجع نادرة:
لكن مخطوطات تينبكتو لا تقتصر على أساطير الملوك، إنما تتطرق إلى أمور أخرى لا تُعد ولا تُحصى، بالتفاصيل والحذافير، كسجلات التجارة، وقوائم أسعار الملح والحرير والأقمشة وعشرات السلع الأخرى، وطبعاً باقي العلوم كالفلسفة والطب والفلك والرياضيات والفيزياء والكيمياء والموسيقى، وبعضها مكتوب بأحرف عربية، إنما بلغات إفريقية محلية، ويعد مؤرّخو اللغات تلك المخطوطات مراجع ثمينة لمعرفة كيف كانت لغات المنطقة تُنطق في تلك القرون وكيف تطورت.
كما يتناول عدد كبير من مخطوطات تينبكتو مواضيعَ تخصّ القضاء والحقوق والعدالة. إذ كان الحكم فيها يُولى إلى قاضي قضاة أعلى، يُعيّنه إمبراطور مالي (الذي كانت إمبراطوريته تمتد لمساحات كبيرة في منطقة الساحل) هكذا شكل البَتّ في شؤون العدل، وإصدار القوانين والمراسيم والأحكام، ممارسة يومية دارجة، تعهّد بها قضاة الحاضرة، فدوّنها الورّاقون والكتّاب في مخطوطات كثيرة.
تينبكتو هبة النيجر:
قيل عن تينبكتو إنها «صحراوية» لكونها تعاني حالة تصحّر وزحف رمال قاسية منذ قرون، لم تنفع المساعي الدولية في درئها سوى جزئياً، لكن المدينة لم تكن قاحلة أيام زمان، فهي على الرغم من تصحّرها الحالي تُشرف على نهر النيجر، في أعلى نقطة فيه شمالاً، إذ يُعدّ أحد الأنهار «العاصية» لكونه ينبع من أعالي جبال «لوما» في غينيا وغينيا الاستوائية، فيتجه شمالاً، عكس معظم الأنهار، ويمر في باماكو، عاصمة مالي، إلى أن يغيِّر رأيه عند موقع تينبكتو.
هناك، يبدأ يعرّج نحو جنوب الشرق، فيمر في مدينة «غاو» الحاضرة المالية الأخرى في وسط شمال البلاد، ثم يمضي جنوباً، فيدخل أراضي النيجر، ويقطع عاصمتها نيامي، ويستمر في الهبوط نحو الجنوب، مشكّلاً حدود النيجر الطبيعية مع جمهورية بنين، ثم يجتاز نيجيريا كلها، من شمالها إلى جنوبها، حيث يصبّ قرب «بورت هاركورت» في خليج غينيا، ومنه في المحيط الأطلسي.
مخاطرة جديرة بالعناء:
إن إطلالة تينبكتو على نهر النيجر «الأسطوري» في إفريقيا، هي تحديداً ما أتاح إنقاذ الجزء الأعظم من كنز المدينة الثقافي، فعندما عمدت «جماعات مسلحة» تتلفّع بغطاء الدين، إلى اجتياح المدينة، سرعان ما فطن العقلاء في المدينة إلى ضرورة حماية الكنز الثقافي، لمعرفتهم بعقلية تلك الجماعات وجهلها بأهمية حفظ التراث، لذا بادر بعض أولئك الحكماء من أبناء تينبكتو إلى إخفاء معظم المخطوطات النادرة، و«تهريب» الجزء الأكبر إلى العاصمة باماكو.
يقول مسؤول أرشيفات «معهد أحمد بابا للدراسات الإسلامية» في تينبكتو: بعدما وصلوا، احتلوا المعهد واعتصموا فيه، لكنهم نسوا مركز أحمد بابا، حيث توجد معظم المخطوطات الأصلية، هكذا، سنح لنا وقت كاف لوضع المخطوطات والكتب النادرة في أكياس، ثم تخبئتها ونقل قسم منها على الزوارق خفية، فأوصلناها إلى باماكو، كما نقلنا القسم الأخير في شاحنات صغيرة، لقد جازفنا بحياتنا من أجل إنقاذ تلك المخطوطات، لأنها كنز ثقافي نادر، حيث لا توجد نسخة منها في العالم كله».
تبيّن لاحقاً، أن تلك المبادرة وما انطوت عليه من مخاطر، استحقت العناء. فقُبيل مغادرة المجموعات المسلحة المدينة في (شباط) 2013، عمد أفرادها إلى «الانتقام» مما تبقى من مخطوطات وكتب قيّمة، فأحرقوا قِسماً، ونهبواً قِسماً آخر، تخشى سلطات مالي ومعها منظمة الـ «يونسكو» أن يُعرض للبيع في السوق السوداء، ليصل إلى أثرياء هواة جمع التحف الغربيين. إلى ذلك، عمدت تلك الجماعات إلى إتلاف آلاف الأفلام والصور الرقمية، التي كانت قد أُخذت للمخطوطات والكتب النادرة، كما حطمت عشرات أجهزة الكومبيوتر من «معهد أحمد بابا» والمركز الدراسي الملحق به، بغية محو آثار الملفات الإلكترونية المسجلة عليها عشرات آلاف الصور الرقمية، وبات الآن لزاماً على سُلطات مالي الثقافية، أرشفة أكثر من 100 ألف مخطوطة وكتاب أرشفة إلكترونية رقمية، كانت بالكاد بدأتها نحو 6 شهور قبل وصول المجموعات المسلحة.
في أي حال، بحسب وزارة الثقافة في باماكو، تمّ إنقاذ 90 في المئة من كنز تينبكتو الثقافي، ومن الآن بدأت عمليات الجرد والتسجيل والتوثيق و«الرقمنة» (أخذ صور رقمية).. تحسباً لغزوات مقبلة من «مجموعات مسلحة» أخرى.
التحدي لإثبات الذات:
لعل من أهم ما يلاحظه الزائر لهذه المدينة اليوم هو الأثر المدمر لظاهرة التصحّر، حيث أتت الرمال على الغطاء النباتي الذي كان يحيط بالمدينة، وردم فرع النهر الذي يبلغ طوله حوالي 7 كلم، والذي يصل المدينة بالمجرى الرئيس لنهر النيجر، الذي كان يسهّل نقل البضائع إلى قلب المدينة بواسطة الملاحة البحرية، وبالرغم من استغلال الحكومة المالية للسمعة التاريخية الواسعة للمدينة في جلب السياح الغربيين، «إلا أن نصيبها من مشاريع البنية التحتي لا يكاد يُذكر»، مما أثّر على السياحة في المدينة نفسها، هذا فضلاً عما نتج عن ذلك من مظاهر الفقر والبؤس، وبالرغم من هذه الصورة القاتمة إلا أن تينبكتو تبدو على الدوام شامخة ومصدر اعتزاز ومتعة إذا ما نظرنا إلى واقعها الثقافي، إذ إنها من المناطق القليلة في العالم التي حافظت على ذلك النوع الثقافي الكوزموسي، حيث استطاعت المدينة صهر عدة ثقافات في بوتقة واحدة، لتصنع منها ثقافتها التي قلما تجدها في مكان آخر، فسكان تينبكتو يجيد معظمهم سبع لغات ويعني ذلك أنهم يعيشون سبع ثقافات امتزجت عبر تاريخ شعوب المنطقة، وهم: الطوارق، والعرب، والفلان، والبمبارا، والسنغاي، أرض سانت لويس إضافة إلى الفرنسية كلغة رسمية.
ويجاهد هذا الخليط من الناس في الاستمرار بالحياة ما أمكن، عبر اشتغال كل قبيلة منهم في تحصيل لقمة العيش بنشاط معين يقوم به ويجيده، ففي الوقت الذي يشتغل فيه الطوارق والفلان بالرعي، تجد العرب منكبين على التجارة عبر قوافلهم وسياراتهم العتيقة، بينما ينصرف السنغال إلى الصيد النهري والملاحة عبر النهر يجوبون أطراف نهر النيجر بتجارتهم التي غالباً ما تكون في بيع الحبوب، والبهارات، والأقمشة.. الخ، إنها حياة جهاد، حاول الجفاف الذي يهدد النهر فضلاً عن الصحراء التي دمرها لمدة عقدين أو يزيد أن يقضي عليها، وكان تعاون السكان ذاته يشكّل نوعاً من التحدّي في مواجهة الحياة وإثبات الذات للاستمرار في العيش، فهل سينجح أهل عروس الصحراء في إنقاذ مدينتهم، وإبقائها مشعّة في قائمة التراث العالمي للإنسانية؟.
المصــادر:
- أحمد الصاوي: بوابة الحضارة الإسلامية في أقصى المغرب – الاتحاد الثقافي – دبي – أيلول 2010.
- محمد عبد الله عنان: الحسن الوزان (ليون الإفريقي) – مجلة العربي 43 – الكويت – 1962.
- محمد عبود السعدي: كنز حضاري في تومبكتو – مجلة زهرة الخليج – أبو ظبي – شباط 2012
- كراتشوفسكي: الأدب الجغرافي عند العرب – ترجمة د. صلاح الدين عثمان – القاهرة – 1963.
المصدر : الباحثون العدد 71 أيار 2013