في مطلع عام (2013) توفي الرئيس الفنزويلي"هوغو شافيز" بعد صراعٍ مع المرض، وتقديراً من شعبه للجهود التي بذلها لتحقيق الازدهار والتقدم في فنزويلا، ولكي يبقى جسده مرئياً إلى الأبد ويتسنَّى للشعب زيارته ومشاهدته في متحف الثورة بالعاصمة كاراكاس، قررت الحكومة تحنيطه، غير أنَّها عدلت عن ذلك فيما بعد لأسبابٍ تقنية، ودُفن بشكلٍ نهائي. وقد أثار هذا الحدث شغفي للبحث والتقصِّي في موضوع التحنيط، وأسباب لجوء بعض الأمم والشعوب لتطبيقه، وكيفية إجرائه، ولاسيما أن الكثيرين قد لا يعلمون شيئاً عنه، وربما لا يعلمون إلا اسمه، ذلك إنه أحد العلوم الدفينة والخبيئة، وقد وجدت أنه مرتبط أولاً وأخيراً بحب البقاء كظاهرة إنسانية متغلغلة في أعماق النفس الإنسانية، التي فُطِرت على الرغبة باستمرارية الحياة والخلود، وتكره فناء الجسد بعد الموت، فالعمر له أجل محتوم وكتابٌ مختوم، ولا يستطيع أحد أن يضيف إليه صفحةً جديدة، وما الموت إلا جزءٌ من الحياة ومكمِّلٌ لها، وأنَّ الروح الإنسانية بعد مغادرتها جسدها ستعود إليه في العالم الآخر، لذا فكَّر الإنسان بحفظه بطريقةٍ سليمة لتتمكَّن من العودة إليه. وعلى مدى مسيرة البشرية واجه الناس الموت بمعتقداتٍ أعطته معنىً يتجاوز حدود العالم الطبيعي، فالبوذيون والهندوس واليابانيون والسيخ يعتقدون بتناسخ الأرواح، أي أن الروح تتجسَّد بعد الموت في جسدٍ آخر، إنسان أو حيوان، وأنَّ الصفات الروحية لهذا الشخص في أثناء حياته تحدد ماذا سيكون عليه عندما تعاد ولادته من جديد، هذا في حين تختلف نظرة الأديان السماوية إلى الموت اختلافاً جذرياً عن هذه المعتقدات، وهذه النظرة تلائم التفكير المنطقي والعقلي وتناسب الفطرة الإنسانية التي فطر الله عزَّ وجل الناس عليها. أما مصدر المعلومات فهو شبكة الإنترنت والموسوعات العربية والبريطانية والأمريكية.
عودة إلى البدايات:
والتحنيط “embalmment”لغةً هو استعمال "الحَنُوط" الذي هو ما يخلط مع الطيب ليوضع في كفن الميت، وحنَّط الميت أي طيَّبه بالحنوط، وفي التطبيق العملي هو - بشكلٍ عام - حفظ جسد الميت لأزمانٍ قصيرة أو طويلة من التلف والتفسخ، وإكسابه مقاومة ضد العوامل الطبيعية كي لا يتحلَّل، حفظه كاملاً أو أجزاء منه كأن يكون الرأس فقط، سواءٌ كان إنساناً أو حيواناً أو نباتاً، وذلك بوساطة التجفيف والتعقيم واستخدام مواد كيميائية ونباتية، فيحافظ الجسم بذلك على مظهره العام ولا تتحلَّل أنسجته أو تتعفَّن بعد أن أُزيلت الرطوبة منه، فيبدو وكأنَّه حي عند تسجيته في مكانٍ عام قبل إجراء مراسم الدفن، كما حدث عند وفاة البابا شنودة بابا الإسكندرية، الذي توفي في عام (2012)، والذي حُنِّط بغمره في محلول الحفظ المكوَّن من الفورماليدهيد والغليسرين والماء المقطَّر، وبقي مسجّى لثلاثة أيامٍ حتى يتمكَّن أحبابه من إلقاء نظرة الوداع، بالإضافة إلى أنه يفي بمتطلَّبات بعض الديانات التي تؤخِّر الدفن لعدة أيام، أو عند ضرورة نقل الجثة إلى مكانٍ آخر، أو لحفظه لسنواتٍ طويلة غير محدَّدة، فيمنع التحنيط تعفن الجثة. وينطبق مفهوم التحنيط أيضاً على تلك المستحاثَّات العضوية المتحجِّرة أو المتفحِّمة في طبقات الصخور، أو المكتشفات الحيوانية المتجلِّدة في القطبين أو المحفوظة في البحار المالحة منذ عصور ما قبل التاريخ، مع فارق أن التحنيط جرى بشكلٍ طبيعي ودون تدخل الإنسان. وحسب معتقدات قدماء المصريين الذين آمنوا بعقيدة الحياة بعد الموت، فقد مارسوا التحنيط لكي تتمكَّن الروح من العودة في الحياة الآخرة إلى جسدها، وبالتالي التنعم بالحياة كما هو الحال قبل الموت، ولمَ لا يعتقدون بذلك وهم يشاهدون نهر النيل يمتلئ بالماء بعد تناقصه، والنبات ينمو بعد حصاده، والشمس تشرق في كل يوم بعد مغيبها في اليوم السابق، ولذلك استخدموه بمهارةٍ وحرفيةٍ عاليتين، وكانوا من أوائل الشعوب التي طبَّقته في العصور الغابرة وأعجزوا ببراعتهم فيه جميع الأمم القديمة، وذلك احتراماً لموتاهم من كل فئات الشعب، غنيّهم وفقيرهم، وإيماناً منهم بخلود النفس الإنسانية ووجود حياةٍ ثانية بعد الموت الأول لا تنتهي بموتٍ ثانٍ، فقد كان المصري القديم يتخيَّل أمواته وهم يعيشون كالأحياء تماماً، وأنَّ القبر هو دار النعيم الأبدية، وإليه تأوي الأرواح بعد استقرار الأجسام فيها بأمنٍ وطمأنينة، ولهذا أعطوها من التقدير المكانة المطابقة لهذا الاعتقاد، فأبدعوا بمبانيها إلى درجة أن قبور فراعنتهم جعلوها أهراماتٍ ضخمة وهياكل فخمة، تعظيماً لقدر الفرعون وتفخيماً لذكره، وانتشرت في أنحاء عديدة من مصر كالجيزة وممفيس، في حين كانت قبور العامة ذات أشكالٍ هندسية متعددة باهرة المنظر، ولها حجراتٍ عديدة محاطةٌ بدهاليز اتقاءً لطوارئ الطقس كالفيضان، وكانت الحجرات تشتمل على سررٍ وأوانٍ ثمينة ومصنوعاتٍ معدنية قد تكون من الذهب، وأنواعٍ من الأطعمة، وكانوا يسمونها مراقد السعادة الأبدية وليس مساكن الموتى، وكانت بدايات ذلك في عهد الأسرة الأولى بين عامي (3110-2884) قبل الميلاد، وبلغ ذروة تطبيقه خلال حكم الأسرة الحادية والعشرين (1087-954 ق. م.)، ولكنهم لم يدوّنوا شيئاً عن فن التحنيط في سجلاتهم الكثيرة التي عثر عليها ضمن تراثهم الخالد لأنهم كانوا يعدُّونه من الأسرار التي لا يجوز إعلانها والكشف عنها، وكل المعلومات الواردة حول هذا الموضوع هي كتابات المؤرخ اليوناني الشهير "هيرودوت" (484-425 ق. م.)، بالإضافة إلى المشاهدات المباشرة، وقد ساعدت على خلق هذا الاعتقاد البيئة المصرية الطبيعية، إذ لاحظ قدماء المصريين من خلال دفن موتاهم في رمال الصحراء الجافة دون وجود جسمٍ عازل قوي يحمي الجسد من تأثير الرمال، أن الجسد يتعرَّض للجفاف، ذلك أن الرمال الجافة والشمس الحارة تمتص سوائل الجسم التي تُعرِّض الجثة للتحلل والتفسخ، وتجفِّفها تجفيفاً طبيعياً، وهذا مما يساعد على احتفاظ الجثة بملامح صاحبها في أثناء حياته، وكانت هذه الطريقة من أبسط طرائق التحنيط التي مارسوها وطبَّقوها، وعاينوا هذا من خلال حيوانات الصحراء، هذا على العكس من دفن الجثة في المقابر الحجرية أو في التوابيت حيث تتعرَّض للتحلل. وفي أوقاتٍ لاحقة طوَّر اختصاصيو التحنيط عملهم بقدر ما أرشدت إليه التجارب والاكتشافات العلمية، وأضافوا لها مكوِّنات قاتلة للجراثيم للمساهمة في حفظ الجثة، وطوروا مواده وطرائقه من جيلٍ إلى جيل، وهم من الكهنة والأطباء ويساعدهم عمالٌ مهرة وعاديون، ولكن الخطوط الرئيسة بقيت كما هي تقريباً، وهؤلاء احتكروا لأنفسهم معرفة أسرار التحنيط الذي يحفظ الجثث، ولم يبوحوا لأحد بتركيب العقاقير الحافظة والخلطات المعقَّدة من مواد نباتية وحيوانية التي استعملوها لهذا الغرض، ويعود احتكارهم لمهنية التحنيط رغبةً في استئثارهم بالأرباح الوفيرة التي كانوا يجنونها من تحنيط الموتى، ذلك أن التحنيط كان صناعة يساوم عليها أهلها ويتاجرون فيها كغيرهم من أهل الصناعات، وإذا كان الباحثون الحديثون قد عرفوا شيئاً ضئيلاً عن التحنيط وأسراره، إلا أنَّهم لم يعرفوا الحقيقة الكاملة عن التراكيب التي حفظت هذه الجثث تلك السنين الطويلة، إلى درجة أن علم التحنيط قد زال بزوال أربابه الذين ضنوُّا بتلقين معرفتهم للآخرين من أجيالهم اللاحقة، وما زالت أسرار التحنيط تتحدَّى العلماء والتقدم التقني حتى الآن، ولكن مما لا شكَّ فيه هو أن عملية التحنيط قد ساعدت الأطباء المصريين القدامى على دراسة الأعضاء الداخلية لجسم الإنسان، ومعرفة أسباب الأمراض التي كانت سائدة آنذاك.
مراحل عملية التحنيط:
كان اختصاصيو التحنيط يضعون الجثة على طاولةٍ خشبية، ثم يُخرجون مخ الميت عن طريق فتحتي الأنف بواسطة أداةٍ حديدية منثنية عند أحد طرفيها وباستخدام بعض العقاقير، ثم يملؤون الجزء المجوَّف (مكان المخ) بالطيب والصمغ والصنوبر بواسطة أداة خشبية وخنجراً من المعدن، ثم يعمدون إلى إخراج محتويات البطن من فتحةٍ في الخاصرة، ويغسلون الجوف بالنبيذ المصنوع من التمر بعد أن تضاف إليه بعض المواد العطرية، ويجري ملء الجسد المجوَّف بالتوابل، ثم يرأبون الفتحة بالخياطة، وهنا يصبح الجسد جلداً على عظم، بعد ذلك توضع الجثة لمدة سبعين يوماً في كربونات الصوديوم (الملح) الجاف الموجود بكثرة في بحيرات وادي النطرون، وذلك للتخلص من سوائلها مما يساعدها على سرعة جفافها، بعد ذلك يدهنونها بزيت خشب الأرز والعطر، ثم تلفُّ– بحرصٍ شديد - من قمة الرأس إلى أخمص القدمين بلفائف كتانية يصل طولها لمئات الأمتار، وهي مشبَّعة بالصمغ العربي لكي تحتفظ بشكلها، وبالعطر لكي تعطيها رائحة فوَّاحة، وفي أثناء عملية اللف يضعون بعض التمائم داخل لفّات الكتان، وفي بعض الأحيان كانوا يرسمون بعض صور الآلهة عليها، وبعد انتهاء عملية اللف كانوا يكتبون اسم الميت عليها. وكانت عملية التحنيط تستغرق نحو سبعين يوماً، بعد ذلك يأتي أهل الميت لاستلام الجثة من معمل التحنيط، حيث يضعونها في تابوتٍ خشبي يحمل هيئة الفقيد وملامحه، ويكتبون عليه عباراتٍ ونصوصٍ دينية، ويوشُّونه برسوماتٍ جنائزية وصور آلهة، وقد يكون التابوت تابوتين أو أكثر بحيث يكون أحدهما داخل الآخر، ويدعون له بالخلود، ثم يسندون الصندوق المحكم الإغلاق على حائط إحدى حجرات المقبرة المنحوتة في باطن الأرض. أما الأحشاء فكانت توضع في أوعية من الحجر الجيري توضع بدورها في صناديق خشبية تحفظ في مكانٍ خاص قريب من جسد صاحبها، حتى تجد الروح- عندما تعود للحياة - جسدها كاملاً كما كان في نشأته الأولى. وهذا الشكل من أشكال التحنيط هو الأغلى حيث استخدمه الملوك والعظماء والمشاهير والأغنياء، الذين يرام بمظاهر التحنيط وفخامته الإيماء إلى ما كان عليه الميت من علو المنزلة وعظم الشأن في قومه.
إلا أن هناك أشكالاً أخرى للتحنيط تتدرَّج إلى أربع مراتب تختلف في كلفتها وبذخها حسب الاستطاعة المالية، وأقلها تكتفي بما يقي الجثة من التلف، وكانت تعتمد على الملح بشكلٍ أساسي، مع الاعتقاد الوجداني بأهمية التحنيط.
يُشار إلى أن الجثث المحنَّطة يُطلق عليها اسم: "مومياء" “mummy”، وهي كلمةٌ دخيلة على اللغة العربية قد تكون يونانية بمعنى حافظ الأجسام، أو فارسية بمعنى: "القار"، والقار هو مشتقات نفطية مختلفة، للاعتقاد السائد بأن سواد جلد المومياء يعود لاستخدام القار في عملية التحنيط، وقد تكون من كلمة "مورماريا" الصينية ومعناها "القبر المقدَّس". ويعرض الكثير من متاحف العالم واحدة أو أكثر من المومياوات المصرية، وأشهر المومياوات هي رمسيس الثاني، رمسيس الثالث، رمسيس الخامس، تحومتس الثاني،تحوتمس الثالث، أمنتحب الأول، أمنتحب الثاني، ميريت أمون، أمحس الأول، ستي الأول، مرنبتاح، منقرع التي اكتشفت في عام (1880) داخل هرمٍ في سقارة حيث حفظت لمدةٍ تقارب أربعة الآلاف وخمس مئة سنة، وكلهم من فراعنة (حكام) مصر القديمة. أما أشهر المومياوات المصرية على الإطلاق التي لم يصل إليها اللصوص فهي مومياء الفرعون "توت عنخ آمون" التي اكتشفت في عام (1922) محفوظةً في تابوتٍ من الحجر الرملي داخل غرفة، وكان جسده مغطَّى بالقلائد الذهبية، ووجهه مغطى بقناعٍ ذهبي موشَّى بالأحجار الكريمة، ملابسه ذات طابعٍ ملكي، بإحدى يديه يحمل عصا معقوفة اسمها: "حقا" وترمز للسلطة الملكية، وفي اليد الأخرى يحمل صولجاناً معروفاً باسم "نخخ" ويرمز للقوة الملكية، وهي محفوظةٌ بجناحٍ خاص في المتحف المصري القاهرة يحمل اسمه.
ولكن التحنيط عند قدماء المصريين لم يقتصر فقط على الموتى من الناس، إذ إنَّهم مارسوه أيضاً على الحيوانات والنباتات، حيث وجدت مومياوات لحيواناتٍ كاملة الهيكل أو أعيد تركيبها من العظام المتناثرة في المقابر، وتشمل تماسيح وقطط وكباش وكلاب وقرود وأسماك وطيور وغيرها، وبعضها كانت ترمز إلى آلهةٍ مصرية، وحفظوها في غرفة دفن الموتى نفسها، وفي بعض الأحيان تخصَّص لها مقابر خاصة بها.
وعلى الرغم من أن المصريين كانوا أشهر الشعوب القديمة التي مارست التحنيط، لكنهم لم يكونوا الوحيدين في هذا المجال، إذ انتشر في أماكن عديدة حول العالم، فقد اكتشفت مومياوات محنَّطة بدرجاتٍ مختلفة من الجودة والمهارة في بعض المواقع الحضرية في جبال الانديز بأمريكا الجنوبية مثل حضارة شعب "الانكا" الذين مارسوه بعناية، ذلك أن الجثث التي عثر عليها كانت قد جُفِّفت قبل دفنها، وكانت ملفوفة بالخيطان بإتقان ومهارة، ويعتقد علماء الآثار بأن وسائل التحنيط قد وصلتهم من المصريين القدامى بطريقة ما لم تُعرف حتى الآن، وكذلك فعل شعب باراكا في البيرو. أما شعب المايا في أمريكا الوسطى، فقد اشتهروا بدفن ملوكهم في أهراماتٍ مازال بعضها قائماً حتى الآن. واشتهرت قبائل "جيفارو" في الإكوادور بمقدرتهم العجيبة على معالجة رؤوس الموتى بطريقةٍ تجعلها تنكمش وتبدو كرؤوس الأقزام، وقد دعاهم لممارسة هذه العملية اعتقادهم بوجود الروح في هذا الجزء من الجسم مما يزوِّده بقوى سحرية غامضة. كما عثر المنقِّبون في عام (1983) في إحدى المقابر الصخرية المرتفعة بموقع "شبام الغراس" في محافظة "محويت" شمال اليمن، على أربع جثث محنَّطة إلى جانب بعض الأعضاء المتفرِّقة، ولكنها أقل جودة من مشابهتها المصرية، وهي الآن محفوظة في متحف كلية العلوم بجامعة صنعاء. وكذلك مارس التحنيط بحدودٍ ضيقة البابليون والقرطاجيون والصامويون، والجانشيون (سكان جزر الكناري)، والأمازيغ في ليبيا حيث اكتشفت في عام (1983) بعثة آثار ليبية بريطانية مشتركة في منطقة وادي الحياة مومياء طولها أكثر من مترين، ويعود عمرها إلى نحو سبعة آلاف سنة، أي إنَّها أقدم من نظيرتها المصرية.أما الإغريق والرومان فكانوا يقتصرون على تطييب جثث الموتى بالمطيِّبات والمعطِّرات والزيوت، ثم يدفنونها.
ويضم المتحف الوطني بالمدينة السورية التاريخية تدمر "قاعة المومياء" التي تحتوي على مومياءٍ واحدة يعود تاريخها إلى أكثر من ألفي عام، واكتشفت في عام (1991) في مدافن الأبراج بالمدينة، وجرى معالجتها وترميمها وتنظيفها على أيدي خبراء ومختصين من إيطاليا وفرنسا، وتقدم المعروضات للزائر فكرة شاملة عن طرائق التحنيط عند التدمريين القدماء وغيرهم.
وأكاد أن أجزم بقولي بعد هذا الوصف الوجيز لعملية التحنيط بمراحلها كافة، إنَّها تقترب من تكريم المسلمين للميت غسلاً وتطييباً وتكفيناً والصلاة عليه والدعاء له بالمغفرة، ثم دفنه في قبرٍ تحت سطح الأرض حفظاً لكرامته الإنسانية التي كفلها الله عزَّ وجلّ بكتابه الكريم: "ولقد كرَّمنا بني آدم" (الإسراء،70)، وقول رسوله الكريم في حديثه الشريف: "تكريم الميت الإسراع بدفنه".
أماكن الدفن:
وقد دفن المصريون القدماء موتاهم في أماكن بعيدة عن متناول اليد لكي تبقى وتحيا الحياة الأبدية براحةٍ وطمأنينة، وذلك في الأجزاء المتاخمة لوادي النيل من الصحراء الغربية، لأنَّهم كانوا يعرفون أن رمال الصحراء أقدر على حفظ جثث الموتى من التربة الطينية الرطبة المجاورة لنهر النيل، ولإيمانهم بأن الشخص الميت كالشمس الغاربة كلاهما يجب أن يغادر الدنيا من ناحية الغروب، ولهذا اختاروا ذلك الوادي السحيق بين قمم الجبال العالية على الشاطئ الغربي لمدينة: "طيبة" عاصمتهم في ذلك الوقت، وهي الأُقصر حالياً (673 كم جنوب القاهرة)، مكاناً للدفن، لذا عُرف باسم: "مدينة الأموات"، كما عُرف باسم: "وادي الملوك" لكثرة الملوك الذين دُفنوا فيه، كما خُصِّص مكانٌ آخر للملكات وأبنائهم حمل اسم: "وادي الملكات"، واستمر ذلك حتى نهاية العصر الفرعوني في العام (332 ق. م.) وكانت بعض القبور تُحفر في الصخور حرصاً منهم على إخفاء مومياواتهم عن أعين اللصوص، ولكن ذلك لم يمنعهم من الوصول إليها وسرقة محتوياتها الثمينة، ولهذا لجأ الكهنة إلى حفظها بالدير البحري حيث بقيت هذه المخابئ مغلقة لم تُمس إلى أن اكتشفها أهالي قرية القرنة في عام (1881) وما بعده، وجرى نقلها مع مرفقاتها الجنائزية إلى متحف القاهرة، وعُرضت فيما بعد في جناحٍ خاص بالمتحف حمل اسم: "قاعة المومياوات". كما أقام المصريون -حفظاً لتراث أسلافهم- متحفاً خاصاً للتحنيط افتتح في عام (1997) على ضفة نهر النيل في الأقصر هو الوحيد من نوعه في العالم، ويُعَدُّ من أبرز المزارات السياحية ويلاقي إعجاباً من السياح الذين يحرصون على زيارته. يضم المتحف في قاعته الوحيدة نحو مئة وخمسين أداةٍ، كالملاقط والإبر والتوابيت وملح النطرون والمومياوات البشرية والحيوانية، تحكي أسرار فن التحنيط، ومن أهم معروضاته لوحة بردية تلقي الضوء على رحلة التحنيط ذات السبعين يوماً التي يستغرقها الميت منذ وفاته حتى دفنه.
التحنيط في العصور اللاحقة:
في العصور الوسطى مارس الناس في أوروبا تحنيط الملوك والعظماء على نطاقٍ ضيِّق مع أن الكنيسة قد منعته لتعارضه مع القيم الدينية، وفي بدايات القرن الثامن عشر حاول عالم التشريح الهولندي "فردريك رويش" (1683-1731) إيجاد طرائق جديدة ومتطوِّرة لتحنيط جثث الإنسان والحيوان، واخترع في عام (1700) وصفة طبية معيَّنة تُحقن بها شرايين الميت إنساناً أو حيواناً، فتحفظه وكأنه حي، ومارس الطريقة نفسها عالم التشريح الاسكوتلندي "ويليام هنتر" (1718-1783). ثم طوَّر علماء آخرون في الكيمياء والتشريح طرائق أخرى، ومن ذلك سحب السوائل من الجثة وتجفيفها ثم حقنها بمعقِّماتٍ سائلة تحتوي على مركبات فورماليدهيد، كلوريد الزئبق، كلوريد التوتياء، الكحول. أما اليوم فإن التحنيط يُدرَّس علماً رسمياً في معاهد متخصِّصة بذلك في أوروبا وأمريكا، حيث يستوفي الطلبة مدة دراستهم، ثم يجتازون امتحاناً للحصول على شهادة تؤهِّلهم لممارسة مهنة التحنيط التي وجدت سوقاً في تلك البلاد، وتدر عليهم أرباحاً مالية كثيرة، ويقبل عليها بعض المشهورين والأثرياء وغيرهم، وهم ممن يؤمنون بمعتقداتٍ وفلسفاتٍ معينة، إلا إنه اليوم يكاد أن يكون معدوماً، ويعود ذلك لتزايد استعمال طريقة حرق الجثث بدلاً من دفنها، أو تحنيطها.
وتقديراً من الزعيم السوفييتي "جوزيف ستالين" لسلفه مؤسِّس الاتحاد السوفييتي "فلاديمير لينين" الذي توفِّي في عام (1924)، والذي بات أسطورة حيَّة ترمز إلى المذهب الشيوعي نهجاً سياسياً، فقد قرَّر تحنيطه ووضع جثته في ضريحٍ فخم يليق به بالساحة الحمراء في العاصمة موسكو، وجعله محجاً ومزاراً لكل من لم يتمكن من حضور مأتم الدفن. غير أن أساليب وفنون تحنيطه التي استخدمها العلماء السوفييت في المختبرات بقيت بالغة السرية، وهناك فحوصٌ دورية روتينية تُجرى على الجثة حتى تبقى بحالةٍ جيدة، حيث يقوم المختصُّون باستخدام مواد مبيِّضة ومحلولٍ خاص لإزالة البقع والطفيليات التي تظهر أحياناً على وجه لينين ويديه مرتين أسبوعياً. كما يتم إغلاق الضريح في كلِّ ثمانية عشر شهراً لإجراء ماكياجٍ شامل للجثة، وذلك بغمرها في حوضٍ مملوء بسوائل كيميائية لمدة ثلاثين يوماً، حتى تمتص ببطء تلك السوائل ولتستعيد البشرة رطوبتها ونضارتها، مع الإشارة إلى أن دماغ لينين ما زال محفوظاً في "معهد الدماغ" بموسكو، كما أن درجة الحرارة وضغط الهواء يبقيان في الضريح عند مستوى ثابت، وهذه الفحوص يجري تطبيقها أيضاً على جثمان "لينين التوءم" الذي سيرد ذكره في الفقرة التالية.
وفي بعض تفاصيل عملية تحنيط جثة لينين عقب وفاته في عام (1924)، فقد تمَّ اختيار البيوكيميائي "بوريس زبارسكي" وخبير التشريح "فلاديمير فوربيوف" للقيام بذلك في مختبرٍ سري بموسكو، اللذين استخدما جثثاً بشرية لاختبار التقنيات التي سيجري تطبيقها على جثة لينين، وإحدى هذه الجثث سمِّي بـ: "نسخة لينين" لشبهه الكبير بالزعيم لينين، وعرف لاحقاً بـ: "لينين التوءم"، واختبرا كل طرائق التحنيط بما فيها تلك التي استعملها قدامى المصريين في تجفيف الجلد للحفاظ على ملامح لينين الخارجية، واستبدلا عينيه بعينين زجاجيتين، ثم جرى تخييط أجفان العينين لإعطائه شكلاً هادئاً ومريحاً، ومازال بعض العلماء الروس يبحثون عن أسلوبٍ يضمن خلوده سنواتٍ طويلة. بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في عام (1991)، استعرت السجالات - التي ما زالت مستمرة - بين الروس حول ما إذا كان يجب دفن جثمان لينين في مكانٍ آخر وفق تقاليد الكنيسة الروسية، أم يبقى محنَّطاً في تابوته الزجاجي، ليطَّلع عليه الزوار الذين يصطَّفون بالآلاف يومياً، والذين لا يُسمح لهم باستخدام أيّ من آلات التصوير أو التسجيل، وليس أكثر من إلقاء نظرةٍ خاطفة في أثناء مرورهم السريع وبدون توقُّف أمام الجثمان. في عام (2013) نفَّذ الروس عملية ترميم شاملة لمبنى الضريح بعد تسرب المياه إلى أساساته.
بعد وفاة الزعيم السوفييتي الثاني "جوزيف ستالين" في عام (1953)، جرى تحنيطه مباشرةً وسُجّي إلى جانب جثمان لينين، غير أن الزعيم السوفييتي الثالث "نيكيتا خروشوف" أمر فيما بعد بدفن سلفه عند جدار الكرملين إلى جانب كبار الرجال السوفييت. أيضاً جرى تحنيط الزعيم الفيتنامي الشيوعي "هوتشي منه" عقب وفاته في عام (1969)، الذي يحتل مكانة كبيرة في نفوس الفيتناميين باعتباره قائداً تاريخياً للبلاد، وجثمانه مسجَّى في ضريحٍ خاص في العاصمة هانوي، ويزوره الفيتناميون والزوار الأجانب بشكلٍ دائم، وكان قد تمَّ الاتفاق بين السوفييت والفيتناميين قبل وفاته على تقديم المساعدة التقنية اللازمة لتحنيطه. وبالطريقة نفسها تمَّ تحنيط الزعيم الصيني الشيوعي "ماوتسيتونغ" الذي توفي في عام (1976)، وسُجِّي جثمانه في ضريحٍ يقع في ساحة السلام السماوي بالعاصمة بكين، ويزوره مئات الصينيين والأجانب يومياً، مع وجود فكرة بنقله إلى مسقط رأسه في بلدة "شاوشون"، وقد استعان الصينيون بخبرة محنِّطي جسد "هوتشي منه" الفيتناميين الذين كانوا قد تلقوا هذا العلم في الاتحاد السوفييتي. ومن زعماء العالم المحنَّطين البلغاري "غيورغيديميتروف" (1949)، المارشال المنغولي "تشويبولسان" (1952)، التشيكوسلوفاكي "كليمنتغوتفالد" (1953)، الكوري الشمالي "كيم إيل سونغ" (1994) ونجله "كيم جونغ إيل" (2011) اللذان يرقدان مسجيَّان في ضريح "كومسوسان" في العاصمة بيونغ يانغ، وقد جرى تحنيطهم جميعاً بمعونةٍ سوفييتية، أو روسية لاحقاً.
حالياً يعدُّ "معهد تدريس طرائق وتقنيات الطب الأحيائي" في العاصمة الروسية موسكو مركزاً عالمياً للتحنيط، وذلك من خلال تقديمه عروضاً تجارية يُقبل عليها الأثرياء الروس وغيرهم من الراغبين بتحنيط جثثهم بعد الموت، كما يدعى موظَّفوه بين حينٍ وآخر إلى بلدانٍ مختلفة للقيام بأعمالٍ خاصة للغاية في هذا المجال، وقد تمكَّن من تطوير طرائق فريدة في مجال التحنيط لا مثيل لها في العالم.
وسائل أخرى لحفظ جثث الموتى:
لجأ بعض الناس في السنوات الأخيرة بأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية إلى عمليات تجميد أجسادهم بعد الموت، على أمل إنعاشهم ثانيةً في يومٍ قادم عندما تتيح التقنيات الأحدث ذلك، ويتم ذلك بغمر الجثة في مغطسٍ ممتلئ بالنيتروجين السائل، ثم حفظها وتخزينها بدرجة حرارةٍ متدنِّية جداً تحت الصفر المئوي، ويجري إعادة ضخ النيتروجين كل بضعة أيام، وتقوم بذلك العمل معاهد وشركات تجارية تساعد الراغبين بتجميدهم بعد موتهم بدلاً من دفنهم، وهؤلاء غالباً ما يعتمدون على وثيقة التأمين لدفع نفقات الحفظ والصيانة الدائمة.
تعود فكرة التجميد ثم الإنعاش إلى ستينيات القرن الثامن عشر عندما نشر الكاتب الفرنسي "إدموند أباوت" روايته التي نالت شهرةً واسعة آنذاك: "الرجل ذو الأذن المقطوعة"، وهي قصة عن طبيبٍ جمَّد شخصاً ثم أنعشه فيما بعد عندما توافر علاج لمرضه. وكان للسينما العالمية نصيب من فكرة هذه القصة، إذ أنتجت هوليود أفلاماً عدة يدور محورها حول إنعاش شخصٍ ما بعد أن كان مجمَّداً لفترة طويلة من الزمن. في ثلاثينيات القرن العشرين نقل الطبيب "روبرت إيتنجر" فكرة التجميد من عالم الخيال إلى التطبيق العملي، إذ إن التطورات الطبية المتعلِّقة بإنعاش مرضى السكتة القلبية والغرق، وأولئك الذين يعانون من الموت السريري، قد شجَّعته على متابعة البحث، فالموت – كما يقول – يُعَدُّ نسبياً، وقد كان هؤلاء يُتركون في وقتٍ مضى ليموتوا دون النظر لفترة بقائهم أحياء.
تحنيط الحيوانات:
ولابد في ختام هذه المقالة من إعطاء القارئ الكريم فكرة سريعة عن تحنيط الحيوانات “stuffing”وإظهارها كما لو كانت حيَّة، ويقوم العديد من متاحف التاريخ الطبيعي حول العالم بعرض أنواعٍ من الحيوانات في هيئتها الطبيعية، كما يقوم بعض الناس بحفظ حيوانٍ محنَّط أو أكثر في بيوتهم نوعاً من الزينة والجمال والمباهاة. إلا أن طريقة تحنيط الحيوان تختلف اختلافاً جذرياً عن طريقة تحنيط الإنسان الميت، وتعتمد على سلخ الجلد عن جسم الحيوان أولاً، ثم دبغه، ويتبع ذلك صنع نموذجٍ من الصلصال (الطين المشوي) للحيوان، ثم إلباسه الجلد المدبوغ وتخييطه، وتضاف بعد ذلك المعالم الأخرى للجسم مثل العينين والأذنين واللسان، وبذلك يصبح النموذج مكتملاً جاهزاً للعرض. ولا شكَّ في أن هذه العملية بمراحلها كافة تتطلَّب من المحنِّط أن يكون ملمّاً بالتشريح والتاريخ الطبيعي والرسم والنحت والميكانيكا والدباغة والصباغة، ويكتسب معظم المحنِّطين مهاراتهم عن طريق تلقِّي التدريب على أيدي محنطِّين ذوي خبرة ودراية عاليتي المستوى.
المصدر : الباحثون العدد 72 -73 حزيران وتموز 2013