الضوضاء أو الضجيج هو شكل من أشكال التلوث الفيزيائي ومصادره كثيرة خاصة في المدن الكبيرة. وتعتبر وسائل النقل أهم هذه المصادر كالطائرات وحركة السير على الطرق السريعة والقطارات. غير أن هناك مصادر لا تقل عنها ضجيجاً مثل أصوات آليات الإنشاءات وجوقات الموسيقا المعدنية الصاخبة ومكبرات الصوت العالية في الأعراس، وأصوات الآلات في المصانع والمناجم والأصوات الكثيرة المتداخلة في الأسواق المكتظة. وتقاس شدة الصوت بوحدة "ديسبل" Decible أو DB. وهي تقيس مقدار التغيرات في ضغط الهواء التي تسببها الأمواج الصوتية. ومقياس الديسبل مقياس لوغارتمي بمعنى أن كل زيادة 10 ديسبل تمثل زيادة 10 مرات في شدة الضجيج.
ويتفق العاملون في مجال هندسة الصوت على أن الصوت الذي شدته 85 ديسبل هو الحد المسموح به في أماكن العمل حيث يقضي العمال 8 ساعات يومياً. ولا بد من إدخال متغيرين لهما فعلهما بشأن تأثير شدة الصوت في الإنسان وشعوره بها. أولهما المسافة بين مصدر الصوت والسامع، ففي الهواء الطلق حيث لا ينعكس الصوت فإن كل زيادة في المسافة يؤدي إلى إنقاص الديسبل 6 درجات، فصوت شدته 100 ديسبل على بعد 10م تصبح شدته 94 ديسبل على بعد 20م و88 ديسبل على بعد 40 وهكذا. وثانيهما ديمومة الضجيج، فكلما زادت مدة تعرض الإنسان للضجيج زاد تأثره به، والعكس صحيح. أما عن تأثير الضجيج في السمع فإن أغشية الأذن الداخلية المرنة تعود إلى وضعها السابق بعد زوال تأثير الصوت، غير أن التعرض للأصوات الأشد من 90 ديسبل مدة طويلة أو للأصوات الشديدة جداً يؤدي إلى تشوه أجهزة الأذن الداخلية تشوهاً دائماً تبعاً لشدة الصوت الذي تلقته وديمومته أي تبعا للضغط الذي وقع عليها. وللتخلص من الضجيج أو التقليل من أخطاره إلى الحد المسموح به فإنه لابد من الابتعاد أو عدم البقاء طويلاً قرب مصادر الضجيج أو إغلاق الأذن بقطعة خاصة من البلاستيك خلال وقت العمل في المصانع ذات الضجيج العالي، أو عزل المساكن القريبة من الطرق ذات حركة المرور الكثيفة أو الموجودة بجانب المطارات وغير ذلك من التدابير التي تبعد الإنسان عن ديمومة مكوثه في مواقع الضجيج.
نتاج ثانوي للتقدم التكنولوجي
وقد عرف الرومان القدماء لعنة التلوث الصوتي الذي ازداد خطره في العصر الحديث. وفي القرن السادس عشر كان القانون الإنكليزي يمنع الأزواج من ضرب زوجاتهم بعد العاشرة مساء. واليوم وصلت الضوضاء إلى درجة الخطورة وأصبحت من كبريات المشكلات البيئية. وإن كان من السهل كشف تلوث الهواء والماء وقياسه بالوسائل الكيميائية مثلاً، فإنه من الصعب جداً قياس الضوضاء. وتعرف الضوضاء بأنها أصوات غير مرغوب فيها تحدث إحساساً سمعياً اتفق على اعتباره مزعجاً للسمع. ولذلك يدخل الباب الشخصي في تقرير مدى الضيق الذي تحدثه الضوضاء.
وتحدث الضوضاء الزائدة في مجالات عديدة، كنتاج ثانوي للتقدم الناشئ عن النمو التكنولوجي الحديث الذي لم يحدث مثله من قبل. ولاشك أن الضوضاء تبدو كطفيلي على مجتمعنا ومدنيتنا لا مفر منه وغير ضروري على الإطلاق. وقد أدى خضوعنا للضوضاء بلا قيد أو شرط إلى أن أصبحنا اليوم في وضع يثير أعصابنا باستمرار. ومن منّا كان يحلم قبل خمسين عاماً فقط أن التوسع في استعمال أبواق السيارات والنمو في حركة المرور سيؤديان إلى هذا الضيق الخطير الذي يحدثه اليوم؟ ومن كان يتنبأ بأن صوت الطائرات يمكن أن يمنع الناس من النوم في المدن المجاورة للمطارات أو أن مؤشر الديسبل الذي تقاس به شدة الصوت سيرتفع داخل المنازل بعد تزويدها بالثلاجات الكهربائية، والخلاطات والطواحين والغسالات ومجفف الشعر وغيرها متخطياً جميع المستويات التي تتحملها الأعصاب. ويتعرض سكان المدن في كل مكان وزمان لجحيم الديسبل، فهل الأمر لا يعدو أن يكون سوى مصدر للمضايقة، أم إنه التعرض الدائم للضوضاء هو الذي يُحدث إصابة محققة للإنسان. وحتى اليوم، لم يأخذ أي عالِم على عاتقه مسؤولية الإجابة بوضوح عن السؤال الخاص بما إذا كانت الضوضاء تضر الصحة أم لا. وبالرغم من ذلك فإن جميع الاستطلاعات الإحصائية التي تتناول قطاعات كبيرة من السكان تتفق فيما للضوضاء من ضرر على صحة الإنسان. ففي بحث أجري في الولايات المتحدة الأمريكية تبيّن أن فقد السمع يحدث لسكان المدن في سن مبكرة عنه بالنسبة لسكان الريف، وبالطبع فإن جهاز السمع هو الذي يتأثر بزيادة الضوضاء، وهو أيضاً المنطقة الأكثر عرضة للتلف نتيجة الضوضاء، وقد أثبتت عدة تجارب أجريت في أمريكا وأوروبا، أن الضوضاء عامل بارز في بعض الأمراض التي تصيب الإنسان بالرغم من أنها ليست المسؤول الوحيد عنها.
تأثيرها على صحة الإنسان
من المسلم به أن الضوضاء هي الأصوات العالية نسبياً التي تكون شدتها أعلى من درجة علو الأصوات القياسي في التخاطب والأجواء الهادئة، وغالباً ما يكون لها علاقة بجو المهنة مثل العمل في المصانع والورش ومدارج الطائرات والتدريبات العسكرية.. الخ، أو لها علاقة بالهواية كالصيد مثلاً. وتؤدي الضوضاء إلى ضعف في السمع قد يكون مؤقتاً، وقد يكون دائماً بسبب تلف خلايا الأذن الداخلية الناتج عن الضوضاء. ويعتمد حدوث ضعف السمع بسبب الضوضاء على عاملين:
- شدة درجة الصوت.
- مدى تعرض الأذن للصوت.
وبناء على هذين العاملين هناك نوعان من الإصابات الصوتية:
الأول: هو الإصابة الصوتية أو الانفجار الذي تتعدى شدته 140 ديسبل (وحدة قياس الصوت) كانفجار القنابل أو ما يشابهها، ومثل ذلك من شأنه أن يحدث تلفاً للسمع دون اعتبار للمدة التي تعرضت لها الأذن.
الثاني: هو الضوضاء، ويحدث ضعفاً في السمع بناء على العاملين السابق الإشارة إليهما، كضعف سمع مؤقت، وقد يتحول في مرحلة تالية إلى ضعف سمع دائم إذا تكرر التعرض للصوت.
وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال هام يتعلق بالحد المسموح به للتعرض للضوضاء، دون حدوث ضعف السمع؟ وللرد على هذا التساؤل ينبغي الإشارة إلى بعض التوصيات المهنية في هذا المجال والتي يمكن إيجازها بالتالي:
- يسمح بالتعرض للأصوات أقل من 85 ديسبل 8 ساعات يومياً لمدة خمسة أيام أسبوعياً.
- يسمح أن يتعرض الشخص لأصوات أعلى من 90 ديسبل بخفض مدة ثماني الساعات للنصف عن كل زيادة 3 – 5 ديسبل بشدة الصوت.
أعراض ضعف السمع بسبب الضوضاء
أما أعراض ضعف السمع بسبب الضوضاء فهي صعوبة في السمع بعد أن تخرج من جو الضوضاء، مع طنين في الأذن وإحساس بامتلاء الأذن. وإذا كان ضعفاً مؤقتاً فإن الأعراض تزول خلال بضع ساعات، وقد لا تعود إلا إذا تكرر التعرض للضوضاء. وبتخطيط السمع يظهر ضعف السمع في الترددات العالية مع تراجع حاد عند تردد 4 كيلو هرتز.
مما سبق يتضح أن الضوضاء قد تؤدي إلى ضعف السمع، قد يزداد سوءاً حينما يضاف إلى الضعف الناتج عن التقدم في السن لدى الإنسان. وللأسف لا يوجد – حتى الآن – علاج للضعف الناتج عن عصب السمع يمكن أن يعيد السمع، لذا فإن الوقاية هي أفضل سبيل لمنع حدوثه، وهذا يحصل عن طريق وضع ضوابط من قبل صاحب العمل والالتزام بها من قبل العاملين، وهذه الضوابط معمول بها في الدول المتقدمة، وتتلخص هذه الضوابط بالآتي:
- عمل فحص دوري للسمع للعاملين في أماكن الضوضاء وتغيير أماكن عملهم إذا كان لديهم ضعف في السمع.
- التأكيد على العاملين بوضع واقيات من الضوضاء على الآذان، وهناك أنواع مختلفة من هذه الواقيات منها سدادات الآذان وهذه تقلل من الضوضاء بنسبة قليلة، أما واقيات الآذان فهي الأفضل حيث تخفف حوالي 30 ديسيبل من الضوضاء.
- وقد أدى عدم المعرفة بأضرار الضوضاء إلى تعرض الكثيرين إلى ضعف في السمع كان بالإمكان التقليل منه أو منعه على الأقل لو تم الالتزام بتلك الاحتياطات.
ومن آثار الضوضاء، حدوث حساسية لدى بعض الناس من الأصوات التي قد تؤدي إما إلى ألم في الأذن أو صداع أو إثارة عصبية، وهؤلاء الأشخاص قد يكون لديهم سمع طبيعي ولديهم حساسية للأصوات العادية، وهذا يؤدي بهم إلى العصبية وتجنب حتى اللقاءات الاجتماعية لعدم قدرتهم على تحمل تلك الأصوات، كما ينتج عن الضوضاء أيضاً حدوث طنين في الأذن، يؤدي بالتالي إلى إرهاق نفسي وتخليق حالات قلق وانفعال وتوتر في عضلات الرقبة والرأس، وبالتالي تؤثر على عطاءاته وإنتاجيته. وهذا يقودنا إلى القول إن الضوضاء لها تأثير سلبي على الإنسان قد يؤدي إلى حدوث الكثير من الأمراض العضوية والنفسية مما يؤثر تأثيراً بالغاً على إنتاجية الفرد والمجتمع.
وعلى ضوء ما ذكر، يميل الكثيرون إلى اعتبار الضوضاء مسؤولة عن أمراض كثيرة، وليس هناك أدنى شك في أن الصمم الوظيفي أحدها، ولكنه يحدث فقط تحت ظروف محددة بدقة، وفيما عدا ذلك، فلا يمكن إلا أن نقول إن الضوضاء شيء ما أكثر من ضيق شامل. ولا يصح أن نعتبرها المسؤولة الوحيدة عن حالات الأرق الدائم والعصاب والأمراض النفسية وارتفاع ضغط الدم.. الخ. ويتفق الأطباء والمشتغلون بالصحة العامة الذين أجروا دراسات على آثار الضوضاء على أعضاء الإنسان، على إنه بالرغم من أن الضوضاء شيء مكروه إلا أنها لا تفعل أكثر من أن تكشف أو ربما تجسم مواطن الضعف عند الفرد، والأخطاء الموجودة في أعضائه، وإذا نظرنا إلى المستقبل نجد إنه من الواضح جداً ضرورة اتخاذ إجراءات فورية للحد من الضوضاء لصالح المصلحة العامة ورفاهية الإنسان، وقد سنّت بعض الدول التشريعات للحد من ضوضاء الطائرات والمصانع، ولكن الأمر يستلزم وضع القوانين التي تحدد القدر المسموح به من الضوضاء في الشوارع والمباني بصفة عامة لحماية الناس من التهديد المتزايد بالتلوث بالضوضاء.
مكافحة الضجيج
تقول أليس دوبونيه لومبار مديرة مركز المعلومات وتوثيق الضجيج في الاتحاد الأوروبي إن الخطط التي وضعت لمكافحة الضجيج منذ أربعين سنة لم تؤت أكلها بل إن الوضع ازداد سوءاً عن ذي قبل، وتشير الباحثة إلى أن مصانع البوينغ والإيرباص هي وحدها التي تستخدم محركات من الجيل الجديد أقلّ إصداراً للضجيج في طائراتها. من جهتها تحاول السلطات المعنية تغيير خطوط مسارات الطائرات أثناء الإقلاع والهبوط ومنع الرحلات الليلية لطائرات من نوع (A320) المعروفة بأنها الأكثر إحداثاً للضجيج. ويتطلع الاتحاد الأوروبي ضمن مشروع (أكرا) إلى خفض الضجيج الجوي بمعدل عشر مرات حتى سنة 2020.
وتضيف لومبار: ينبغي أن تأخذ مصانع السيارات بعين الاعتبار عاملين: الضجيج الذي يحدثه المحرك والضجيج الناتج عن سير المركبة على الطريق، فحينما تتجاوز السرعة 80 كيلومتراً في الساعة، يطغى عامل السرعة على العامل الأول، وبالتالي فإن المركبات الكهربية والمهجنة هي الحل الأمثل لهذه المسألة. وسيتم إطلاق معايير جديدة أثناء صناعة العجلات بحيث يشار عليها إلى مستوى الضجيج الذي تصدره أثناء سير المركبة على الطريق. وتعول السلطات والمصانع على استخدام تكنولوجيات هجينة لخفض الضجيج الصوتي الناتج عن سير الحافلات و"الترامواي" (القطار الكهربائي)، وتم في بعض الدول وضع شريط زيتي على خطوط "الترامواي" يبلغ سمكه 2 ملم لعدم صدور الضجيج مطلقا أثناء مروره بجانب المناطق السكنية. أما بالنسبة للقطارات فالهدف الأسمى بالطبع هو خفض الضجيج عند التوقف، ويتم العمل حالياً على إيجاد طريقة لامتصاص الضجيج الصادر عن هذه الحالة، وكذلك الصادر عن السير بسرعة عالية خاصة أن سرعة القطارات ستبلغ حتى العام 2030 نحو 500 كلم بالساعة. وتعمل شركات نقل وتحميل البضائع على تغيير مواعيد العمل واستخدام مركبات جديدة ذات محركات صامتة نوعاً ما واستخدام رافعات كهربة لإنزال البضائع. لأن محركات مركباتها تتسبب في إصدار كميات كبيرة من الضجيج، وكذلك توقفها فضلاً عن الضجيج الصادر عن العربات الحديدية المستخدمة لإنزال البضائع، وكذلك عند إغلاق الأبواب الحديدية. يصدر أيضاً عن خطوط التوتر العالي أزيز لا يطاق والحل الوحيد يتمثل في استخدام خطوط التيار المستمر بدلاً من التيار المتردد في الشبكات الممتدة إلى مسافات بعيدة، لأن هذه التيارات تجعل المحولات الكهربية تهتز بعنف أثناء إنتاجها للطاقة الكهربية علماً بأن هذا الحل يبدد كثيراً من الطاقة.
ومن الطرق الوقائية الحديثة ضد الضجيج استخدام الجدران الكابحة للموجات الصوتية وعلى الرغم من مستوى هذه الجدران المتدني من الناحية الجمالية إلا أنها تسهم في خفض الصوت بمعدل يتراوح بين 10- 15 ديسبل، وتحاول المصانع التي تنتج جدراناً جاهزة من الإسمنت المسلح أو الممزوج بالخشب أو البلاستيك أو الصلب أو الزجاج أن تتوافق منتجاتها مع المتطلبات البيئية الحديثة، وفي الوقت الراهن تستخدم الأسقف والجدر الخضراء للحد من الضجيج لأنها تجمع بين الألياف الطبيعية والمواد المعدنية، وتلجأ الكثير من شركات البناء والمقاولات إلى تزويد نوافذ الشقق بزجاج مزدوج أو ثلاثي الطبقات ليكون ذلك بمثابة الحل الجذري للضجيج. وهناك مواد متطورة يتم إجراء تجارب عليها تسمى بالمواد الذكية وهي على هيئة أنسجة شفافة قادرة على امتصاص الضجيج.
كما يعمل الباحثون على إنتاج سخانات منزلية تصدر أصواتاً خفيفة وناعمة ممزوجة بموسيقا، وكذلك الحال بالنسبة لمصارع النوافذ الميكانيكية، حيث تعمل المصانع على جعلها أقل إصداراً للضجيج عند فتحها وغلقها. ومن الطرق الجديدة للتخفيف من الضجيج استخدام مواد تقلل من نسبة الضجيج عند تشغيل الأجهزة الكهربية وضرورة ذكر مستوى الصوت الصادر عن الأجهزة المستخدمة في المنازل كالغسالات والمكانس الكهربية وأجهزة تنشيف الثياب والأواني.
المصدر : الباحثون العدد 72 -73 حزيران وتموز 2013