اليي جنغ, الكتاب المقدس للحكمة الصينيةLe Yi Jing, Bible de la sagessechinoise
إعداد وتقديم جنيفر شفارتس ومايته دارنو Jennifer Schwarz et MaïtéDarnault
نشر الكاتب والاختصاصي في موضوع الحكم الصينية, سيريل جعفري Cyrille J-D Javary ترجمة(3) جديدة للـ"يي جنغ Le Yi Jing", أي نهج التغيرات, وهو نص مؤسِّس للفكر الصيني ويعود تاريخه إلى الألف الأول قبل المسيح, والذي, وفق الكاتب, قد تعرض لكثير من التأويلات المغلوطة, بينما هو أداة أساسية لفهم العالم ومعقوليته, لأن التغيير هو الحياة بذاتها.
اليي جنغ Le Yi Jing, الكتاب المقدس للحكمة الصينية:
"لقد أوجدت الحضارات القديمة لنفسها آلهة وشرائع, وأوجدت الحضارات الحديثة قوانين وطرقاً, أما الصينيون, فهم قد لاحقوا الأبدية بأشكالها اليومية الأكثر قوة: التغيير المستمر, والدوران الموسمي".
إلى ماذا يستند "الفكر الصيني" في بنائه؟
الركيزة الأولى: الاستقرار في الأرض والعكف عليها
الحضارة الصينية هي حضارة حضرية وزراعية. ويعيش الصينيون منذ البدايات في البلد الذي سكنوه على الدوام وزرعوا فيه حبوبهم وكانوا جزءاً من التراث البشري قبل عشرة آلاف سنة, وذلك بخلاف حضارات أخرى نشأت في القارة الأوروآسيوية, وكانت حصيلة هجرات وغزوات. لهذا السبب, تبدو فكرة النشوء والبداية, فكرة منطقية وطبيعية بالنسبة إلى الحضارات الهندو- أوروبية, وفكرة قليلة الأهمية في الصين.
الركيزة الثانية: العيش المشترك
كانت الصين على مدى التاريخ بلداً مكتظاً بالسكان. ففي العصر الذي كان فيه يوليوس قيصر يحكم حوالي مليون غولوازي Gaulois, تمَّ في الصين الإحصاء الإمبراطوري الأول لتعداد السكان الذي قارب الـ100 مليون نسمة. واستمرار الثقل الديمغرافي دفع الفكر الثقافي الصيني إلى تمييز مسائل الإدارة الاجتماعية وإلى تطوير فن العيش- المشترك.
الركيزة الثالثة: الكتابة الرمزية
ليس للكتابة الصينية نظير في العالم. فهي بالإضافة إلى كونها لغة أحفورية حيّة (لم تتغيّر الأسس المكونة لهذه اللغة منذ 3500 عام), هي الكتابة الوحيدة التي استمرت بتمييز المعنى على اللفظ. تشكل الكتابة الرمزية الأساس الثقافي والاجتماعي والسياسي للوحدة الصينية, في المكان كما في الزمان. يوجد في الصين أكثر من 1500 لغة محكية, لكن انطلاقاً من سيبيريا إلى خط الاستواء ومن بحر الصين إلى أفغانستان, تُقرأ الصحيفة نفسها. وأي صيني مثقف يستطيع أن يقرأ مسلة منقوشة من عصر كونفوشيوس, دون أن يكون لديه أدنى فكرة عن كيفية لفظ النص المكتوب في ذلك العصر.
ما هي علاقة الصين مع الدين؟
نقصد بكلمة "دين" عادة, مجموعة معتقدات مبنية بشكل رئيسي على الإيمان بإله خالق. غير أن الحالة الحضرية الزراعية للشعب الصيني فضلت التركيز على التتابع اللامنتهي لدورة الفصول وعلى الحركة الدائمة للسيّالة السحرية الحيوية. من هنا أتت الطاوية le taoïsme, وهي النموذج الصيني للشامانية chamanisme الموروثة, أي لعبادة الطبيعة والقوى الخفية التي كانت سائدة في آسيا الوسطى. ثم في زمن لاحق, بعد أن اتخذ فيها أحكام أخذت شكلاً مذهبياً في الـ"داو دي يينغDao De Jing " المنسوب إلى "لاو زي Lao Zi"، اهتمت الطاوية بـ"آلية سير الأمور" وهذا التعبير هو المعنى الحقيقي لكلمة طاو (داو), وذلك بدلاً من اهتمامها بخلق الكون. عظمت الطاوية من شأن التناغم والانسجام مع الكون(4) الذي هو خارج عنّا ومع ما هو في داخلنا, وغدت في قلب كل الفنون الفيزيائية الصينية: الوخز بالأبر acupuncture, طاي- شيشوان taï-chi-chuan, كي- غونغ qi gong.
الكونفوشية Le confucianisme, وهي الوجه المشرق للروح الصينية, تمسكت بفكرة إقامة تآلف اجتماعي يمتد بالتدرج من العائلة إلى المجموع الإنساني. الكونفوشية بسيطة بمبادئها:"لا تفعل بغيرك ما لا تود أن يفعله الآخرون بك", إنها فن العيش المشترك, وفن التقليل من مستوى العدوانية في العلاقات الاجتماعية, لكنها صارمة في الممارسة والتطبيق. لقد تم توطيدها قبل ألفي عام كأخلاق الدولة, وهي لا تزال على الدوام في قلب الحياة الصينية, سواء أتم احتقارها في حكم ماو, أو بعد إعادتها إلى الحياة الحاضرة كما نشاهد ذلك اليوم.
في العصر الإمبراطوري, كانت العلاقات مع الديانات الأجنبية علاقات طيبة على الدوام, وكانت مقبولة بالمستوى نفسه للعبادات المحلية طالما هي لا تتجاوز حدودها لتقفز إلى المجال السياسي. كان كونفوشيوس ينصح بـ"احترام الأرواح والشياطين, والابتعاد عنها". كان يعتقد أن الأرواح والشياطين (كلمة "الله" غير موجودة في اللغة الصينية) ينبغي أن تُحتَرم ليس لأنها موجودة, بل لأن هناك ناساً يعتقدون بها, وإنه من المستحسن الابتعاد عنها, لأنها تبدو له معتقدات طفولية.
هل يعيد الفلاسفة الصينيون المعاصرون قراءة ثقافتهم التقليدية على ضوء الفكر الغربي؟
وصول الزوارق الحربية المسلحة عام 1840, قلب العالم التقليدي الصيني رأساً على عقب: لقد أتى برابرة من آخر الدنيا ويمتلكون أسلحة أقوى من التي يمتلكها الصينيون.
رد الفعل الأول:
لنقلد وننسخ هذه الأسلحة وهذه التقنيات الأجنبية ولندافع عن القيم الصينية. وبعد خمس وخمسين عاماً, حطَّم اليابان الجيش الصيني. عندها تساءلت النخبة المثقفة في نفسها ووصلت إلى نتيجة أن الشر الذي ينهش الإمبراطورية هو أمر أعمق بكثير وللتخلص منه ينبغي تغيير النظام. وفي عام 1911, أسَّس سون يات- سن Sun Yat-Sen الجمهورية في الصين, الجمهورية الرابعة في الأزمنة الحديثة. وعندها غرق البلد في فوضى "أسياد الحرب", وظهر الرفض لكل التراث الصيني. قامت بعد ذلك الثورة الماوية التي دفعت بهذه الحركة إلى أقصى حد منها وأدت إلى الوضع الذي نعرفه.
وعلى أثر سياسة الإصلاح والانفتاح التي قادها كزياوبنغ Xiaoping, ظهرت حركة تعنى بقراءة جديدة للماضي. ورأت هذه الفكرة النور بتجدد الجذور الثقافية التراثية وعلى الأخص الكونفوشية بعد إعادة إحيائها بفضل فعالية العلم والفلسفة الغربية. الموضوع ليس حنيناً إلى الماضي, بل نتيجة طبيعية للـ"تقوى البَنوية" التقليدية. يريد الصينيون اليوم أن يكونوا جديرين بأجدادهم المجيدين. وفي الوقت نفسه هناك اهتمام بالفلسفة الغربية, لأنها تطرح للصينيين مسائل لم يفكروا بها كثيراً وليس عندهم أمزجة لتعريفها وتعيينها. فمنذ 150 عاماً, لم يكن هناك في اللغة الصينية كلمات مثل "حرية", "ديمقراطية", "جمهورية". الرموز الدالة على أفكار والتي يقدمونها اليوم, هي تعابير جديدة تم إحداثها من قبل اليابانيين في نهاية القرن التاسع عشر ثم تبناها الصينيون.
هل هناك حركات روحية غربية تستوحي من الفلسفة الصينية؟
هناك في الغرب اهتمام متعاظم باتجاه الطاوية, وبشكل رئيس في ممارساتها الجسدية, التي يبدو أنها تقدم جواباً إيجابياً على التمزق العادي بين الجسد والروح. ينطلق الممارسون من التمارين الفيزيائية, ثم يكتشفون المصادر الفلسفية المتنوعة, والتي يعمقها كل واحد بطريقته الخاصة, لأن الموضوع هو توسع وليس هداية.
لماذا تقترح ترجمة جديدة لل"يي جنغ", كلاسيك التغيير؟
لأنه حان الوقت لنوفي هذا العمل الجوهري حقه, والذي هو مفتاح سر ومدخل إلى أسلوب التفكير الصيني. الـ"يي جنغ" هو الكتاب الأكبر للـ"ين" وللـ"يانغ". لقد كان الأساس والمرجع والمعجم المختصر لكل ما تم تفكيره في الصين لمدة تزيد على ألفي عام. ونلاحظ اليوم إنه أداة ممتازة لفهم النهج والفكر المعقّد والمنظمات ذات الصلة.
ممَّ يتألف؟ وكيف يعمل؟
إنه مجمع من 64 موقفاً نموذجياً, كل موقف (وضع) يظهر بتجميع سمات مستمرة متصلة (يانغ) أو مكررة (ين), منظمة وفق ستة مستويات متراكبة. كل من هذه الأوضاع النموذجية تحمل اسماً, ويكون في أغلب الأحيان فعل لعمل ما ("يزيد", "يتراجع", "التفاهم مع الجميع", "تحريض") ومترافقة بنص يحدد الاستراتيجية الأفضل اتخاذها عندما نكون في موقف مماثل. ويكون ذلك كتاب وجيز للمساعدة في اتخاذ قرار ما وهو في الوقت نفسه يشكل إنجازاً مدهشاً كـ"مخطط للعالم" محسوب في تغيّره المستمر.
تعليق شرعي للـ"يي جنغ" يقول: "في وقت الراحة, الكائن المكتمل يتأمل الـ"يي جنغ". وفي وقت العمل, يسأل الـ"يي جنغ". في وقت الراحة عندما لا نكون منهكين من العمل اليومي, وعندما نتأمل الـ"يي جنغ" أي عندما ندقق بالعلاقات الداخلية المتعددة المنسوجة بين نماذج المواقف الـ64, نكتشف علاقات غير مسبوقة ومثمرة بين المواقف اليومية. في وقت العمل وعندما ينبغي علينا أن نختار وأن نقرِّر ونحن نسأل الـ"يي جنغ", نحصل على نصيحة, وعلى توضيح ملائم حول أفضل المواقف الواجب اتخاذها في الظرف الاستثنائي الذي نحن فيه.
كي نسأل الـ"يي جنغ" ينبغي أن نطرح عليه سؤالاً, وأن يكون محتوياً على فعل العمل الذي هو موضوعنا. بعد كتابته كنوع من الالتزام, نلجأ بعدها إلى تقليبات صدفوية بواسطة ساق نباتي أو قطع نقد تعيننا على اختيار أيٍّ من المواقف النموذجية الـ64 الأقرب إلى الموقف الاستثنائي الخاص الذي نحن فيه. ليس علينا بعد ذلك سوى قراءة النصائح الاستراتيجية الموافقة لهذا الموقف.
إذا وجب علينا مقارنة الـ"يي جنغ" بشيء غربي, فليس بكرة الكريستال, بل بسدسية (5) البحّارة, وهي أداة بسيطة يمكننا بواسطتها الوصول إلى هدفنا إن نحن فقدنا كل الأدلة حتى في وسط المحيط. فاللجوء إلى الـ"يي جنغ" يعني إيجاد, ما يشبه أطلس لـ64 بحراً من بِحار الكرة الأرضية, في أي بحر منها نحن موجودون. ثم بعد الاستعلام عن خصوصيات هذا البحر, وتياراته, وصخوره, ورياحه المسيطرة, نصبح عندها قادرين على تسوية خط سيرنا بأفضل ما يمكن وبالتالي زيادة احتمال الوصول إلى غايتنا. لأن الـ"يي جنغ" لا يتنبأ بالمستقبل ولا بحال من الأحوال, بل يحلل موقف حالي, ويعلمنا عن ميله كالبارومتر تماماً.
لماذا يقال عنه بشكل عام وكأنه كتاب عرافة وتنبؤ؟
لأن المترجمين الأوائل, اليسوعيين المرسلين إلى الصين من قبل لويس الرابع عشر Louis XIV أرادوه بهذا الشكل. فهم عندما استخدموا لترجمته مفردات العرافة, قللوا من قيمة هذا الكتاب بشكل مستدام حيث كان يبدو بالنسبة إليهم نحساً ومشؤوماً, طالما أنه يقترح وصفاً لسير العالم دون تدخل إله خالق.
بماذا تكون هذه الترجمة مجددة؟
إنها أكثر احتراماً للنموذج الصيني. فهي تعيد إلى الـ"يي جنغ" غناه الوصفي وفائدته العملية. وإن ظل الـ"يي جنغ" مهملاً لفترة طويلة لأن باستخدامه يتم اللجوء إلى الممارسة الصدفوية التي تصدم عقلانيتنا. لكن بالنسبة إلى الفكر الزراعي الصيني, لا يوجد تناقض بين المتوقع والصدفوي. فالصينيون يعلمون منذ زمن بعيد أن منطق الحياة يتبع قوانين ثابتة لكن تجلياتها صدفوية. فتتابع الفصول ثابت لا يتغيّر: كل سنة, الربيع يتبع الشتاء, وكل سنة, يأخذ الربيع شكلاً مختلفاً.
فاللجوء إلى الصدفوية هو محرك التطور بالنسبة إلى الكونفوشي, وفعل أخلاقي بامتياز, طالما ما يكون بالنسبة إلينا صدفة يكون بالنسبة إليه الشكل الذي يتخذه دفق الطاو Tao عندما ندع الأمور تسير بتلقائية. اللجوء إلى الصدفة هو أن يضع الإنسان نفسه باتجاه الدفق الحيوي. هذا يزعجنا لأننا بحاجة إلى برهان بالعقل, وبالاستنتاج, والمنطق. الفكر الصيني, يكتفي ببرهان على الفعالية.
هوامش
(1) نشرت هذه المقالة في صحيفة عالم الديانات بتاريخ 5\7\2012 Le Monde des religions
(2) د.ماري شهرستان, مترجمة وباحثة سورية.
(3)عبر دار نشر آلبان ميشيلAlbin Michel
(4) الكون le cosmos, بوصفه نظاماً متناغماً.
(5) سدسية البحارة sextant des marins: آلة ارتفاع الأجرام السماوية من سفينة أو طائرة متحركة.
المصدر : الباحثون العدد 72 -73 حزيران وتموز 2013