في الزمن الراهن الذي نحياه في سياق الأحداث التي تعصف بالمنطقة العربية عموماً وفي مقدمها وطننا الغالي سورية، نتذكر تعريف البعض من المفكرين القدماء للأرض بقولهم إنها "بيئة النبات" وبمعنى ما يمكننا أن نعرّف الإنسان الذي يعيش فوقها بأنه "طاقة الإنبات" لأن الأرض، لا يمكن أن تؤكد هويتها إلا في سياق هذه العلاقة بين البيئة والطاقة. وبطبيعة الحال فإن نتائج هذه العلاقة، تكون فاعلة في صلب المجتمع بمقدار ما تكون متينة.
في إطار هذه المعادلة أيضاً، فإن الأرض لا تعني الجغرافيا فقط من حيث مساحتها، بل تصير قيمة تربط بين الوطن كأرض، وبين الأرض كوطن، وبالتالي تصير الأرض أقرب ما تكون إلى مفهوم "القضيّة" التي لا يجوز لأحد أن يساوم عليها، سواء أعطت نباتاً أم لم تعط، وبذلك تكتسب القضية معناها بوصفها تاريخاً له حضوره في الوقت الراهن كما كان شأنها بالأمس. ولأن الأرض هي الجغرافيا والتاريخ معاً فإنها ترتبط حُكماً بكرامة المواطن في وطنه، وبالتالي في أرضه، كونهما يشكلان كياناً واحداً كما جسم الكائن الحيّ. ومن هنا يحق لنا القول بأن من يرضى بأن تنقلب أرضه إلى سلعة قابلة للبيع والشراء، يكون قد تخلى عن هويته الوطنية وانقلب، بالتالي، إلى تاجر في سوق النخاسة، من يدفع له أكثر يأخذ مراده منه.
ولأن حالة كهذه سبق أن رُفضت من قبل شعوب عديدة، كما تروي لنا كتب التاريخ القديم، خاضت شعوب لا تحصى معاركها الضارية ضد الغزاة الذين رغبوا في احتواء أراضيها وبذلك بقيت أوطانهم خارج أطماع أعدائها. إن بتلاحم الإنسان مع أرضه كوطن أو مع وطنه كأرض، تكتسب ذرة التراب من أرض وطنه، معنى غير قابل للأخذ والعطاء، سواء بالترغيب أو بالترهيب، ومن هنا تكبّدت شعوب عديدة ثمن تضحيات لا تقاس في أزمنة مضت حتى تحررت من ظروف الاستعمار القديم التي تعرضت لها منذ غزوات التتار والمغول في القرون القديمة وصولاً إلى ظروف الاستعمار الذي واجهته في بداية القرن الخامس عشر مع بدء سنوات الاستعمار العثماني حتى بداية العقد الثاني من القرن الماضي مع سنوات الاستعمار الفرنسي.
وفي هذا الصدد لا بد من التذكير بأن الإنسان حين يُبنى، ثقافياً، على مكونات مقولة التلاحم بينه وبين أرضه ووطنه، لا بد أن تكون له لا لمحتل أرضه ووطنه الكلمة الأخيرة، وهذا ما تؤكده وقائع التاريخ حتى في حال تعرض هذا البلد أو ذاك لخسارة معركة أو أكثر، ذلك لأن هكذا خسارة في سياق المعارك التي تخوضها الشعوب مع أعدائها، لا يمكن أن تقضي على الشعور الوطني في أي بلد ذرة التراب فيه تساوي الحياة. ومن هنا ترتبط التربية كقيمة وطنيّة في أي من البلدان التي تحافظ على هويتها الوطنية، بمبدأ الدفاع عن الذات، لأن تحصين الذات عمليّة تصبّ في نهاية المطاف في بوتقة الدفاع عن الوطن أرضاً وعن الأرض وطناً. ومن هنا القول بأن بناء الإنسان على قاعدة الوطن كأرض أولاً والأرض كوطن أولاً، يشكل مدخلاً لمكون القيمة التي لا تقدّر بثمن في إطار الردّ على المساومة مهما بلغ سقفها، إلا في حالة سقوط صاحب هذه القيمة في تجربة الاستجابة للإغواء على غرار من يقبل بمقدار من المال يرضى به مقابل بيع ضميره وتاريخه الشخصي. ولدينا أمثلة على الاستجابة لمثل هذا الإغواء لا تحتاج لتفصيل. ولهذا القول دائماً بأن الإنسان هو الركيزة الأولى والأهم في حماية الوطن والأرض، وإنه في مواجهة القضايا الكبرى وأمامها لا يملك حق الخيار، بل ولا يجوز له أن يختار حالة البين بين، فإما الرضوخ للأمر الواقع أو رفضه والسعي لإخضاعه لإرادته وهو الأصح.
إن خطوة إلى الوراء في اللحظات الدقيقة في حياة الإنسان قد تكون بداية لمصير مجهول وذلك على نحو ما شاهدناه في سياق تسليم الرئيس المصري الأسبق أنور السادات بما اعتبره أمراً واقعاً، فأضاع نفسه وأضاع أرضه وعرّض أبناء شعبه لخسارة لا تزال تبعاتها جليّة في أوساطهم على امتداد وطنهم حتى يومنا هذا. وفي التاريخ من أنصع الأمثلة في هذا السياق ما يرد تفصيله في السيرة الذاتية للقائد الفرنسي الشهير "المارشال بيتان" الذي صدر الحكم عليه بالإعدام في سنة 1945 بتهمة الخيانة لأنه فرّط بأرض فرنسا بتوقيعه اتفاقية الهدنة مع ألمانيا الهتلرية في سنة 1940 مع بدايات الحرب العالمية الثانية بحجة أنه بذلك أوقف زحف الألمان باتجاه باريس العاصمة عند مدينة "فردان" وأيضاً بحجة حرصه على تراث فرنسا ومعالم باريس الحضارية منذ أجيال، ومع ذلك لم يشفع له أنه كان أحد أبطال فرنسا الكبار في الحرب العالمية الأولى. بهذا المعنى تبقى مسألة الأرض فوق كل الاعتبارات الآنية أو الطارئة لسبب من الأسباب الخارجة عن إرادة الفرد والتي قد تستدعي التفريط بها، فالأرض في تقدير القادة الكبار في تاريخ البشرية هي الحق المقدس الذي لا يجوز لأحد، مهما ارتفع شأنه في بلده، أن يتلاعب بمصيرها أو أن يدنّسها، إذا كان هذا الأحد يملك من القوة ما يجعله قادراً على اتخاذ قرار التفريط بها، وحتى إذا هو نفّذ إرادته فلن يمضي وقت طويل على قدرته على حماية تبعات قراره الذي اتخذه ونفّذه بشكل أو بآخر، ومن هنا كان سقوط الذين باعوا أوطانهم أو ساوموا عليها متخطين بذلك شعوبهم إرضاء للذات ولشعورهم بأنهم فوق أي اعتبار يتعلق بسلامة أراضي أوطانهم.
في هذا الصدد لم تكن سورية – على سبيل المثال – لم تكن في أي وقت من الأوقات إلا الدليل القاطع على صلابة الموقف دفاعاً عن حقها المقدس، عن أرض الوطن لأن الوطن هو الأرض، ولأن كليهما يجسدان القيمة الأمثل بين القيم التي تؤكد على أن الإنسان هو حاضن هذه القيمة وأنه حتى برحيله عن دنياه، تبقى القيمة حيّة، بحيث تنقل من فرد إلى آخر، كما شعلة الأولمبياد لا تنطفئ مهما واجهت من هبّات الهواء، ذلك لأن لا مساومة على أية أرض، مهما كانت مساحتها، سواء أكانت مصدر عطاء أم مجرّد وسادة تحت رؤوس المتعبين، وسواء أكانت طاقة لاستمرار الحياة أو بركة ماء تتجمع فيها دماء المدافعين عنها منذ فجر التاريخ. الأرض تبقى الكلمة – الملحمة. وفي تاريخ البشريّة ثمة ملاحم كبرى تحكي قصص دفاع الإنسان الذي لم يرضَ مقايضة أرضه بأي إغراء معلن أو غير معلن، مثلما تحكي قصص أبطال لا زالوا أحياء في ذاكرتنا لم ولا تمّحي ملامح وجوههم في زواياها كقناديل مضيئة يهتدي بها السائرون على دروب الحياة.
iskandarlouka@yahoo.com
المصدر : الباحثون العدد 74+75 تشرين2 – كانون1 2013