إن لغة الألوان التي طورّها الإنسان عبر العصور، لغة معقّدة وصعبة الفهم في أبعادها كافة، فاللون لا يتحدد بالنسبة للمؤرخ أو الانتروبولوجي من خلال مواصفاته البصرية أو الفيزيائية أو الكيميائية، بل بشكل أوسع بما يصنع منه الإنسان في المجتمع.. في هذا الإطار، انصب اهتمام علماء الآثار الذين عملوا في موقع أوغاريت (رأس شمرا) على الساحل السوري على اللون الأزرق، باعتباره لون أولّي وأساسي في العوالم القديمة لحضارات المشرق القديم..إنه لون اللازورد، وهو حجر نصف كريم كان الطلب عليه منذ أقدم العصور من مناطق آسيا المركزية..
لقد اكتشف في أوغاريت مواد ومشغولات زرقاء اللون، صنعت من مواد طبيعية أصيلة ونادرة أنتجها الإنسان الأوغاريتي، ويقدر عددها بالآلاف ويعود تاريخها إلى الألف الثاني قبل الميلاد وتحديداً في الفترة الواقعة بين القرن السادس عشر إلى بداية القرن الثاني عشر قبل الميلاد.. وتعد أوغاريت، التي كانت مساحة مملكتها توافق إلى حدّ ما محافظة اللاذقية الحالية أي نحو /2000/ كم2، تعدّ إحدى الممالك السورية من عصر البرونز الحديث الأكثر شهرة، وذلك بفضل اكتشاف الآلاف من الرُقم المسمارية في مبانيها المتعددة، وكان منها أقدم أبجدية عرفتها البشرية وتتألف من /30/ حرفاً.
لقد احتلت أوغاريت موقعاً متميزاً على ساحل البحر المتوسط، وارتبط بتاريخ الممالك الكبيرة في ذلك العصر، (الميتانية - المصرية- الحثيّة) وقد كشفت لنا الحفريات الأثرية التي تمت فيها عن معطيات حضارية، وتجارية واقتصادية مهمة، وعن صورة مملكة مزدهرة يرتكز اقتصادها من جهة على استثمار أراض غنية، ومن جهة أخرى على تجارة نشطة كانت تتم على المستويين الإقليمي والدولي، وكانت أوغاريت تقع عند تقاطع طرق التجارة الدولية، وتقيم علاقات جيدة مع الساحل المتوسطي الشرقي( فلسطين وبحر إيجه وقبرص ومصر) وسورية الداخلية وبلاد الرافدين..
يمتد موقع أوغاريت (رأس شمرا) على نحو /26/ هكتاراً، تم اكتشاف سدسها أثرياً فقط، وإن كانت الطبقات الأقدم ترجع إلى العصر الحجري الحديث( منتصف الألف الثامن قبل الميلاد) لكن الآثار التي نراها اليوم يعود تاريخها بشكل أساسي إلى المرحلة الأخيرة من إعمار الموقع، أي من القرن الرابع عشر وحتى بداية القرن الثاني عشر قبل الميلاد، ونكتشف هنا المدينة الرائعة مع تحصيناتها وأحيائها السكنية المقسمّة إلى أحياء عديدة ومعابد وقصر ملكي وقبور ومنشآت حرفية وصناعية.. وكشفت الأعمال الأثرية عن عدد كبير من الُلقى المصنعّة من مواد مختلفة ومتنوعة (فخار – معدن- حجر- عاج- فاينيس- أشباه الزجاج) وهي شهادات بسيطة عن الحياة اليومية لسكان أوغاريت، أو من قطع فاخرة كانت تحتفظ بها النخبة من السكان..
من الُلقى الرائعة التي لفتت أنظار العلماء وعشاق الفن والحضارة، تلك الُلقى ذات اللون الأزرق، المتنوعة الطبيعية، وتحمل أنماطاً كثيرة، وهي عناصر من حلي وأختام أسطوانية، وأختام مسطحّة وجعران- بيارق – لعب- رمّانات- دُمى- تعشيقات- أوان متنوعة..
وكان اللافت أن أغلبها صُنعت من مادة طبيعية هي «اللازورد»الأزرق وهو حجر شبه كريم، غير موجود في محيط وبيئة المملكة، وكانت المناجم التي يُستخرج منها تقع في الشرق القديم في آسيا المركزية (أفغانستان- باكستان–طاجكسان) ومن الثابت استخدامها في الشرق الأدنى منذ العصر الحجري الحديث، ونجد أن الشواهد الأغزر يعود تاريخها إلى الألف الثالث قبل الميلاد، وظل اللازورد المكتشف قليلاً نسبياً في الألف الثاني قبل الميلاد، وهذا ما يعطي أهمية للقطع التي اكتشفت في أوغاريت، وكانت عبارة عن بعض الخرز والقطع التزيينية بأشكالها المتنوعة، وعناصر التعشيق التي كانت تزين بعض الأثاث، ويختلف مظهر هذه المادة تبعاً لمختلف القطع، ويلاحظ عدة درجات من اللون الأزرق، وتتراوح بين الفاتح والداكن، ونجد أحياناً بعض العروق من «الكالسيت».. لقد نُفذت معظم القطع الملونة بالأزرق في أوغاريت، ويبلغ عددها عدة آلاف من القطع، من مواد صنعها الإنسان «الفاينس المزرق القديم» و«الأزرق المصري» أشباه الزجاج- الفخار الصلصالي الذي يحمل طبقة لمّاعة.
لقد كشفت التنقيبات الأثرية في أوغاريت عن مجموعة مكونة من /20,000/ قطعة من هذه المواد، التي يعود تاريخها إلى الألف الثاني قبل الميلاد، وتعد مرجعية وذات تنّوع أسلوبي كبير، ومن أهم مجموعات الشرق القديم، ويعدّ بينها نحو /18,000/ قطعة مصنوعة من «الفاينس المزرق القديم» ونحو ألف قطعة أشبه بالزجاج و/266/ قطعة من «الأزرق المصري» و/27/ من الفخار الصلصالي الذي يحمل طبقة لماّعة.. واللون الأزرق هو لون عدد كبير من هذه القطع ويكون أحياناً مقترناً بألوان أخرى.
إن المكوّن الرئيسي لهذه القطع الزرقاء اللون هو السيليس، المتوفر على سطح الأرض على شكل رمال أو كوارتز، وبما أن درجة اندماجه عالية جداً (أكثر من 1700 درجة مئوية) فإنه من الضروري خفضها بإضافة الصوديوم والبوتاسيوم، الأمر الذي يسهل عملياً تشكيل المادة، وتتأتى هذه الأسس من رماد نباتي أو من النطرون (كربونات الصوديوم الطبيعية) ويلعب الكلس بشكل خاص دور المثبت، ويتم الحصول على اللون بفضل إضافة أكاسيد معدنية (أوكسيد النحاس- أوكسيد الكوبالت) ونحصل بعد الشي على مواد رملية ذات وجه أشبه بالزجاجي يكون مختلف اللمعان وفق الخلائط الأساسية وبشروط الشيِّ..
وفي أوغاريت وحده النحاس الذي يدخل في تشكيل «الأزرق المصري» وفي أزرق الطلاء في الفخار الصلصالي، في حين بالنسبة لـ«الفاينس» المزرق القديم، وأشباه الزجاج، فقد اكتُشف ملونَان مختلفان، هما النحاس والكوبالت..
لقد سمحت الدراسات التي تمت للقطع الأثرية المكتشفة في أوغاريت، بالتأكيد على العلاقات القوية التي كانت تربط هذه المملكة السورية مع مصر، ومن المرجح أن أصل «الفاينس المزرق القديم» كانت تقنية معروفة بشكل خاص في مصر خلال عصر الأسرة الحديثة، وكان مصدره «واحدة خرجه» كما أن اكتشاف أكبر مجموعة مما يطلق عليه «الأزرق المصري» في أوغاريت، كملون في الرسوم، يعطينا دلالة أخرى على تطور العلاقات الأوغاريتية المصرية في الألف الثاني قبل الميلاد.
ومما يذكر أن «الأزرق المصري» هو أقدم صباغ أو تلوين تركيبي صنعه الإنسان، وإحدى المواد الأولى من العصور القديمة التي تمت دراستها بواسطة مناهج علمية، وذلك منذ بداية القرن التاسع عشر، أما صفة «المصري» المستخدمة للإشارة إلى هذه المادة التركيبية، فهي غامضة جداً، بحيث توحي بوجود صلة وثيقة لهذه المادة مع مصر، في حين بيّن البحث الأثري أن هذه المادة صُنعت في مناطق أخرى غير مصر في المشرق القديم، وقد اكتشف من هذه المادة أكثر من 250 قطعة في أوغاريت، ونحو ألف قطعة مما ينتمي إلى ما يسمى «أشباه الزجاج» أغلبها قطع خرز، من اللون الأزرق.
ويعدّ حجر اللازورد، الأكثر شهرة بين الحجارة المعروفة في العالم، فقد ذُكر في مسار الكنوز الملكية والمعابد، وفي المراسلات الملكية، والنصوص«الميثولوجية» وقد ارتبط هذا الحجر بالعالم الإلهي، فهو صفة مقترنة بالآلهة، وكان يستخدم في صناعة مساكنها، وفي النصوص الميثولوجية، التي تروي ملحمة إله العاصفة والخصب «بعل» وصف قصره:«مسكن من الذهب والفضة.. مسكن من اللازورد الصافي»..
إن معاني اللازورد كثيرة، وهو يملك بشكل خاص قوة سحرية وحامية.. ألم تكن عشتار مزينة بالذهب واللازورد عند نزولها إلى الجحيم، وفي إحدى النصوص الشعرية التي اكتشفت في أوغاريت يستخدم هذا الحجر لوصف جمال إمرأة: «التي يشبه لطفها، لطف عنّاة وجمال يشبه جمال عشتروت، وحدقاها فصّان من اللازورد، ورموشها قطع من المرمر» ويظهر اللازورد في أوغاريت في قوائم الُلقى الفاخرة، ففي جهاز عرس «ملكة أوغاريت» المسماة «اختملكو» ذكر أثاث من الخشب معشق بالعاج والذهب واللازورد، ويشكل هذا الحجر أحد رموز السلطة والغنى، وقد كان هدية سياسية مميزة على شكل قطع مصنعة، مشغولة، أو على شكل مادة أولية، وتخبرنا النصوص المسمارية المكتشفة في أوغاريت، عن قيام ملك أوغاريت بتقديم اللازورد إلى الحثيين، وكيف كان يحاول أحياناً التملّص من التزامه تقديم اللازورد إليهم، إذ كان يرسل لازورداً مقلّداً، الأمر الذي كان يغضب الملك الحثي، الأمر الذي دفعه مرات عديدة إلى إرسال رسائل عتب إلى ملك أوغاريت:«كيف تسخر مني يا رجل.. كان الأجدر ألّا ترسل شيئاً بدلاً من التقاط حجر من هذا النوع وترسله.. وتغضب قلب الملك..»
أهمية الُلقى الأثرية، المكتشفة في أوغاريت والتي تميزت باللون الأزرق دفعت المركز الوطني للبحث العلمي في متاحف فرنسا بالتعاون مع المديرية العامة للآثار والمتاحف السورية إلى إقامة معرض متجول حمل عنوان «أوغاريت بالأزرق» منذ عدة سنوات، وقد حظي بالإعجاب والتقدير حيثما عُرض، مثل «بهو مكتبة الشرق في باريس، وحرم جامعة «لادوا» ومدينة ليون، والمتحف الوطني بدمشق..
المصادر:
1- المواد الزرقاء في مدينة أوغاريت القديمة، دليل المعرض، تأليف: فاليري ماتويان، وآن بوكييون.
2- دليل معرض «سورية أرض الإله بعل».
3- آثار أوغاريت، تأليف: جبرائيل سعادة- دمشق 1954.
4- مملكة أوغاريت، ملتقى الحضارات والشعوب. د. علي القيّم، مخطوط، قيد النشر.
5- كنوز سورية القديمة- الناشر متحف ولاية فورتمبرغ- شتوتتارت المانيا- مطبعة المتحف 2009.
المصدر : الباحثون العدد 74+75 تشرين2 – كانون1 2013