في هذا البحث نتناول تساؤلات الآباء والأمهات والمُربين حَول موضوع التخيّل وأهميته في حياة الطفل، والتأثير السلبي في نُمو علاقة الطفل بالواقع الحقيقي وأسبابه، فنأخذ آراءهم بعين الاعتبار خاصة عندما يتوهم الطفل ويتخيّل الوحوش في القصص المخيفة تُلاحِقُه في الظلام، فيغرقُ في الخيال المطلق..
ولا شك بأنّ ذلك يُثير قلقهم ويشغل فكرههم أمام الأوهام السقيمة، وشطحات الخيال بين أحلام اليقظةِ وعدم القدرةِ على فصل الحقيقيةِ عن الخيال.
تعريف الخيال:
«نشاطٌ وطاقةٌ عقلية يمتلكها كل فرد ويستطيع بمقتضاها الاحتفاظ بصور ليست موجودة في الواقع، ولكنها تؤثر فيه كما يريدها هو، لها من الحيوية أكثر مما هو موجود بالفعل، وهو صدىً للإدراك الحسّي، عالم فسيح يجوب فيه الآفاق ويحلّق على سفينة الأحلام، فلولا الخيال وهو ضرورة واحتياج – ما أبدع أديب أو فنان أو عالِم بالتصوّر الخلاّق والعمل على إنتاج أفكار لقضايا علمية افتراضية قابلة للتنفيذ، والتنبؤ بما ستؤول إليه التجارب الذاتية من إنجازات لم يأبه لها أحد من قبل، تحققت بفضل نشاط هذا الخيال الذي لولاه لما تحقق التقدم العلمي الهائل والتكنولوجي المعاصر لأنه المدخل إلى الابتكار والإبداع».
أطفالُنا والشاشة الصغيرة:
كانت الشاشة الصغيرة بالأمس مصدر قلق للأهل، بعد أن اكتسح التلفاز في المجال الإعلامي جميع مناحي الحياة وأصبح منافساً قوياً ومشاركاً في مسؤولية إعداد وتربية الأطفال، في السنوات الخمس الأولى من حياتهم حيث يجلسون لساعاتٍ طويلة أمام المشاهد دون أن يقوموا بأي عمل أو نشاطٍ إيجابي، ذلك أن بعض الآباء والأمهات تخلوا عن رعايتهم لأطفالهم وأراحوا أنفسهم بالاعتماد على التلفاز لتسلية الأطفال في الوقت الذي يحتاجون فيه إلى التواصل مع أفراد العائلة.. أمّا المدرسة فلم تعد هي النافذة الوحيدة لاكتساب المعرفة، لأن البرامج الموجهة للصغار تضعهم أمام معلوماتٍ وصور قادمة من جميع أطراف العالم، وذلك بطريقةٍ فيها الإثارة والتشويق والحيوية، ومما لا شك فيه أن ترك الطفل يشاهد البرامج وحده بدون رقابةٍ يخلّ بتربيته، في الوقت الذي يحتاج إلى مشاركة والديه له مشاهدة بعض البرامج والرد على استفساراته حول بعض الجوانب لربطها بالحياة.
لقد استطاعت أفلام الرسوم المتحركة بتقنياتها العالية المتطورة وقدرتها على اجتذاب الصغار والكبار على حد سواء بعوالمها السحرية التي تفيض بالجمال والحيوية، استطاعت أن تتقن الخيال، مواقف متخيّلة، ومشاهد من عوالم غريبة يصعب تصويرها على أرض الواقع، شخصيات من ذوي القدرات الخارقة وحيوانات من نسج الخيال، أبعدت الطفل عن واقعهِ الحقيقي، لهذا كان الاتهام يُوجّهُ إلى التلفاز بأنه يجعل الأطفال يعيشون صورة وهمية للواقع ويمنعهم من إدراك الحقيقة بسبب التأثير القوي والمتواصل للخبرات البصريّة التي يتلقاها الأطفال ويُقلدون ما يرونه على الشاشةِ ويتخذون من الشخصيات الخيالية مُثلاً عُليا لهم، فكان من جراء ذلك تشوشٌ حِيال الواقع والخيال، وضعف القدرة على تحمّل الإحباط، وعدم التركيز، وتراجع التلقائية والاستغراقِ في الأحلام، والميلِ إلى الصمت والعزلة دون القيام بأي عملٍ إيجابي، فالشاشة الصغيرة استولت على الدور التربوي للآباء والأمهات، في غِياب التوجيه السليم، والتلقي السلبي في استهلاك تخيّلات الآخرين، وهذا بالتأكيد ما يخلق شخصيات سلبية في نمو علاقتهم بالواقع الحقيقي والذي يؤدي إلى اختلافٍ في قدراتهم على التصور والتخيل والابتكار والإبداع وذلك لأن ما يُرونه من الصور المختلفة لا تُثير أي تساؤلٍ أو تفكير ما دامت معروضة أمامهم بكل تفاصيلها وخصائِصها.
ألعاب الكومبيوتر:
أمّا اليوم فقد أصبح من المألوف أن نرى أطفالنا مسحورين بروعةِ ما تمنحه شاشة الكومبيوتر من إمكانات لا متناهية، فَهُم سُعداء وأناملهم الصغيرة تداعبُ أزرار لوحةِ المفاتيح، عالمٌ مُدهشٌ يُنمي لديهم معرفة الأشكالِ والأحجام، والقدرة على التصميم والتحكّم وابتكار شخصيات واختيار الموسيقى، واكتشاف الأرقام والصور والكلمات مما يُنمّي لديهم قوة الملاحظة والقدرة على التخيّل، في السنوات الأولى من حياتهم وتحقيق المرح والسعادة والواقع أن هناك فارقاً بين جلوس الطفل بالأمس أمام التلفاز مسلوب التفكير والإرادة وطفل اليوم الذي أصبح يكتسب خبراتٍ متنوعة عبر التجربة والعمل والممارسةِ والتعطّش إلى الانفتاح على العالم الخارجي، يدفعه الولع باستكشاف الجديد، وطموحه ورغبته الجامحة للاطلاع والتعلّم في عصر التطوّر السريع والمدهش للتكنولوجيا، باستخدام جهاز الكومبيوتر الذي يعمل على تنمية مواهبه ومداركه عن طريق رسم الأشكال والتلوين وتحريك الشخصيات التي يبتكرها من إنتاجه الخاص وبتعبيره الفني الحر الذي يعتمد على نشاط خياله واستعداداته الإبداعيّة، وقدرته على التصوّر والتخيّل، ويؤكد خبراء التربية أن الطفل في سن الرابعة أصبح بمقدوره أن يُبحر في عالم الإنترنت، ولم يعد كما في الماضي يجلس أمام الشاشة دون أن يقوم بأي عمل إيجابي، في التفاعل والمشاركة، ففي مجال حفز طاقات التفكير ينبغي ألا تقتصر المعرفة على ما هو مألوف من المثيرات للطفل، بل يتطلب الأمر استثارة تفكيره وحفزِه إلى الالتفات إلى ما قد يغفله من معطيات التفكير في الواقع، من خلال خبراته واهتماماته المتنوعة في إطار عالمٍ متجدّد يفتح الطريق أمام دوافعه وتطلعاته وخيالاته بما يتلاءم مع مراحل نُضجه وما لديه من إمكانات وقوى وقُدرات واستعدادات فطرية للتحليق في عالم الخيال والمحاكاة واللعب الإيهامي.
اللعب الإيهامي:
يُعتبر اللعب وسيلةٍ للتعبير الرمزي عن خبرات الطفل في عالم الواقع، ويتوقف على أدواته وعلى خيال الطفل ومدى حريته في اللعب، فحين يلعب مع الدمى يستطيع أن يعبّر عن مشكلاته وصراعاته وحاجاته وإحباطاته، وطموحاته ورغباته، بالمحاكاة بتلقائية للشخصيات التي يُفضلها فنراهُ يُمارس أنشطته الخيالية بلا حدود، يُعبر عن جوهره وعن علاقاته بالآخرين، والجو الانفعالي في الأسرةِ، حيثُ يُظهر استعداده الفطري للمحاكاة خاصة بعد جلوسه لفترة طويلة أمام الشاشة الصغيرة وشعوره بالملل والضجر في إطار الصمت العميق أثناء مشاهدته للبرامج، والذي يقطع عليه كل إمكانية للحوار، لهذا فإن احتياجه للأجواء العاطفية عبر مشاركة والديه في المشاهدة والرد على استفساراته والتي يفتقدها، تجعله يلجأ إلى ألعابه للتواصل معهم من أجل تجاوز كل ما يُضايقه في حياته اليومية، لشعوره بأنهم أصبحوا أكثر أهمية وضرورة للإصغاء لما يقوله وما لا يستطيع التعبير عنه في واقعه من معاناةٍ حقيقية، فنراه يوظف في ألعابه كل ما شاهده لتوِّه، فيحاول تقليد الأبطال وتكرار ما يسمعه بفاعلية ونشاط وسعادة، يُجسدها في حواره، تاركاً لخياله العنان للحديث والثرثرة باستعداداته الفطرية للعب الدرامي الذي يعوضه عن كل ما يشعر به من ضعفٍ إلى شعوره بالقوة والسيطرة والتفوّق خاصة إذا ما قام بضرب أو رمي لعبته وكأنها تُمثّل النقص لديه. وهذا ما يُحقق له ارتياحاً ومتعةً ولذّة، ذلك أن لهذا النوع من اللعب المُتخيّل قيمةً في تنمية قدرات الطفل على التخيّل، واتسّاع مساحة الخيال، وتجاوز مُعطيات الواقع، مما يجعل قدراته على الابتكار والإبداع أكثر فاعلية وانبثاقاً في مستقبل حياته، بسبب التأثير القوي والمتواصل للخبرات البصرية التي يتلقاها والتي لها مدلولات واقعية بتقليده ما يراهُ في لعبه الدرامي، وهذا ما يحقق له الانسجام والتوافق بين طاقته والواقع الذي يفرض نفسه، بفضل فاعليته الخيالية وتطور قدراته العقلية في فهم الواقع.
وعلى الأهل عدم القلق أو الخوف من ظاهرة لجوء طفلهم إلى صديق وهمي من نسج خياله غير مرئي يتحدث معه، فربما كان يحتاج فعلاً إلى صديق حقيقي يَبُثه همومه، لأن هذه الظاهرة مؤقتة وتبدأ بالانحسار حتى العاشرة من العمر، لكنها دليل ومؤشر لبداية ظهور ملكة الخيال لدى الطفل، وذلك لكثرة الشخصيات الكرتونية التي يبتكرها صُنّاع الأفلام بعد أن أصبحت غُرف الأطفال مرتعاً خصباً لها، ففي السنوات الأولى من حياة الطفل ينشط خياله، ويتقمّص الشخصيات التي تروق له، فيقوم بتمثيل أدوارها، لإعجابه بالقوة الخارقة التي تتصف بها، والتي تقع في دائرة اهتماماته حيث يُعبّر أثناء لعبه التلقائي عن المشاعر المكبوتة في اللاشعور، لأن اللعب هو المتنفّس للطاقةِ الهائلة الكامنة في أعماقه، فينسج لنفسه أكثر الخيالات جموحاً، وهذا يُتيح له تفريغ شحنات التوتر، وإعادة التوازن النفسي، مما يساعده في التغلّب على مخاوفه بطريقةٍ مُلائمة.
توجيه خيال الطفل:
لا بُدّ من توجيه هذا الخيال وضبطه حتى لا يتوهم الطفل ويتخيل أوهاماً سقيمة، وتصورات سلبية، وتأثيرات شاذة للصور التي يتخيلها، كأن تتراءى له الوحوش والأشباح تلاحقه في الظلام، وأنها سوف تختطفه أو تؤذيه، لهذا فإن إتاحة الفرصة له بالجلوس والتحدّث أثناء لعبه مع صديقٍ وهمي يُفضي إلى انحسار الأفكار المخيفة بتعبيره عن مخاوفه وقلقه والهواجس والغموض الذي كان يكتنفه، فكُلما زاد عمره الزمني استطاع الطفل أن يُعبّر عن أفكاره من خلال حواره مع غيره لأنه يحتاج إلى من يسمعه في أهم مرحلة يكون فيها في غاية الحساسية والتأثّر، فيظهر قدرة على التعبير عن جوهره.. هي قدرات تتواجد لدى الأطفال ولكن بدرجاتٍ متفاوتةٍ تتّسع أو تضيق وفق استعداداتهم ودوافعهم واتجاهاتهم، وفرص تنمية خيالهم في البيئة المحيطة.
إن استغراق الطفل في الأحلام خاصة حين يُسيء فهم نوايا الشخصيات الكرتونية، يجعله يعيش في عالم وهمي بعيد عن الواقع، إذا لم تكن قصص الرسوم المتحركة مبنية على أُسس تربوية سليمة يمكن استثمارها لإشباع نزوع الطفل الفطري للتقليد، وذلك بأن تُقدّم له نموذجاً قريباً من عالمه، يُحبّه ويتوحد معه، ويتمثل قيمه وسلوكه ويُشبعُ عَبْرُهُ حاجته إلى قدوةٍ أو مثل أعلى يُحاكيه، شخصيات يُحبّها ويتقبلها لا تأمر بل تقترح، لأنه يميل إلى الأسلوب الضمني غير المباشر والذي توفره له الرسوم المتحركة، خاصة قصص الحيوانات غير الأليفة والتي حملت الطفل على متنها إلى الغابات والحقول والبحار حيث حورية البحر، والحيوانات التي هي من نسج الخيال كالتنّين، ذاك الوحش الخرافي المخيف، مما يُبعد الطفل عن واقعه الحقيقي ويؤدي إلى تخلّف قدراته على التصوّر والتخيّل والابتكار والمرهونةِ بالوسط الذي يعيش فيه عبر التجربة والعمل والممارسة وتوافقه مع نفسه ووالديه وإخوته وأقرانه والرغبة في تكوين صداقاتٍ وعدم الخوف من الفشل والرغبة في المخاطرة أو المغامرةِ في جعل المستحيل ممكناً، حين تستحوذ أنشطته الإبداعية على جانب كبير من نشاطه الخيالي، المدخل الفعّال للحياة الواقعية، فالخيال قرين المستقبل، وبما أن الطفل في هذه المرحلة العمرية يتميز بأنه واسع الخيال، تجذبه الأمور التي تستثير خياله، فإن من المهم أن تكون الإثارة متّسقة مع الواقع لا بعيدة عنه ليتمكن من إيجاد الحلول لمشكلاته اليومية عن طريق التخيّل والتفكير مما يساعد على نموّه مسلحاً بالتجارب والخبرات في بيئة خصبة تُحفز طاقات الخيال.
حكايات الجدّات وعالم التصورات:
إن إصغاء الطفل لحكايات الكبار المستمدة من الماضي البعيد، المَروِيّة من قبل الجدّة، تجعل خياله ونشاطه الذهني يفوق حدود الزمن والمكان، ويرى علماء النفس أهمية أن يستمع الطفل إلى القصص الخرافية والحكايات والأساطير الشعبية لأنها تحقق حاجة نفسية لديه فتشبِعُ خياله، وتغمره بالدفء واللذة التي يجدها عندما يتحوّل بنفسه إلى مشاركٍ ومنتجٍ موازٍ للأحداث والوقائع فيتخيل الشخصيات وأفعالها فيخوض تجربة خيالية ممتعة حيث يكتسب مهارات في التركيز لما تسكبه الجدة في أذنيه من الأحداث المستحيلة البعيدة عن الواقع يتابع البطل الذي يواجه صراعاً بين الخير والشر، تُساعده مخلوقات غير بشرية، أو لديها قدرات خارقة وينتهي الصراع بتغلّب الخير على الشر، وقد أثبتت الدراسات أن الطفل الذي يتعرض للحكايات الخرافية يُصبح أكثر تنظيماً لأفكاره ويميل إلى التعبير وطرح الأسئلة ليرضي فضوله بصفاءِ الطفولة، وبواكير الحياة، فالحكاية التي تسردها الجدّة وما يُصاحبها من حركات إيمائية وتعبيرات في الوجه والصوت واليدين تعتمِدُها تؤدي دوراً في تشكيل وجدان الطفل، تُقدم له خبرات الحياة والعواطف الإنسانية ومواقف البشر، فيتأثر الطفل أيّما تأثّرٍ بالأحداث، فيكتسبُ القدرة على الصبر في متابعة الحكاية حتى النهاية، فتتحفز حواسه على النشاط، وتُثير فيه حب الاستطلاع والرغبة في الاستمتاع من خلال ما تقدمه من القيم والسلوكيات والاتجاهات التي كثيراً ما يتوحّد معها الطفل، فيتفاعل مع الأحداث، وهذا يُساعده على أن يتقمّص شخصية البطل الذي أحبه، من خلال استماعه المُرهف فيُنشئ صوراً تبقى ماثلة في ذهنه ويحوّل أحداث الحكاية وشخصياتها ورموزها ويبنيها في خياله بما يتوافق مع حاجاته النفسية والوجدانية، تاركاً العنان لخياله ولمخيلتِه أن تُركّب الصورة وتخرجها كما تشاء، مما يُساعد على اكتساب العديد من المهارات الاجتماعية والعاطفية التي تمكنه من ملامسة أرض الواقع والوعي بمشاعره وانفعالاته وتوظيفها على نحو صحيح، وبالتالي التفاعل مع الآخرين وفهم مشاعرهم واحترامها، بطريقةٍ تثير في نفسه الشعور بالمتعةِ والسعادة والطمأنينة، وهكذا فإن من أهداف حكايات الجدات الإمتاع والتسلية بما فيها من الخيال وطريقة السرد التي تعمل على دعم الثقة المتبادلة بين الطفل والكبار وتنمية العلاقات الاجتماعية الإيجابية لأن الطفل يحتاج إلى دفئ الجو العائلي المفعم بالتواصل وتبادل الأحاديث والحوار لمساعدته على فهم وتفسير ما يصعب عليه من الأمور الغامضة، لأن انصراف الآباء والأُمهات إلى العمل حرم الأطفال من العلاقات الأسرية الحميمة، ولا عجب أن يُدمن هؤلاء الصغار على مشاهدة الحكايات المصورة الجاهزة التي تصيب نشاط التخيّل لديهم بالخمول والارتخاء أمام الشاشة الصغيرة لساعات طويلة والتي تولّد لديهم حالات من الإشباع في واقع مُشوَّشٍ، لحاجتهم إلى الحوار الدافئ الذي ينظم أفكارهم، ويجعلهم أكثر فاعلية وأملاً وطموحاً في الحياة، تدفعهم طاقاتهم الكامنة إلى النفاذ بوجدانهم على عالم العجائب والسحر والجمال وهو ما يُعزّز لديهم شعوراً بمزيد الرغبة في التحليق في عالم الخيال الممتع مع حكايات الجدّةِ التي تنقلهم إلى عوالم تُساعدهم فيما بعد على الإبداع والابتكار.
الخيال العلمي والطفل:
يحتاج الطفل إلى من يستمع إليه، لأن الإصغاء لما يقوله من قبل الكبار سيقوّي رغبته في المشاركة كما أنه من الضروري توفير الفُرص الحقيقية كي يمارس الملاحظة، لأنه يستمتع بالمراقبة والتساؤل من خلال اصطحابه إلى الحدائق لرؤية الأشجار والأزهار والطيور، إلى حديقة الحيوان، رحلات ميدانية ليُشبع فضوله المعرفي، فيُشجعه على الاستكشاف باستخدام حواسه ليتوصل بنفسه إلى المفاهيم العلمية، مما يُساعده على بناء مهارات الذاكرة البصرية، بتمييزه الألوان وتسميتها في الطبيعة وهذا ما يؤدي إلى زيادة العلم والاستمتاع والشغف بالعالم الذي يعيش فيه الطفل، صُور جمالية تلتقطها ذاكرته يتفاعل فيها مع ملاحظاته الدقيقة أثناء قيامة بزراعة البذور ومراقبةِ مراحل نموّها وهذا ما يوفر له فرصاً للاكتشاف ويشجعه على التفاعل مع البيئة من خلال أسئلته عن الطقس والظواهر الطبيعية والتجارب العلمية البسيطة التي تجعله قادراً على القيام باستنتاجاتٍ ذاتية، جوهَرُ اكتساب المعرفة، والدافع لبروز طاقاته الكامنة، وتحقيق طموحاته، نظراً لما يمتلكه من استعدادات فطرية وقدرات أدائية، وسعة أُفقٍ وخيال خَصبٍ يمكّنه من الإسهام الفعّال بالأفكار الجديدة ف يحل المشكلات المختلفة التي تواجه المجتمع فيوفّر نبعاً دفاقاً من الموارد البشرية القادرة على العطاء والتحدّي، بالإبداع والإنجاز، والاختراع، والاكتشاف، بتفكيره وأحلامه التي تطير بقدرته على جناح الخيال، فتدفعه إلى مستوى الفعل الإبداعي الخلاّق. لأنه يرى الأشياء كما يتخيلها ويريدها ويتوقعها هو، على طريقته.
لقد كان الحلم لرحلةِ الإنسان إلى القمر لا يعدو أن يكون خيالاً، ومحاولات عباس بن فرناس تقليد الطيور أمراً مستحيلاً، ولكنه تحقق فيما بعد، فجاء مطابقاً للتصورات إلى حدٍّ مُذهل.
فطفل اليوم أصبح قادراً على فهم كل ما يحيط به بفضل وسائل الإعلام، وما تبثه المحطات الفضائية من برامج علمية جعلته يكبر قبل الأوان، لأنه يشارك من هم أكبر منه في متابعة البرامج والأفلام، هذا الطفل المولع بكل استكشافٍ جديد، الطامح إلى غدٍ ومستقبل مشرقٍ لرغبته الأكيدة الجامحة في الاطلاع والتعلّم الذاتي، وتعطشه إلى الانفتاح على العالم بخياله الخصب ثم ممارسته الفعلية للتجارب العلمية الممتعة على أرض الواقع بنشاطه ولعبه الحُر التلقائي في تناقضٍ مُنسجمٍ بين الخيال والواقع بسبب التأثير القوي والمتواصل للخبرات البصرية التي يتلقاها من خلال أفلام الخيال العلمي، والتي تُصوّر كائنات معتدية شريرة، تأتي من عالم الفضاء، فالطفل الذي لا يبحث عن الحقيقة، يبقى سائراً في الأوهام، ولا يستطيع أن يُميّز بين الخيال والواقع، لهذا نجده يعاني من التوتر والخوف والقلق، أما الطفل الذي لا يُعاني من صعوبات نفسية كبيرة، فإنه يستطيع تدريجياً أن يُميّز بين ما هو حقيقي ووهمي لقدرته على التخيّل والتصوّر رغم قناعته بأنها كائنات ليست حقيقية فإنه لا يخافهم دون تفسير علمي مقبول، ومع ذلك فإنه يرتاح للحكايات الخرافية التي تنطوي عادة على المعجزات والخوارق لأنها تُشبِعُ لديه ما لا يستطيع تحقيقه في الواقع، كما وأن لها أهميتها في توسيع خياله، وتنمية مداركه، خاصة وأنه بدون هذا الخيال، يصعب أن يكون هناك أي إنجازٍ أو تقدّمٍ أو تطور، بسبب ضعف تكوين الصور الرمزية.
تنمية خيال الطفل:
يحتاجُ الطفل إلى إخضاع قدراته التخيليّة لتعهُّدٍ خاص وتدريب متواصل عن طريق تربية خياله بتوفير ألعاب التصنيف والبناء، وهي تساعده في التحليل وتحديد العناصر الأساسية المكونة للبناء المطلوب، ألعابٌ هادئة تتطلب التركيز والتفكير والملاحظة، مكعبات بألوان وأحجام وأشكال يقوم الطفل باعتماده على خياله وتفكيره المنطقي وذوقه وذاكرته في البناء، ثم فكّه وإعادة بنائه من جديد، وهذا ما يؤدي إلى تنشيط خياله واستعداداته في التعامل مع العناصر الموجودة أمامه لإبداع شكل آخر جديد، وكذلك الحال في ألعاب (الميكانو) للمهندسِ الصغير، يصنع بنفسه الطائرة والسيارة، وطاحونة الهواء إلى غيرها من الأشياء التي تربطه بالواقع وتنمي خياله، فهي المدخل الفعّال للإبداع، ولا إبداع بدون هذا الخيال، لهذا فإن على الأهل الاهتمام بالألعاب التركيبية لأنها تعتمد على خيال الطفل في تصميم الأشكال، وتوفير أدوات اللعب التي تستثير التجريب والاكتشاف وإعطائه الوقت المناسب حتى يتمكن من اللعب الحر بتوجيهه إلى الأنشطة الابتكارية.
الإصغاء للطفل:
إن تحدّث الطفل مع من حوله أو مع ألعابه مثيرٌ للاهتمام، نشاطٌ يُعبّر فيه عن طريقته في التفكير والتدليل ويعبّر عن نفسه ومشاعره ودوافعه ومشكلاته وآماله وأحلامه وعلى الأهل الإصغاء لما يقوله، ومساعدته في البوح والكشف عن مخبوءات نفسه، وذلك عن طريق الحكايات الهادفة، التي تُثير لديه الرغبة في السؤال، ثم إتاحة الفرصة له بإعادةِ سردها كوسيلةٍ للتعبير اللغوي وهذا ما يؤدي إلى إعادة التوازن النفسي وتفريغ التوترات المختلفة، بعد مشاهدته أو سماعه القصص الخيالية والخرافية المخيفة كالبطل الذي يصارع الوحش ليؤكد تفوقه على الشر، والذي يلاحقه في أحلامه.
إن إتاحة الفرصة للطفل بإطلاق خياله يجعله يحكي قصصاً مبتكرة جديدة من نسج خياله، حين يجد من يهتم بسماع ما يقوله، ويشاركه برأيه، وهذا ما يرفع من معنوياته.
التعبير الفنّي الحُر للطفل:
الرسم وسيلة أخرى للتعبير، كاللعب واللُغة، يستطيع الطفل أن يرسم من مخيلته القصص التي يسمعُها، بواسطة الأقلام الملونة أو الفرشاة والألوان السائلة، فهي من أحب الأشياء إليه، وهي وسيلة يمارس فيها الطفل أنشطته الخيالية لأنه عندما يرسم لا يلتزم بالواقع لأنه خيالي في رسومه، يحاول أن يُنشئ صوراً من إبداعه الخاص، فهو يحتاج إلى فهم مشاعره حين يجد صعوبة في الحديث عن عواطفه والبيئة المحيطة به، ما يُسعده وما يضايقه أو يؤلمه في مواقف تصادفه في الأسرة أو في الروضة لأنه يفتقر إلى الشجاعة الكافية للتعبير عن معاناته، كالغيرةِ من ولادة أخٍ جديد له، أو غيرها من المضايقات، فردود فعله إزاء التوتر أو شعوره بالإحباط يجعله يلجأ إلى اختيار النشاط الذي سيمارسه للتعبير عن نفسه، وبالتالي فهم الآخرين لمشاعره من خلال ما يرسمه، وعلى الأهل فهم مخاوف طفلهم خاصة الخوف من الظلام وهو سلوك طبيعي له بسبب تركيزه على الخيالات التي يتصورها في الغرفةِ المُعتِمة، شطحات الخيال، وتأثير قصص الأشباح تجعله يستكين لمثل تلك الأوهام السقيمة، لأنه لا يستطيع أن يفصل بين الحقيقةِ والخيال ولكن كُلما نمت قدراته العقلية يصبح الطفل أكثر قرباً إلى فهم الحقائق، ويتضاءل النشاط التخيلي ليُحقق التوازن بين الخيال والواقع، خاصة حين يقوم بالرسم كما يرى الأشياء بتصوّره الذاتي بطريقةٍ تلقائية إذا ما هيأنا له الظروف الملائمة ومنحناهُ الفرص للتعبير عن نفسه، وفق استعداداته ودوافعه، عَبر ممارسته الأنشطة التي تحتاج إلى التأمل، خاصة حين يرسم ما يتخيله من أشكال بتأمله للغيوم، أو عندما يلعب بالطين أو المعجون فيُشكّل شخصيات محبَبة إليه كما يراها هو فنجده يمارس نشاطه الخيالي على أوسع نطاق، وإذا فقد هذا التأمل خسر تدريب خياله.
حماية ذوق الطفل:
إنّ إحساس الطفل بالجمال لا ينفصل عن قدرته على التخيّل، وكلما تربّت ملكة الخيال عنده، زاد تمكنه من الإحساس بأبعاد الجمال في الحياة، يلتقط الصور الجميلة أو حتى القبيحة التي تبقى في مخيلته، وقد استطاعت أفلام الرسوم المتحركة أن تجتذب الصغار بما تحتوي من عوالم سحرية تفيضُ بالجمال وتأخذهم إلى عالم الخيال تُثير اهتمامهم وتقدم لهم التسلية والخيال، وكذلك البرامج الموجهة إليهم والتي تعتمد على الصور الجميلة بألوانها التي تزيد من قوة تأثيرها، وتجمع بين الكلمةِ المسموعة والحركة والإيقاع.. لكنّ بعض أفلام الخيال العلمي بشطحات خيال من يُؤلّفها ويضع شخصياتها الغريبة المخيفة تمثّل القُبحَ كلّ القُبح، كائنات شريرة معتدية تأتي من عالم الفضاء ووحوش خرافية مرعبة تشوّه خيال الصغار وتُفسد ذوقهم مع مرور الوقت، أفلام مستوردة تنقصها الموضوعية واللمسات الواقعية، تُسيءُ لعقول الناشئة بما تطرحه من أفكار ساذجة ومدمّرة للمُثل والمبادئ والأذواق.
الخاتمــة:
ما أحوجنا اليوم إلى التواصل الكافي بين الأجهزة الإعلامية، والعناصر الموهوبة من الكُتّاب والمؤلفين من أجل إعادة بناء الذوق والوعي المفقود في مشاكل الأطفال والمساعدة في حلّها واجتيازها بشكل سليم، والمربّون مُطالبون باستغلال وسائل الإعلام لخلق أنماطٍ جديدة من التعلّم الذاتي والبرامج ذات الأهداف البناءة، لتوفير الحماية والاطمئنان لفلذات أكبادنا والعمل على تنمية ميولهم ورغباتهم وهواياتهم وصقلها، والاهتمام بقدراتهم الكامنةِ التي تحمل في طياتها رهاناً على المستقبل، من أجل خدمة المجتمع، والعمل على ازدهاره وتقدمه ورُقيّه.
المصدر : الباحثون العدد 74+75 تشرين2 – كانون1 2013