لو كان الفقر رجلاً لقتلته. تلك هي العبارة التي كثيراً ما تخطر على البال. وفي سياق البحث عن قائل هذه العبارة، ثمة من يقول إن قائلها هو عمر بن الخطاب، وثمة من يقول إن قائلها هو علي بن طالب رضي الله عنهما.
مهما يكن، فإن الفقر علة إذا انتشرت في المجتمع، أي مجتمع على سطح الكون، أرهقته وربما صارت سبباً في تشتت أبنائه بين مهجَّر ومغترب وباحث عن لقمة عيش وسوى ذلك من مظاهر ترافق حالة الفقر وتؤثر في شخصيّة من تصيبه.
المهم، ليست الوقفة هنا مع الفقر بحدّ ذاته، وإنما السؤال لو لم يكن الفقر حالة اجتماعية على المستوى العالمي لا على مستوى هذا الإقليم أو ذاك فحسب، تراه هل كان العالم سمع بأسماء خلّدها التاريخ لأن أصحابها فقط كانوا فقراء؟ هل كان العالم سمع بـ "شارل ديكنز" أعظم كتاب الرواية الإنكليز، على سبيل المثال، وقرأ روايته الموسومة بعنوان "قصة مدينتين"، أو رواية "أوليفر تويست" وسواهما من روايات تُرجمت إلى لغات العالم كافة بما فيها اللغة العربية؟
منذ نعومة أظفاره واجه ديكنز عالماً مليئاً بالمشاكل والأزمات، ولأن والده لم يكن يحسن التصرف أمام أعباء الحياة غرق في دوامة من المشاكل والديون التي أودت به أخيراً إلى السجن، وهكذا تحتّم على ديكنز أن يواجه حياة الفقر وحيداً. وكانت البداية أن عمل مغنياً في الشوارع مقابل بعض المبالغ الزهيدة التي لم تكن كافية لسد متطلباته الشخصية مما اضطره للعمل في أحد معامل الصباغة وفي العشرين من عمره عمل كاتب ضبط في البرلمان نهاراً وكاتب اسكيتشات روائية عن الحياة اللندنية ليلاً وكان ينشرها باسم مستعار..
ولو لم يكن الفقر من رفاق شارلي شابلن هل كان العالم اطلع على حياة المشردين أمثاله قبل أن يحقق شهرة لا تزال ماثلة بيننا إلى اليوم؟ لقد عاش شارلي شابلن حياة تحطم القلوب على رأي من كتبوا عنه قبل أن يصبح أحد أعلام المشاهير على سطح الكون. في البداية كان يُعرّف بصفة الصعلوك الصغير. وبسبب من فقره وانعدام عناصر العيش كما يعيش أترابه، عاش وحيداً وكثيراً ما اضطر للنوم في الخارج من دون أي ملجأ يقيه البرد في أيام الشتاء، ومع هذا واجه قدره بعناد إلى أن أتيحت له فرصة القيام بأول أدواره وكان دور"الصعلوك". وبطبيعة الحال لا يحتاج أحدنا إلى القول بأن شارلي شابلن، غدا مع مرور الوقت، ومن خلال أدواره اللاحقة، غدا أنموذجاً للرجل المسكين، بل والمغفل ظاهرياً إلى حد ما حاول كثيرون تقليده في مشيته الشهيرة وقفشاته التي لازمته في معظم الأدوار التي قام بها برفقة البعض من الممثلين أمثال ماري بيكفورد وفايربانكس ودو غريفيت، هذا فضلاً عن ألحانه في موسيقى أفلامه.
شارلي شابلن، فقْره دفعه إلى تحدي ذاته، فصار واحداً من أعلام عشرات العقود الزمنية الماضية وسيبقى كذلك إلى مدى عقود غير محدودة في اعتقادنا. وخلال سنوات عطائه الفني وقف ضد كل ما هو سيء ومرير في العالم كما استطاع أن يشيع البهجة والضحك الذي يدفع إلى التأمل بحياة أفضل خالية من البؤس والتعاسة اللتين اصطبغت بهما حياته منذ الصغر. ومع أن الحكومة الأمريكية رفضت منحه تأشيرة دخول إلى أراضيها بسبب سلوكه كما رفضت منحة الجنسية بالرغم من أنه أقام فترة طويلة في الولايات المتحدة، فإن حضوره في الوسط الأمريكي كان في مقدمة حضور باقي فنانيها.
وماذا عن أمثال هؤلاء الفقراء الذين لولاهم لما استمتع القراء أو هواة الموسيقى والمسرح وسوى ذلك بما شاهدوه أو سمعوه أو قرؤوه؟ ماذا عن هواة الموسيقى الذين أسرتهم ألحان الموسيقار الروسي العظيم تشايكوفسكي، على سبيل المثال، الموسيقار الذي تفتّحت عيناه في سنة 1840 على بيئته في قرية فوتكينسك الروسية الصغيرة، في أسرة فقيرة؟ هل ثمة من لم تأسره موسيقى تشايكوفسكي الكلاسيكية والذي اعتبر من أعظم وأشهر الموسيقيين في العصر الرومانسي؟ من لم تأسره الباليهات الشهيرة التي ألّفها ونالت إعجاب ملايين الناس في أرجاء مختلفة من المعمورة وبينها بحيرة البجع وكسارة البندق وافتتاحية 1812، هذا فضلاً عن أوبرا يفجيني أونيجين، وفيلم الأميرة النائمة؟ إنه وإن عاني في بداية شبابه كمّاً من القلق بسبب ضيق ذات يده لكنه استطاع أن يتخطى هذا العائق ليصير فيما بعد أحد مشاهير الأعلام لا في زمانه فحسب بل في كل الأزمنة التي حتى يومنا هذا.
كذلك الرسام الأشهر في عصره ولا يزال رفائيل الأكثر حظاً من أترابه. كانت المدينة التي ولد فيها أوربينو وهي المدينة التي كان مقدراً لها أن تعيش بعيداً عن الحضارة والرفاهية في زمانها في أحد الأقاليم الفقيرة في إيطاليا. بيد أن رفائيل استطاع بحكم تأثره بوالده الذي كان مصوراً وشاعراً متواضعاً، استطاع أن يتخطى ظروف الحاجة وطرح نفسه كأحد عظماء الرسامين إلى حد أن الفنانين صُنِّفوا في زمانه على النحو التالي "فنانو ما قبل رفائيل وفنانو ما بعد رفائيل". وبسبب من معاناته منذ أن كان في عمر المراهقة إلى أن صار واحداً من أعلام عصره، كانت وفاته مبكرة في سنة 1520عن عمر يناهز 37 عاماً. إننا بالتأكيد لو لم يولد رفائيل، لافتقدت البشرية لوحات لا تزال خالدة في سجلاتها وبينها، على سبيل المثال لا الحصر، الجميلات الثلاث، انتصار الدين، مدرسة أثينا، العذراء، مادونا، القديس مار جرجس والوحش، وسوى ذلك. هذا فضلاً عن تصميماته لكنيسة القديس بطرس وقصر باندوليفني في فلورنسا وغيرهما. وكما ولد رفائيل في أسرة لا تملك سوى ما يسد حاجاتها المعيشية البسيطة، توفي ويده فارغة، فيما حياته كانت الأغنى مما يتصوره إنسان في عصرنا الحالي.
وفي السياق المتصل من الطبيعي أن يتوقف الباحث عند الرسام الهولندي الشهير فان كوخ الذي يعتبر من أشهر الفنانين على مدى قرون كما أن لوحاته تعتبر من أغلى اللوحات في العالم. ومما يذكر عنه إنه سنة وفاته في السابعة والثلاثين من عمره كان يعاني من تبعات حالة نفسية طارئة لم يتم توصيفها من قبل معاصريه، هذا فضلاً عما كان يعانيه نتيجة الفقر الشديد إلى درجة أنه كان يقوم بحرق بعض لوحاته للتدفئة في فصل الشتاء. وخلال حياته لم يتمكن من بيع سوى لوحة واحدة هي لوحة "الكرم الأحمر" مقابل 400 فرنك سويسري بالرغم من أنه ترك أكثر من 3000 لوحة وعمل فني.
لو لم يكن فان كوخ بين أحياء البشر لما استمتع هواة الفن بلوحات كلوحة آكلي البطاطا، عباد الشمس، الليلة المليئة بالنجوم، وسوى ذلك من لوحات خالدة على مدى سنوات التاريخ الآتية. ورغم غيابه عن دنياه في سنة 1890 بعد سنين من العذاب والمعاناة نتيجة مرضه النفسي بطلق ناري من مسدس يرجح أنه استخدمه لوضع حد لما كان يعاني منه، فإن تأثيره في الوسط الفني لا يزال حاضراً إلى يومنا هذا.
وفي عالم الموسيقى، ترانا كنا استمتعنا بأوبرا عايدة، لو لم يكن جوزيبي فيردي بين الأحياء من أبناء الجنس البشري؟ إنه على غرار أمثاله من مشاهير الفن والعلم والأدب لم تكن نشأته محاطة بمظاهر الغنى. كان من أسرة بسيطة لا تملك من مستلزمات الحياة سوى ما يسد الرمق ويفي بتأمين احتياجاتها الضرورية التي تغنيها عن طلب العون من الآخر. إن غنى العائلة جاءها مما اكتنز جوزيبي من مكونات جعلته مع مرور السنوات أحد المشاهير بين عظماء الموسيقى في العالم وعلى مدى كل الأيام. ولهذا الاعتبار يبقى اسم جوزيبي في مقدمة الأسماء التي اشتهر أصحابها بالغنى وكانوا من أثريا أزمنتهم ومع هذا يصعب علينا ذكرهم لغياب حضورهم في عصرنا الحالي وعدم وجود أي أثر لبصمتهم في تاريخ البشريّة.
إن قرية بارما في إيطاليا ستبقى تفخر بابنها الموسيقار الخالد جوزيبي فيردي الذي أعطاها من ذاته قيمة لا تقدر بثمن رغم كونها من القرى المتواضعة بين أترابها من قرى إيطاليا في زمانها.
وماذا أيضاً عن الفنان العظيم ليوناردو دافنشي، والمصور الشهير تيتيان، والمصور رينوار وعن آخرين شكل حضورهم في حياة البشريّة معلماً لا يمكن لدارس حياتهم إلا أن يؤمن بأن بقاء أسماء المواهب الخارقة في الحياة لم يكن يوماً رهن ما يملكون من أموال منقولة أو غير منقولة مهما كانت كبيرة؟ ماذا عن الذين تركوا للخلف من بعدهم عِلماً أم فناً أم أدباً وسوى ذلك مما يميّزهم عمّن كان دأبه في الحياة أن يحظى بعيش رغد وأن ينعم بلحظات مرح واكتفاء من ملذات ساعات يومه بعيداً عن انشغاله بتأمين لقمة عيشه أو عيش أفراد أسرته؟
إن الفنان العظيم ليوناردو دافنشي المولود في قرية فنسي الصغيرة في إيطاليا في عام 1452، يعدّ من عظماء المصورين في تاريخ البشريّة. تدل على عظمته لوحاته وتماثيله التي تحتفظ بشهرتها وبأهميتها التاريخية والثقافية حتى الساعة. ومن أكثر لوحاته شهرة لوحة موناليزا، لوحة تعميد السيد المسيح، لوحة البشارة، لوحة العشاء الأخير، لوحة سيدة الصخور، لوحة المريض، ولوحة الرجل الفيتروفي، وسوى ذلك من لوحات لا تزال تدهش الناظر إليها. وبقي أن نذكّر أن دافنشي يعد من أشهر فناني عصر النهضة الإيطاليين على الإطلاق. وفضلاً عن شهرته كرسام، هو مشهور أيضاً كنحات ومعماري وعالم وكان شغوفاً بطلب المعرفة التي وضعته في مصاف كبار المشاهير في تاريخ البشرية وكذلك يبقى على مدى القرون الآتية.
وحين تستوقفنا لوحة "شقيقتان في الشرفة" للرسام أوغست رينوار، نتذكر طفولته البائسة التي قضاها في قريته الكئيبة "ليموج" الفرنسية، وعمله صبياً لبائع الأواني الخزفية الصينية، إلى أن سنحت له فرصة الانتقال إلى العاصمة باريس حيث درس الرسم في مدرسة الفنون الجميلة، وسرعان ما قفز وسط دائرة الضوء وأصبح أحد فناني فرنسا الأفذاذ ومن أشهرهم ثراءً. من لوحاته التي تعدّ أنموذجاً لعبقرية الفنان لوحة الرسالة، ولوحة بعد ظهر يوم صيفي، ولوحة أصحاب السفينة، ولوحة والرقص في موغارتر، وسوى ذلك من لوحات لا تزال موضع اهتمام نقاد فن الرسم في العالم إلى يومنا هذا لروعتها. يوم ولد رينوار في سنة 1841 لم يكن أحد يتوقع أن يكون علامة فارقة لا في فرنسا فحسب بل في أرجاء العالم كافة.
في إطار هذه الوقفة السريعة مع عظماء كانوا فقراء بحكم الولادة في قرى بسيطة وفقيرة في آن، ويوم رحيلهم عن الدنيا كانوا الأغنياء بين من كانوا يمتلكون الأموال والقصور الفخمة ولم يتركوا بصمة في سجل التاريخ، في إطار هذه الوقفة نستطيع الجزم بأن الغنى ليس غنى ما يكتنز الإنسان من ثروة بمقدار ما يخلف لوحة أو كتاباً أو لحناً أو معزوفة قادرة على اختراق الزمن، إن صح التعبير، لتكون أمثولة للنجاح والخلود بين من يحترم الكلمة واللون واللحن.
هؤلاء الفقراء- الأغنياء هم اليوم كما سيبقون دائماً عنوان فخر لبلادهم التي أنجبتهم وكانوا رسلها إلى العالم، كما سيبقون دائماً مثالاً يحتذى لمن يعتقد بأن الفقر هو نهاية مسارهم على الدرب.
وبعد، ماذا عن رامبرانت وتيتيان وآخرين شكّلوا علامات فارقة في تاريخ البشرية وهم من مواليد قرى وبلدات متواضعة؟ في أحد أرياف هولندا ولد رامبرانت لأب يعمل طحّاناً. ولو لم يكن رامبرانت عازماً على تخطي هذه المهنة في كنف والده البسيط لبقيت سجلات التاريخ خالية من لوحة "حراس الليل". وفي سنة 1669 وافته المنية في مدينة أمستردام بعد عام واحد من وفاة ابنه الوحيد تيتوس وهو في ضائقة مادية جعلته يعلن إفلاسه وهو غارق في الديون.
وعلى هذا النحو يحدثنا التاريخ عن تيتيان، الذي ولد في قرية بيفي دي كادوري الإيطالية الوقعة في جبال الألب. يعدّ تيتيان من أشهر الرسامين الإيطاليين في القرن السادس عشر. وحين يعود أحدنا إلى لوحاته يلاحظ أن كبار القوم في البندقية، رجالاً ونساءً، كانوا قد تقاطروا على مرسمه لرسم صور شخصيّة لهم. ومن أشهر لوحاته في هذا المضمار لوحة شارل الخامس ملك إسبانيا فوق حصانه، السيدة الغجرية، تعميد السيد المسيح، اسكندر السادس، عبادة فينوس، يوحنا المعمدان، أطوار الإنسان الثلاثة، العذراء وهي تنوح على جسد المسيح. وكان قد بدأها كي توضع على قبره، ولكن المنيّة عاجلته في سنة 1576 فبقيت ناقصة.
هؤلاء العباقرة هم عنوان التحدي، تحدي الفقر، وتحدي الذات في آن. إنهم الدروس التي يغتني الإنسان من قراءة تفاصيلها في كل الأمكنة وفي كل الأزمنة.
المصدر : الباحثون العدد 76+77 شباط – أذار 2014