- تقديم:
على الرغم من كثرة الدراسات والندوات والأبحاث التي تناولت فكر عبد الرحمن الكواكبي وآراءه فإنها لم تتفق على مكانته وقيمة نتاجه، وإن ذهبت إلى إنه واحد من مفكري عصر النهضة، الذين تناولوا مسألة الاستبداد في كتابه الشهير (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد)، ونهوض الأمة في كتابه (أم القرى)، ومن ثم لم تجعله فيلسوفاً لأنه - كما يعتقد أصحابها - لم يحلل جوهر بعض الأفكار للوصول إلى رؤى فلسفية؛ ولم يقم أيّ منها على أساس التقاطع بينها وبين الفلاسفة الآخرين...
ولعل القراءة المتأنية لما قدَّمه الكواكبي، ولما قيل فيه شرقاً وغرباً تثبت أنه ضرب بسهم كبير في طرح عدد من الأفكار المستندة إلى العقل والمنطق في عرض عدد من الآراء، فضلاً عن تقديمه لجملة من الأفكار التي مازالت صالحة لمعالجة بعض قضايانا المعاصرة، بوصف هذه الأفكار مدار إصلاح المجتمع العربي والنهوض به، ومن ثم غدت مركز استحسان المعنيين بها، وتبني جزء منها لعلاج عدد من الأزمات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تعاني منها أمتنا. ومن ثم نحن أحوج إلى مثل هذه الرؤى والأفكار في حياتنا التي أخذت رياح العولمة السياسية تعصف بها منذ مطلع القرن الحادي والعشرين ابتداء بأحداث الحادي عشر من أيلول (2001م) وانتهاء بالنتائج التي أحدثها ما يسمى (الربيع العربي). فالآثار السلبية الكبيرة لكلتيهما لم تعد خافية على أحد، ما يفرض علينا القيام بمراجعة ذاتية وموضوعية لكل ما يجري في واقعنا، متخذين من مفكرينا وفلاسفتنا قدوة لنا؛ ولعل اختيار الكواكبي أنموذجاً لذلك يقرّبنا من الهدف المنشود لنا.
شيء من سيرة الكواكبي:
إذا أردنا أن نستجلي شيئاً من فلسفة الكواكبي علينا أن نتعرف أبرز ما جاء في سيرته؛ فهو عبد الرحمن بن السيد أحمد بهائي بن محمد بن مسعود الكواكبي؛ وكان أبوه قد هاجر من بلاد فارس إلى حلب، وتزوج سيدة حلبية؛ وصارت له مكانة عظيمة بين الناس؛ فكان خطيباً، ومديراً ومدرساً في المدرسة الكواكبية... وتزوج السيد أحمد غير زوجة، كانت السيدة عفيفة بنت مسعود آل النقيب ابنة مفتي أنطاكية واحدة من زوجاته وهي أم عبد الرحمن.. وتوفيت عنه وهو ابن ست سنوات فاحتضنته خالته بمدينة أنطاكية لمدة ثلاث سنوات، وكان قد ولد في حلب يوم (23 شوال من عام1271هـ/1854م) وقيل (1265هـ/1849م) وتلقى علومه في المدرسة الكواكبية بحلب - ثم عمل في الصحافة وبرع فيها، إذ كان محرراً في جريدة (الفرات) الحلبية، ثم لم يلبث أن أصدر جريدة (الشهباء) في حلب عام (1877م)، وتعد أول صحيفة تصدر باللغة العربية والتركية، وكان قد سجلها باسم زميله السيد هاشم العطار فضَمِن موافقة السلطة العثمانية/ ولاية حلب... وسرعان ما أغلقها الوالي العثماني (كامل باشا) لأنه لم يحتمل آراءه الجريئة التي أغضبته؛ وأغضبت سلطته.. بيد أنه تابع كتابة مقالاته الناقدة في صحيفة أخرى أنشأها زميله عام (1879م) وسمّاها (الاعتدال)...
ولما ضاقت به وسائل الصحافة انكب على دراسة الحقوق؛ فحاز فيها براعة جعلته مشهوراً في مهنة المحاماة ولجانها المتصلة بها، والتي دخل في عدد منها. وذلك كله لم يجعله يتخلى عن الكتابة ضد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني (1876 - 1908م) الذي جَسَّد لديه مختلف صنوف الاستبداد السياسي.. ولهذا تعرض للسجن، وصودرت أمواله ما أدى به إلى العمل بالتجارة، طوّف منذ سنة (1897م) في جزيرة العرب وشرق إفريقيا والهند والشرق الأقصى.. ثم استقرّ بمصر وفيها نهضت مقالاته بتحرير عقول أبناء الأمة وصار له تلاميذ كثيرون يؤمنون بالخلافة العربية التي دعا إليها، ومن ثم رجع إلى حلب (1318هـ/1900م) فمكث فيها قليلاً، عاد بعدها إلى مصر، نتيجة الخشية على حياته.
وقد ألف كتابين؛ يعرض فيهما لكل ما انتهى إليه، وهما:
1 - طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد: خصصه لطبائع الاستبداد وكشف مساوئه وكراهيته له.
2 - أم القرى: تحدث فيه عن نهوض الأمة وحارب المعتقدات الفاسدة والتقاليد البالية؛ وركز على انحلال الأخلاق في الحياة والعقائد؛ وكشف أسباب انحدار الأمة وتخلفها. وفيه دعا أبناء الأمة إلى تناسى خلافاتها وإلى استقلالها عن الدولة العثمانية، وإجراء إصلاح إداري، وإعداد الشعب العربي لقيادة الأمة الإسلامية. علماً أنه ضمَّنه قرارات مؤتمر النهضة الإسلامية المنعقد في موسم الحج (1316هـ/1899م).، ولا شيء أدل على ذلك من قوله في إحدى صفحات كتابه هذا: "فلمثل هذا الحال لا غرو أن تسأم الأمة حياتها فيستولي عليها الفتور، وقد كرت القرون وتوالت البطون ونحن عليها عاكفون، فتأصّل فينا فَقْد الآمال وترك الأعمال، والبعد عن الجدّ، والارتياح إلى الكسل والهزل؛ والانغماس في اللهو... إلى أن صرنا ننفر من كل الماديات والجديات حتى لا نطيق مطالعة الكتب النافعة ولا الإصغاء إلى النصيحة الواضحة... وصرنا نغضب ونحقد على من يذكرنا بالواجبات التي تقتضيها الحياة الطيبة؛ لعجزنا عن القيام بها عجزاً واقعياً لا طبيعياً".
ومن ثم فهذا الكتاب يعبر عن آراء الكواكبي في إصلاح الأمة وفق عقد مؤتمر تخيله لبثها.
وكلاهما مرتبط بالآخر وفق جدلية الحياة المتمثلة بالهدم والبناء.
3 - وذكر أن له مخطوطين ولكنهما فقدا، وهما:
1 - العظمة لله.
2 - صحائف قريش.
وجملة أوراق مكتوبة، ومذكرات يومية، وكلها فقدت حين مقتله.
وكان قد دُسَّ له السم في فنجان قهوة فمات بالقاهرة مساء الخميس؛ وشيّع بموكب مهيب والقلوب تتفطر عليه يوم الجمعة (6/ربيع الأول1320هـ/ 13/6/1902م). ودفن في مقبرة باب الوزير بجبل المقطم...
وهكذا كانت مسيرة حياته انتماء أصيلاً لوطنه وأمته؛ وغيرة عارمة في المنافحة عنهما وعن تقدمهما، ومواجهة مع الموت لا يخاف منه؛ ولا يخاف أدواته، عاش حميداً ومات حميداً؛ فكان في حياته وموته مثلاً للاقتداء، وهو الذي أصَرَّ على مبادئه والدعوة إلى الثورة على ظلم الدولة العثمانية التي سامت العرب كل أنواع الظلم والقهر، وارتكبت كل موبقات الإفقار والإفساد في عهد السلطان عبد الحميد ولم ينقص من قيمة ذلك ما جرى من خلاف بينه وبين أبو الهدى الصيادي وموقف الدولة العثمانية منهما. رحل الكواكبي ورثاه الشعراء، وقرّظه المفكرون والأدباء، ونُقش على شاهدة قبره بيتا الشاعر حافظ إبراهيم، علماً أنها وضعت - خطأ- على القبر الموجود على يمين قبره بعد الترميم كما ذكر حفيده سَعْد، وهما:
هنا رجل الدنيا، هنا مهبط التقى
هنا خير مظلوم، هنا خير كاتب
قفوا واقرؤوا أم الكتاب وسلّموا
عليه فهذا القبر قَبْر الكواكبي
وإذا كانت كتاباته أدت إلى اغتياله كما قتل بعضَ الشعراء شعرُهم، فإن مقبرته تتعرض اليوم للاندثار بعد أن سُرقت شاهدة القبر ثم سورها، وأقيم إلى جوارها مقهى أخذ يأكلها شيئاً فشيئاً، ما يستدعي من الحكومة المصرية العمل على صيانتها، بعد أن عجز حفيداه سَعْد وعبد الرحمن وابنته ضحى عن إقناعها بنقل رفاته إلى مسقط رأسه بحلب.
ولذلك اخترنا كتابه الشهير (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد)، وهو كتاب يعرض لفلسفته في الفكر السياسي والاجتماعي في تمهيد وتسعة أبحاث (ما هو الاستبداد؛ الاستبداد والدين؛ الاستبداد والعلم؛ الاستبداد والمجد؛ الاستبداد والمال؛ الاستبداد والأخلاق؛ الاستبداد والتربية؛ الاستبداد والترقي؛ الاستبداد والتخلص منه).
ومن ثم فهو في هذه الأبحاث أو الأقسام يضع يده على الاستبداد وكل ما يتصل به من أسباب وآثار، ونتائج في المجتمع والفكر والثقافة حاضراً ومستقبلاً... ولا ينسى التركيز على البطانة الفاسدة للمستبد؛ فهي تجهد في التمسك بوجودها وتدافع عنه بكل قوتها ولو جعلت الوطن والمجتمع توابع لها... ومن ثم فلم يعد هناك مكان للعدالة الاجتماعية والاقتصادية، وانتفت كل قيم الحق والمساواة والتنافس الشريف بين الناس على أساس الكفاءة والنزاهة والاجتهاد.
وفيه يرى أن الاستبداد السياسي للحكومة التسلطية المطلقة (الأتوقراطية) سبب الجهل والتخلف والانحطاط والعبودية والظلم والاستلاب في شؤون الحياة كلها فآثاره الناجمة عنه تؤكد أنه شرّ ماحق بالإنسان والمجتمع والوطن.
- قراءة في نتاج الكواكبي وفكره:
إن الكشف الواعي عن محتوى نتاج الكواكبي، وطبيعة ما انتهت إليه حياته يؤكدان أن المرجعية الفكرية الواسعة، والأحداث المتلاطمة التي تمر بها الأمة في عهد الكواكبي كانتا وراء ذلك. ولعل هذا كله يدفعنا إلى التساؤل حول مرجعية آراء الكواكبي ومواقفه.. وليست الإجابة عن ذلك بعسيرة؛ فمدينة حلب تتصف بعراقة أصيلة، وثقافة متوارثة امتزجت بغيرها من ثقافات الأمم والشعوب؛ ومن ثم انفتحت على فكر عصر النهضة قبل غيرها من المدن السورية والعربية؛ فضلاً عن أنها تعج بالقادة والساسة والمفكرين والشعراء واللغويين منذ القديم.. وهذا كله ترك أثره في الكواكبي ثقافة وسلوكاً؛ والإنسان ابن بيئته الزمانية والمكانية والثقافية.. فكيف إذا كان يحمل همة عالية؛ وطموحاً عظيماً؛ وتمرداً ثورياً ضد الظلم والقمع؛ وكراهية للجهل والفقر والتخلف، ولاسيما أنه انفتح على الثقافة الغربية- كما توصل إليه العقاد؟!!!
فالكواكبي تأثر بكتاب الفيلسوف الإيطالي (فتوريو ألفييري) وعنوانه (مقالات في الاستبداد- صدر عام 1777م).. وعالج من خلال ثقافته جملة من الموضوعات والتناقضات التي عاشها، ولاسيما ما يتعلق بالاستبداد إبان حكم عبد الحميد الثاني، والذي سام ولاتُه العربَ ظلماً، مثل والي الشام جمال باشا السّفّاح.. ومن ثم فنتاجه أوضح شدة الآلام التي عاناها في واقع ظالم وقاهر، أصَّلته تربية قاصرة وعاجزة أو منحرفة.. وبناء عليه فإننا نتساءل- ابتداءً- من المستفيد من قتله بهذه الطريقة البشعة؟ أليس ذلك المستبد القاهر الذي يخنقه هواء الحرية والعدل والمساواة؟ فالكواكبي دفع حياته ثمناً لدعوته إلى الحرية ولمنهجه الذي ارتآه في الإصلاح.
ثم أنه يمكننا أن نقف عند الأصول التي تقوم عليها آراء الكواكبي في صميم منهج فنومنولوجي تحليلي يعتمد مفهوم الظواهر ودلالة النصوص وقراءتها قراءة اجتماعية فكرية لنرى مدى قيمتها لحياتنا من أجل قيام نهضة عربية معاصرة والتركيز على مسألة الاستبداد؛ فما قتل الأمة كالاستبداد؛ أياً كان نوعه وقدمه وطبيعته ووظائفه وأسبابه وأدواته. فهو أصل أدواء الأمة العربية/الإسلامية؛ إذ ترك بصماته على كل شيء في الحياة وفق ما قاله الكواكبي نفسه: "الاستبداد أعظم بلاء لأنه وباء دائم بالفتن؛ وجَدْب مستمر بتعطيل الأعمال؛ وحريق متواصل بالسلب والغَصْب، وسيل جارف للعمران، وخوف يقطع القلوب، وظلام يعمي الأبصار، وألم لا يَفْتُر، وصائل لا يرحم؛ وقصة لا تنتهي".
وقد ركز الكواكبي على صفات الاستبداد الذي جعل أرواح الناس تنادي "القضاء القضاء والأرض تناجي ربها بكشف البلاء".
وفي ضوء ما بين أيدينا من نتاج هذا المفكر المبدع ندرك أن معالجته لعدد من المسائل الاجتماعية والفكرية والسياسية لا تقل أهمية ومكانة عن معالجة أرباب الفكر النهضوي في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين لأي واحدة منها، فضلاً عن أن مؤلفاتهم ومقالاتهم حفلت بمصطلحات وآراء وأفكار ما زالت هي هي لم تتغير حتى يومنا، منها:
1) الحرية والديمقراطية المؤصلة لديه على أساس مبدأ الشورى؛ وفصل الدين عن الدولة في قواعد التشريع. أما في القواعد العامة فلابد من التكامل، وفَقْد الإرادة و((الإرادة أم الأخلاق)) (طبائع الاستبداد 86)، وحرية الفكر والعدل والمساواة، في الحقوق الشعبية وفق الدستور ومعيار المواطنة الذي تحدث عنه في غير مكان ولاسيما حين توقف عند الخلفاء الراشدين وأولئك ((الخلفاء الذين عدلوا في الدنيا كعمر بن عبد العزيز والمهتدي العباسي ونور الدين الشهيد، هؤلاء الذين أنشؤوا حكومات قضت بالتساوي بينهم أنفسهم وبين فقراء الأمة في نعيم الحياة وشظفها، وأحدثوا في المسلمين عواطف أخوة وروابط هيئة اجتماعية اشتراكية)) (طبائع الاستبداد 34).
2) الجهل - التخلف - الفقر - الضعف والانحطاط - الذلة والمسكنة - المرض - انحدار القيم الأخلاقية. (انظر طبائع الاستبداد 85 - 93). وتعد هذه المصطلحات عتبات نصية لمبادئ تربوية خلقية تجدد الحياة والفكر وتحقق السعادة من خلال المحتوى الراقي الذي يؤسس لعملية النهوض والتقدم.
3) الفرد - الحكومة - الدولة - الوطن - الأمة - القومية - الهوية - العروبة.
فالأمة - مثلاً - تمثل مجموعة من أبناء الشعب "بينهم روابط دين أو جنس أو لغة، ووطن، وحقوق مشتركة، وجامعة سياسية اختيارية، لكل فرد حق إشهار رأيه فيها توفيقاً للقاعدة الإسلامية التي هي أسمى وأبلغ قاعدة سياسية وهي "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته". والحكومة هي "وكالة تقام بإرادة الأمة لأجل إدارة شؤونها المشتركة العمومية".
ولعل كل مفهوم مما أشرنا إليه يؤكد حقيقة أصل المنطلق الفكري الفلسفي للكواكبي في ضوء الكرامة الإنسانية العاملة على حفظ الوجود المميز بالمعرفة الراقية، والقادرة على حق الاختيار، وترسيخ الوعي بقيم الحق والخير والجمال...
وكان يعتمد في ذلك كله مبدأين أصيلين وهما:
1 - سَيْر الإصلاح الفكري والاجتماعي باتجاه يَقبل الناس فيه الأفكار الجديدة والاتجاهات الفلسفية المعاصرة من خلال التنوع والاختلاف والتباين والانفتاح على الغرب للمثاقفة مع الحفاظ على الأصالة والهوية.
فهو منفتح فكراً وعقلاً على كل ما يأتي من الغرب من دون استلاب وذوبان في ثقافته.. وهو القائل: "هذه أمم النمسا وأمريكا قد هداها العلم إلى طرائق شتى وأصول راسخة للاتحاد الوطني دون الديني، والوفاق الجنسي دون المذهبي، والارتباط السياسي دون الإداري، فما بالنا لا نفكر في أن نتبع إحدى تلك الطرائق أو شبهها؟!".
ولعل هذا النص يثبت أهمية فكر الكواكبي السابق والانفتاح على ثقافة الآخر بمنهج علمي موضوعي بعيد عن الهوى والعصبية والجهل...
2 - خَلْق قوة الوعي بالتراث ولاسيما اللغة العربية التي تكتسب خصوصية فريدة لغنى أنساقها المعرفية والأدبية والفنية و... وكونها لغة القرآن والواقع والحياة المستجدة وتجذير التربية الأخلاقية على أساس الاحترام المتبادل الذي يعزز كرامة الإنسان وحريته.
فإذا كان ((سبب الخلل النازل هو الجهل الشامل)) (أم القرى 11) فإن ((فقد التربية الدينية والأخلاقية)) يسبب التخلف والانحدار (أم القرى 161). ويعرّف التربية بقوله: ((التربية ملكة تحصل بالتعليم والتمرين والقدوة والاقتباس، فأهم أصولها وجود المربين)) (طبائع الاستبداد 102)، وهي عند هنري جولي ((مجموعة الجهود التي تهدف إلى أن تيسر للفرد الامتلاك الكامل لمختلف ملكاته وحُسْن استخدامها)) (التربية العامة 1/مقدمة ب - فاطمة الجيوشي).
فالكواكبي لا يقل شأناً عن أرباب الإصلاح والتنوير في عصر النهضة؛ إذ كان حريصاً على تشكيل الشخصية القومية على أسس ثقافية عربية منفتحة على الآخر، ومنطلقه في تحديثها فكرة التنوير والإصلاح في كل اتجاه. وهو ما وجدناه عند (ساطع الحصري 1882- 1968م وفرنسيس مراش 1836- 1874م وشبلي شميل 1850- 1917م ورشيد رضا 1865- 1835م - الأفغاني 1838- 1896م ومحمد عبده 1849- 1905م) وغيرهم.
وما زالت فلسفته مستمرة في حياتنا وشؤوننا كلها لإحداث الثورة المنشودة فيهما..
وبناء على ما تقدم نرى أنه لا يمكن للأمة برمتها عربية وإسلامية النهوض إلا بالتخلص من الاستبداد السياسي، ما يعني إشاعة الحرية والديمقراطية المؤسسة على مبدأ الشورى الذي فُقد إلى اليوم، وتبني منهج الانفتاح على الديمقراطية الغربية واعتماد العلم والالتزام بالقانون وفق ما يأتي:
1 - تنوير العقل بالعلم للتخلص من الجهل والتخلّف ونقله من العبودية إلى الحرية، والناس يجهلون مدى ما يحوزونه من قوة، "العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجهل والغباوة" طبائع الاستبداد ص44، ومرآة الحرية في رؤية الناس الواعية، فهناك حاجة إلى الحرية. وهو يتفق في هذا الأمر مع ما ذهب إليه شبلي شميل (1853-1917م) "فلا ينتظر أن تكون الحكومة أصلح من الأمة التي نشأت فيها بل لا تلام الحكومة إذا داست بأخمصها رقاب الرعية، وهل تداس رقابٌ تأبى أن تداس؟ وإن من ينتظر الإصلاح من أية حكومة يجهل، ولا شك، نشوء الأمم والعمران" الفكر العربي الحديث، ص213.
فأينما وجدت العبودية يسيطر الجهل والتخلف والفقر؛ ويعشعش الظلم والفقر ويفرّخ الفساد الأخلاقي ويمرح الانحطاط الاجتماعي والاقتصادي وتنتشر الفوضى القاتلة. والأمة ((مجموعة أفراد يجمعها نسب أو وطن أو لغة أو دين.. فإذا ترقَّت أو انحطت أفراد الأمة ترقَّت أو انحطّت هيئتها الاجتماعية.. أما الاستبداد فإنه يقلب السَّير من الترقي إلى الانحطاط)) و((يحوّل ميلها الطبيعي من طلب الترقي إلى طلب التسفّل)) (طبائع الاستبداد 115 - 117).
وهذا كله يؤكد مواجهة الكواكبي لطبيعة الاستبداد ووظائفه المدمرة بوصفه قاتلاً للإبداع والمبادرة والإنتاج والحرية والسيادة؛ ومولّداً للكسل والبلادة والتقليد والتبعية والتقوقع والانغلاق واستلاب الإدارة والعزيمة... ما يعني أن الذات الفردية أو الوطنية أو القومية أضحت ذاتاً معطلة ومهملة غير قادرة على النهوض والارتقاء، لأنها جاهلة، لا قدرة لها على استعمال العقل.
فالاستبداد (وفق تصور الكواكبي) يؤدي إلى دمار الأمة ثقافياً وسياسياً واجتماعياً وخلقياً.. وعلى كل مستوى وصعيد.. ويجعلها غير فاعلة في الحياة وعملية الإنتاج؛ لأنها فقدت خصوصية الفعل الحضاري الخلاَّق والقادر على الابتكار؛ والتجدد...
2 - المواطنة القائمة على العدل والمساواة والتنافس على أساس الكفاءة والحق في العيش الكريم، فالعدل كما - يراه - ((بين الناس هو التسوية بينهم)) ((لأن بني آدم ما داموا إخواناً متساوين إلى أن ميزت المصادفة بعض أفرادهم)) (طبائع الاستبداد 26 و60). ولذلك يطلب المساواة في الحقوق والواجبات فقال: ((نعم لا يقتضي أن يتساوى العالم الذي صرف زهوة حياته في تحصيل العلم النافع بذاك الجاهل النائم في ظل الحائط، ولا ذاك التاجر المجتهد المخاطر بالكسول الخامل)) (طبائع الاستبداد 72). فالمواطنة تستند إلى الفطرة القويمة التي خَلَق الله عليها البشر من جهة الآدمية، ثم تكتسب هذه الفطرة درجات الارتقاء بما يحصله المرء من معارف، ويتميز به من مبادرات وكفاءات، ما يشي بأن وعيه لمفهوم المساواة ليس مفهوماً جامداً ينبثق من الجوهر المادي الذي يخلق عليه الإنسان فقط وإنما هو يتكامل بالجوهر المعنوي الروحي الخلقي الذي يشكل التحول الدائم نحو الارتقاء والنهوض وممارسة الحرية المسؤولة بوعي المواطنة البنّاءَة.
فحياة الإنسان في جوهرها مواطنة مرتبطة بالقيم والفضائل وأولها الحرية، وكذا هو الوطن، وسبيل الحرية اعتماد (الشورى الدستورية) منطلقاً ومنهجاً، والقانون حياة وأُسّاً، لأنه يرى ((أن أصل الداء هو الاستبداد السياسي ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية)) (طبائع الاستبداد 13) و((الحكومة تضع قوانين لكافة الشؤون حتى الجزئيات)) (طبائع الاستبداد 75). وعلى الأمّة تبني الشورى والقانون و((إذا لم تنتبه لاستعواضه بطراز سياسي شوري، ذلك الطراز الذي اهتدت إليه بعض أمم الغرب)) فستظل تبكيه ((وسيدوم بكاؤها إلى يوم الدين)) (طبائع الاستبداد 34 - 35). ولذلك لابد للحكومة من قانون تسير عليه ويشرف عليه الشعب، وهو ما ذهب إليه أرسطو من قبل (انظر الاستبداد وبدائله 234).
ثم تتجسد الحرية في أشكال شتى فيها حرية التعبير،؛ إذ يقول: ((أطلقت الأمم الحرة حرية الخطابة والتأليف والمطبوعات مستثنية القذف فقط)). أما في عالمه الذي يعيش فيه فيصوره قائلاً: ((لا مانع للحكام أن يجعلوا الشعرة من التقييد سلسلة من حديد يخنقون بها عدوتهم الحرية)).
فقيمة الأرض والوطن، تتماهى بالتحقق الفعلي للحرية فيهما، لا يسبق أحدهما الآخر عندما يكون الوطن لجميع المواطنين، وقد ساد فيه القانون والعدل علماً بأنه يرى الوطن يتقدّم عنده على الحرية عندما يتعرض الوطن للاحتلال الأجنبي؛ فالأوطان المستعمرة المحتلة لا تؤدي إلا إلى العبودية القاهرة.
إذن الحرية عند الكواكبي تقف في أعلى قيَمه، وهي تقابل الاستبداد /العبودية/ فقال: "ما أليق بالأسير في أرض أن يتحوّل عنها إلى حيث يمتلك حريته، فإن الكلب الطليق خير حياة من الأسد المربوط". طبائع الاستبداد، ص28.
فالحرية قدس الأقداس، ومنذ أن ولدت الناس أمهاتهم حتى مفارقتهم هواء وطنهم يجب أن يكونوا أحراراً ولا يجوز سلب الحرية بالاستبداد والعبودية، لأن الشرائع والقوانين وناموس الحياة قد كلفتها. لهذا فإن انتهاك الحرية بالاستبداد السياسي انتهاك لحق الحياة الكريمة، والموت خير للمستعبد الذليل من حياته المقهورة.
3 - اختيار الحاكم والحكومة بإرادة المواطنين، ويمكن استبدال أي حاكم لا يعمل لمصلحة الناس.
4 - العلم أساس محاربة الجهل والتخلف؛ فاستبداد الجهل من أبشع أنواع الاستبداد، لأنه يسيطر على العقل والنفس فيعطل ملكاتهما.. ولهذا لا بد من ربط العلم بالعمل، وعلى العوام ألا يكونوا أداة بيد المستبد الجاهل، أو المستبد السياسي بوصفهم (قُوَّة المستبد وقُوْته)(ص44) لما جهلوا بأمرهم، ويقول:
"الاستبداد والعلم ضدان متغالبان، فكل إدارة مستبد تسعى جهدها في إطفاء نور العلم وحصر الرعية في حالك الجهل"، (طبائع الاستبداد ص47) ويقول:
"المستبد يخاف من العلماء العاملين الراشدين المرشدين لا من العلماء المنافقين"، ص44.
5 - حسن إدارة المال وتوزيعه بالعدل، لأن المال يسخر بيد المستبد لمزيد من الاستبداد، وللمال وصلة قوية بينهما يقول: "الاستبداد لو كان رجلاً وأراد أن يحتسب وينتسب لقال: أنا الشر، وأبي الظلم، وأمي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسكنة، وعمي الضرّ، وخالي الذل، وابني الفقر، وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب، أما ديني وشرفي وحياتي فالمال المال المال... القوة مال، والوقت مال، والعقل مال، والعلم مال، والدين مال، والثبات مال، والجاه مال، والجمال مال، والترتيب مال" طبائع الاستبداد، ص61. ويقول: ((فإن أهل السياسة والأديان ومن يلتحق بهم وعددهم لا يبلغ الخمسة في المئة يتمتعون بنصف ما يتجمد من دم البشر أو زيادة، ينفقون ذلك في الرفه والإسراف... متراوحين بين الملاهي والمواخير ولا يفكرون بالملايين من الفقراء يعيشون في بيوتهم في ظلام)) (طبائع الاستبداد 72، وانظر فيه 59 و79 و82).
6 - إعلاء كرامة الإنسان لأن الاستبداد يحرص على قتل الإنسان، بل الاستبداد يقتل الإنسان: "الاستبداد المشؤوم لم يرضَ أن يقتل الإنسان بل تفنن في الظلم: فالمستبدون يأسرون جماعتهم ويذبحونهم قَصْداً، بمبضع الظلم، ويمتصون دماء حياتهم بغصب أموالهم، ويقصرون أعمارهم باستخدامهم سخرة في أعمالهم"، (طبائع الاستبداد ص70).
7 - التمسك بالقيم والأخلاق وتمجيدها، فالاستبداد يفسد الأخلاق: "الاستبداد يتصرف في أكثر الأميال الطبيعية والأخلاق الحسنة، فيضعفها أو يفسدها أو يمحوها، فيجعل الإنسان يكفر بنعم مولاه، ويجعله حاقداً على قومه لأنهم عون لبلاء الاستبداد عليه، وفاقداً لحب وطنه، لأنه غير آمن على الاستقرار فيه، ويودّ لو انتقل منه.. أقل ما يؤثر الاستبداد في أخلاق الناس أنه يرغم حتى الأخيار منهم على ألفة الرياء والنفاق.. أسير الاستبداد العريق يرث فيه شرّ الخصال، ويتربى على أثرها" طبائع الاستبداد ص73-78.
8 - الإرادة وقوة النفس والحركة والفعل: التغيير يبدأ من الذات ولا بد من مواجهة الظلم والاستبداد، ولا بد أن تكون هناك إرادة قوية؛ فالإرادة عند الكواكبي "أم ناموس الأخلاق. هي ما قيل فيها تعظيماً لشأنها: لو جازت عبادة غير الله لاختار العقلاء عبادة الإرادة، هي تلك الصفة التي تفصل الحيوان عن النبات في تعريفه بأنه متحرك بالإرادة، فأسير الاستبداد الفاقد الإرادة هو مسلوب حق الحيوانية فضلاً عن الإنسانية، لأنه يعمل بأمر غيره لا بإرادته" ص 76. وهذا كله ينطلق من وجود عالمٍ متغير لا يقتضي التسليم بما هو موجود ماضياً أم حاضراً؛ فالكمال ما خلق إلا لله وحده؛ ما يعني أن التغيير يحتاج إلى إرادة قوية تتصف بالعزيمة والحكمة والحرية والنزاهة، وروح التعالي عن الشذوذ والفساد والانحراف... وقد أودع الله في النفس البشرية طاقات عظيمة وقدرات متنوعة ليسخرها المرء في خدمة الوطن والأمة والإنسانية...
وجملة القول: هذه الأفكار التي بثها الكواكبي مازالت تعد أفكاراً فلسفية على نحو كبير ومازالت مستمرة في عصرنا الحديث، وهي تحتاج إلى إعادة تأسيس لتثوير الفكر العربي وإيقاظ الهمم الميتة؛ علماً أنه يرى أن الأتراك أعداء للعرب بخلاف ما ذهب أصحاب (الجامعة الإسلامية)؛ في الوقت الذي يرى أن تجديد الإسلام إنما يكون بإزالة ما لحق به من تشوهات وزيادات ما أنزل الله بها من سلطان. وحين نعيد أفكار الكواكبي فإنما نؤكد حاجتنا إليها لتأسيس نهضتنا الوطنية والقومية العصرية التي تستند إلى دولة القانون والمؤسسات.
عناوين
أم القرى تحدث فيه عن نهوض الأمة وحارب المعتقدات الفاسدة والتقاليد البالية؛ وركز على انحلال الأخلاق في الحياة والعقائد؛ وكشف أسباب انحدار الأمة وتخلفها
هذه الأفكار التي بثها الكواكبي مازالت تعد أفكاراً فلسفية على نحو كبير ومازالت مستمرة في عصرنا الحديث.. وهي تحتاج إلى إعادة تأسيس لتثوير الفكر العربي وإيقاظ الهمم الميتة
إن الذات الفردية أو الوطنية أو القومية أضحت ذاتاً معطلة ومهملة غير قادرة على النهوض والارتقاء لأنها جاهلة لا قدرة لها على استعمال العقل!!
المصدر : الباحثون العدد 76+77 شباط – أذار 2014