Pro-alnahar@hotmail.com
تضيق فهارس مكتبات العالم اليوم بتراجم تفصيلية عن حياة كريستوفر كولومبوس، ويربو عدد الكتب المؤلفة عنه حوالي ربع مليون كتاب، وهذا السيل العارم من الكتب يهدف ولا شك إلى حجب الحقيقة ومصادرة حقوق العرب والمسلمين وفضلهم في الكشوف الجغرافية، أو حتى الحيلولة دون إبراز دورنا كشريك أصيل ومهم في هذا الإنجاز الحضاري العظيم.
ونسي هؤلاء- على الأقل- أننا كنّا أكثر تميّزاً ولمعاناً ليس على كولومبوس فقط، بل على كل رواد الكشوف الجغرافية الأوروبيين، وأن مؤلفات أجدادنا وخبراتهم الملاحية الجغرافية كانت مصادر أولية ومعتمدة للأوروبيين في دنيا الكشوف الجغرافية.
والقضية الأكثر غرابة وتساؤلاً أن كولومبوس عندما خطط ومن ثم أبحر كان يسعى أصلاً للوصول إلى الهند، وكانت الهند وقتها والصين واليابان معها مربط الجمل العربي، ولا أحد ينكر أبداً،، بل لا وجود لرواية أخرى غير التي تقول إن كريستوف كولومبوس عند وصوله إلى الأرض الجديدة ظل يعتقد أنها الهند وسمى نصف العالم المجهول هذا (الهند الغربية) على أساس أن الأرض المكتشفة امتداد للهند، وطالما نبّه المسلمون العالم أن هذا النصف الثاني المجهول من الكرة الأرضية ليس الهند.
ولم يتوقف كولومبوس عن الاقتناع بأن هذه الأرض التي وطأها هي الهند، بل استمات في إقناع ممول رحلته هذه الملك الإسباني فرديناند الثاني وزوجته إيزابيلا ورجال البلاد والحاشية بأن ما اكتشفه هو الهند، وأنه في رحلته القادمة سيصل بالتأكيد إلى الخان الأعظم، أي إلى الهند والصين، بل أنه لم يتورع عن تزييف الخرائط وتغيير مذكراته اليومية، وأمعن أكثر في الكذب في إجبار ملاحيه على الاعتراف بأن هذه الأرض التي وصلوها هي الهند.
ولم تمض سنوات قليلة على رحلة كولومبوس الأولى (898 هـ = 1492م) حتى وصل فاسكو دي غاما في عام (904هـ = 1498م) إلى الهند المطلوبة، وعندها سادت مشاعر الخيبة والإحباط لدى فرديناند وإيزابيلا وأدركا أن الأرض التي اكتشفها كولومبوس ليست الهند.
وظل موضوع الأرض الجديدة التي وصلها كولومبوس والتي ظن أنها الهند ثم ثبت خطأ ذلك ظل يشغل بال التجار والمغامرين حتى قام مغامر جديد برحلة جديدة هدفها التعرف على هوية هذه الأرض بشكل قطعي، ونعني به (أمريكو فسبوتشي) الذي نزل نفس الأراضي التي نزل فيها سلفه من قبل كولومبوس، ولكنه هذه المرة طلب أن تسمى هذه الأرض الجديدة (أمريجا) أو (أمريكا) باسمه، بدلاً من الاسم القديم الذي اشتهرت به بعد اكتشاف كولومبوس أي الهند الغربية، ليصبح منذ ذلك الحين يعرف العالم الجديد باسم (أمريكا) تكريماً وتيمناً باسم من أكد هوية الاكتشاف الجديد( ).
ـ حقيقة اكتشاف العرب والمسلمين لأمريكا:
لقد تأكد بما لا يدع مجالاً للشك أن العرب والمسلمين قد عرفوا أمريكا والعالم الجديد منذ أمدٍ بعيد، والأدلة الوثائقية على ذلك باتت جاهزة وواضحة. وسأسلسلُ هذه الحقيقة مع ذكر دلائل أخرى متفرقة، وكل ذلك يصب في بوتقة أسبقية العرب والمسلمين في كشف هذا العالم الجديد.
1 - الفينيقيون وأمريكا:
أثبت العديد من الباحثين وصول الفينيقيين إلى أمريكا الجنوبية، وأنهم استعانوا على ذلك بمهندسين مصريين، ومن بين هؤلاء العالم النمساوي (شونهاغن) الذي يقول:«إن الفينيقيين وصلوا لسواحل البرازيل حوالي سنة 1100 ق.م، ويعتقد آخرون بوصولهم سنة 950 ق. م»، ومن الأدلة التي يستند إليها القائلون بوصول الفينيقيين إلى البرازيل ما عثر عليه في شمال شرق البرازيل، حيث اكتشف بعض العمال لوحة صخرية من أربع قطع سنة 1289هـ = 1872م، حفر عليها كتابات غريبة.
وتوصل العلماء إلى أن هذه الكتابة الغريبة هي كتابة فينيقية، وترجموها على النحو التالي: «نحن أبناء كنعان من صيدون، مدينة الملك، هي التجارة التي أوصلتنا إلى هذا الساحل البعيد، أرض الجبال، ولقد قدمنا ذبيحة للآلهة والآلهات في السنة التاسعة عشرة لحيرام ملكنا العظيم، أقلعنا من عصيون جابر (إيلات حالياً) في البحر الأحمر بقافلة من عشرة مراكب، كنا معاً في البحر سنتين كاملتين حول أرض حام (إفريقيا) لكن عاصفة من يد بعل فرقتنا، ولذلك انفصلنا عن مرافقينا، وهكذا جئنا إلى هنا، ونحن اثنا عشر رجلاً وثلاث نساء، إلى ساحل جديد أشرف عليه أنا الأميرال، ونرجو من الآلهة أن يوفروا لنا النعيم».
وهناك عند الباحثين أدلة أخرى تثبت وصول الفينيقيين إلى أمريكا، حيث يرى البعض أن (هانو) الفينيقي القرطاجي قد وصل سيراليون في 60 سفينة لكل منها خمسون مجدافاً، ويقال كذلك إنهم وصلوا إلى الجزر البريطانية وجلبوا منها القصدير.
وأشار العالم (بليني) إلى رحلة لفينيقي آخر هو (هيميلكو) الذي وصل إلى (كورنول) جنوب غرب بريطانيا، وذلك للبحث عن القصدير، ومن الباحثين من رأى أن تسمية ميناء (بلتيمور) البريطاني مكونة من مقطعين هما (بعل تيمور) أي مكان أو معبد الإله الفينيقي (بعل).
كما قد نشر (لودفيكو شونهاغن) عدة مقالات في مدينة ساوباولو فيما بين عامي 1347- 1348هـ = 1928 - 1929م عن تاريخ البرازيل القديم، وأورد بعض الرسوم التي عُثر عليها هناك، وقال إنها تشير إلى المناجم التي استثمرها الفينيقيون في البرازيل، ومن هذه الرسوم خريطة طولها (12 متراً) كتب عليها رموز خاصة( ).
ومن العوامل الجغرافية التي ساعدت على اتجاه الفينيقيين إلى البحر: وجود البحر المتوسط ووجود الكتل الجبلية إلى الشرق وهي تعوق اتصالهم بمن يجاورهم، ووجود خشب الأرز الذي صنعوا منه سفنهم، وموقع بلادهم حيث أحاطت بلادهم دول قوية: الحثيون في الشمال، والفلسطينيون في الجنوب، والآراميون في الشرق، كما أن صفاء سماء بلادهم ساعدهم على معرفة النجوم والاستعانة بالنجم القطبي في أسفارهم، وجذبهم للملاحة عمق المياه المجاورة لسواحلهم، وفي الوقت نفسه كانت الطرق البرية تحت سيطرة الأمم القوية، وخصوصاً الطريق الذي يربط بين بابل ومصر على طول وادي الفرات، ثم الهبوط إلى وادي العاصي، بين سلسلتي جبال لبنان ثم افتراق أرض فلسطين ومن هنا اتجه الفينيقيون إلى البحر( ).
2 - المسعودي وخشخاش القرطبي:
يخبرنا المؤرخ الكبير المسعودي (ت 346 هـ = 957م) في كتابه الشهير «مروج الذهب ومعادن الجوهر» بقصة شاب أندلسي قرطبي هو خشخاش بن سعيد بن أسود، وبصحبته عدد من فتيان قرطبة، بأنهم استقلوا مراكب مناسبة للرحلة وتوغلوا بها في المحيط غرباً سنة 276 هـ = 889م، ثم عادوا سالمين غانمين غنائم كثيرة. والفتى خشخاش هذا هو الذي تولى قيادة الأسطول العربي الأندلسي أثناء تعرض سواحل الأندلس إلى غارات بحرية شنها الأسطول النورماندي (الفايكنج)، وقد استبسل خشخاش في مجاهدة النورمانديين حتى سقط شهيداً.
وإليك نص المسعودي عن تلك الرحلة الأندلسية في معرض حديثه عن بحر الظلمات (المحيط الأطلسي) يقول: «وله أخبار عجيبة.. أخبار من غرّر وخاطر بنفسه في ركوبه، ومن نجا منهم، ومن تلف، وما شاهدوا منه وما رأوا، وأن منهم رجلاً من أهل الأندلس يقال له خشخاش، وكان من فتيان قرطبة وأحداثها، فجمع جماعة من أحداثها وركب بهم مراكب استعدها في هذا البحر المحيط، فغاب فيه مدة ثم انثنى بغنائم واسعة، وخبره مشهور عند أهل الأندلس»( ).
3 - الإدريسي والشباب المغررون:
ويروي لنا الإدريسي (ت560 هـ = 1166م) أيضاً في رائعته كتاب «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» قصة مغامرين مخاطرين شجعان سمّاهم (الشباب المغررين) وهم عصبة من الشباب تتألف من ثمانية رجال، كلهم أبناء عم من مدينة الأشبونة (لشبونة عاصمة البرتغال اليوم) قاموا ببناء مركب بحري مناسب لرحلتهم الطويلة، وأبحروا في بحر الظلمات (المحيط الأطلسي) في القرن الرابع الهجري = العاشر الميلادي، وكان هدفهم الرئيس الاكتشاف ومعرفة ما في هذا البحر من الأخبار والعجائب.
وبالفعل فقد وصلوا إلى نهاية بحر الظلمات بعد مسيرة بحرية استغرقت حوالي الشهر، عندما لاحت لهم جزيرة وجدوا فيها عمارة وحرثاً، وما إن نزلوا حتى حوصروا فيها، وقابلوا ملكها في اليوم الرابع من الحصار، وكلموه بواسطة مترجم عربي يعيش في الجزيرة، ثم عادوا بواسطة مساعدة ملك هذه البلاد.
وأكد العلماء أن هؤلاء الفتية وصلوا من خلال رحلتهم هذه إلى شاطئ إحدى جزر أمريكا الجنوبية، ولكن العجيب والمثير للاستغراب وجود عرب في هذه الجزيرة قبل الفتية المغررين، أي قبل كولومبوس، بدليل وجود مترجم للغة العربية، ويحتمل من تصرف الملك في سجن الفتية ووضع العصائب على أعينهم وبعد المسافة كذلك على أنها الأرض الجديدة (أمريكا) كما يدل الخبر على أن الملك كان يعرف أن جزيرته مجهولة.
وسأذكر نص رحلة الشباب المغررين من نزهة المشتاق كاملاً لأنه يعد وثيقة فائقة الأهمية، يقول الإدريسي: «ومن مدينة لشبونة كان خروج المغررين في ركوب بحر الظلمات ليعرفوا ما فيه وأين انتهاؤه كما تقدم ذكره( )، ولهم بمدينة لشبونة بموضع بمقربة الحمة درب منسوب إليهم يعرف بدرب المغررين إلى آخر الأبد، وذلك أنهم اجتمعوا ثمانية رجال كلهم أبناء عم، فأنشؤوا مركباً حمالاً وأدخلوا فيه من الماء والزاد ما يكفيهم لأشهر، ثم دخلوا البحر في أول طاروس الريح الشرقية، فجروا بها نحواً من أحد عشر يوماً فوصلوا إلى بحر غليظ الموج كدر الروائح كثير التروش قليل الضوء، فأيقنوا بالتلف فردوا قلاعهم في اليد الأخرى وجروا مع البحر في ناحية الجنوب اثني عشر يوماً، فخرجوا إلى جزيرة الغنم وفيها من الغنم مالا يأخذه عد ولا تحصيل، وهي سارحة لا راعي لها ولا ناظر إليها فقصدوا الجزيرة ونزلوا بها فوجدوا بها عين جارية وشجرة تين بري عليها، فأخذوا من تلك الغنم فذبحوها فوجدوا لحومها مرة لا يقدر أحد على أكلها فأخذوا من جلودها وساروا مع الجنوب اثني عشر يوماً إلى أن لاحت لهم جزيرة فنظروا فيها إلى عمارة وحرث فقصدوا إليها ليروا ما فيها فما كان غير بعيد حتى أحيط بهم في زوارق هناك وحملوا في مركبهم إلى مدينة على ضفة البحر فأنزلوا بها فرأوا فيها رجالاً شقراً زعراً شعور رؤوسهم سبطة، وهم طوال القدود ولنسائهم جمال عجيب فاعتقلوا منها في بيت ثلاثة أيام ثم دخل عليهم في اليوم الرابع رجل يتكلم باللسان العربي فسألهم عن حالهم وفيما جاؤوا وأين بلدهم فأخبروه بكل خبرهم فوعدهم خيراً، وأعلمهم إنه ترجمان الملك، فلما كان في اليوم الثاني من ذلك اليوم أحضروا بين يدي الملك فسألهم عما سألهم الترجمان عنه فأخبروا بما أخبروا به الترجمان بالأمس من أنهم اقتحموا البحر ليروا ما به من الأخبار والعجائب ويقفوا على نهايته، فلما علم الملك ذلك ضحك، وقال للترجمان خبر القوم أن أبي أمر قوماً من عبيده بركوب هذا البحر، وأنهم جروا في عرضه شهراً إلى أن انقطع عنهم الضوء، وانصرفوا من غير حاجة ولا فائدة تجدي، ثم أمر الملك الترجمان أن يعد القوم خيراً، وأن يحسن ظنهم بالملك، ففعل ثم انصرفوا إلى موضع حبسهم إلى أن بدأ جري الريح الغربية فعمر بهم زورق وعصبت أعينهم وجرى بهم في البحر برهة من الدهر، قال القوم قدّرنا أنه جرى بنا ثلاثة أيام بلياليها حتى جيء بنا إلى البر فأخرجنا وكتفنا إلى خلف وتركنا بالساحل إلى أن تضاحَى النهار وطلعت الشمس ونحن في ضنك وسوء حال من شدة الكتاف حتى سمعنا ضوضاء وأصوات ناس فصحنا بجملتنا فاقبل القوم إلينا فوجدونا بتلك الحال السيئة فحلونا من وثاقنا وسألونا فأخبرناهم بخبرنا، وكانوا برابر، فقال لنا أحدهم: أتعلمون كم بينكم وبين بلدكم؟ فقلنا لا. فقال: إن بينكم وبين بلدكم مسيرة شهرين. فقال زعيم القوم: وا أسفي فسمي المكان إلى اليوم آسفي، وهو المرسى الذي في أقصى المغرب»( ).
يقول شكيب أرسلان: «بالاختصار الإخوة المغرورون كانوا قد وطئوا البر الأمريكي بأرجلهم، ولكنهم بقلة عددهم وقلة الوسائل التي بين أيديهم، لم يتقدموا إلى الأمام، ويغلب على الظن أن كريستوف كولومبوس لم يكن يجهل قصة المغرورين هذه»( ).
ومما ذكره المؤرخ الجغرافي كراتشكوفسكي عن هذه الرحلة: «اعتقد المتخصصون في جغرافيا العصور الوسطى أن هذه الرحلة ربما ساهمت في الحث على الرحلات المتأخرة التي قام بها الملاحون الأوروبيون في المحيط الأطلنطي، وقد لاقت تسمية هؤلاء الملاحين بالمغررين انتشاراً واسعاً»( ).
ويظهر الصدى القوي لهذه الرحلة في أوربا حين نلمس أنها قد حُورت وعُزيت إلى راهب أيرلندي اسمه القديس (برناندان)، حيث تقول الأسطورة إنه عاش في القرن السادس الميلادي = الأول للهجرة، وزعموا أن هذا القديس سافر للبحث عن الجنة التي كان يتصورها في جزيرة تقع غربي المحيط الأطلسي فجهز سفينة ملأها بالزاد وسار على متنها مع 17 من رفقائه من الرهبان من شواطئ أيرلندا، وبعدما ساروا في عرض البحر المحيط مدة من الزمن انتهى بهم التجوال إلى جزيرة (الغنم)، ومنها وصلوا إلى جزيرة (الطيور) التي أطلقوا عليها هذا الاسم لكثرة ما كان يعيش فيها من الطيور، وقد شاهدوا في الجزيرتين كثيراً من العجائب والغرائب، وذكروا أنه صادفتهم جزيرة جرداء قاحلة فنزلوا بها، فلما عمدوا إلى إشعال النار لطبخ طعامهم ارتجت أرضها كما لو وقع زلزال عظيم، فإذا بالجزيرة لم تكن سوى حوت ضخم كان راقداً على سطح الماء، وتألم من إشعال النار فحرك ظهره، وبعد ذلك عاد الرهبان إلى بلدهم أيرلندة ليحدثوا قومهم بما شاهدوه ( ).
4- ابن الوردي يصف أمريكا:
إن عمر بن المظفر المشهور بابن الوردي (ت 749 هـ = 1349م) والذي عاش قبل كولومبوس بمئة عام تقريباً، ترك لنا وصفاً هاماً وفريداً لأمريكا، حيث ذكر أنه يوجد وراء الجزر الخالدات (أي جزر كناري) جزائر وصْفها يكاد ينطبق على أمريكا.
وتدعو هذه الحقيقة إلى الريبة والشك في كولومبوس، وأنه استلهم المعلومات من كتاب ابن الوردي، وخاصة إذا عرفنا أن نُسخ هذا الكتاب قد انتشرت في أوروبا، وتحتفظ المكتبة الوطنية بباريس وحدها بتسع نسخ خطّية منه. فمعلومات ابن الوردي الجغرافية عن أمريكا الجديدة كانت معروفة في أوروبا منذ وقت مبكر، وليس بمستبعد إن لم يكن في حكم المؤكد أن يكون كولومبوس قد اطلع عليها ودرس الخرائط الملحقة بها، حيث ثبت أنه وقبل قيامه برحلته المشهورة درس كتباً كثيرة تصف السفن العربية الإسلامية والآلات المستعملة في الملاحة عند المسلمين، واطلع على أوصافهم للبلدان والبحار والجزر وعلى مصوراتهم، بل يقال: إنه وقف على كتاب جغرافي عربي واستعمله بنصه العربي مباشرة من دون ترجمته، مستعيناً ببعض المدجنين ممن كانوا تحت النفوذ الإسباني.
ولئن شكك أحد في هذه المعلومات، فإننا لن نذهب به بعيداً فهذا كولومبوس نفسه يعترف بأن العرب والمسلمين في بعض مصنفاتهم هم الذين أوعزوا إليه بوجود قارة جديدة وراء المحيط. وأورد ذلك المؤرخ الفرنسي المعروف آرنست رينان في كتابه «ابن رشد ومذهبه»، ومما قاله: «إن كولومبوس ترك رسالة بعد وفاته يقر فيها بذلك».
وكتاب ابن الوردي الكنز هذا هو «خريدة العجائب وفريدة الغرائب» وكان الشيخ عبد القادر المغربي رحمه الله (ت 1376هـ = 1956م) رئيس المجمع العلمي بدمشق وأحد أعضاء مجمع اللغة العربية، وأحد أبرز الأدباء واللغويين في زمانه، أول من تنبه إلى وصف ابن الوردي للقارة الجديدة، فقد أشار في إحدى محاضراته عام1350 هـ = 1931م، إلى أن ابن الوردي ذكر في كتابه الخريدة إنه يوجد وراء جزر الخالدات جزائر عظيمة فيها خلق كثيرون، وأن ابن الوردي قد وصف تلك الجزائر وصفاً يكاد ينطبق على قارة أمريكا( ).
ونأتي إلى اقتباس بعض الأوصاف التي أمدّنا بها ابن الوردي عن قارة أمريكا الجديدة، وهي تقع تقريباً في ثماني عشرة صفحة من القطع الجيد، وقد عنونها بـ: «فصل في بحر الظلمة وهو البحر المحيط الغربي». ثم يقول: «ويسمى المظلم لكثرة أهواله وصعوبة متنه، فلا يمكن لأحد من خلق الله أن يلج فيه، إنما يمر بطول الساحل لأن أمواجه كالجبال الرواسي وظلامه كدر، وريحه ذفر، ودوابه متسلطة».
وبعد أن يتكلم عن الجزر الخالدات أي جزر كناري يشير إلى جزيرة العوس، وأن «بها أيضاً صنم وثيق البناء لا يمكن الصعود إليه»، ثم يشير إلى أن وراء الجزر الخالدات وجزيرة العوس جزراً عظيمة، ونورد ذكره لـ: جزيرة الرخ: «وهذا الرخ الذي تُعرف به هذه الجزيرة طير عظيم غريب». جزيرة السعالي: «وهي جزيرة عظيمة بها خلق كالنساء، إلا أن لهم أنياباً طوالاً بادية، وعيونهم كالبرق الخاطف، ووجوههم كالأخشاب المحترقة، يتكلمون بكلام لا يفهم … ولباسهم ورق الشجر، ويحاربون الدواب البحرية ويأكلونها». جزيرة القرود: «وهي كبيرة وبها غياض وقرود كثيرة». جزيرة العرر: «وهي جزيرة طويلة عريضة كثيرة الأعشاب والنباتات والأشجار والثمار».
جزيرة قلهات: «وهي جزيرة كبيرة وبها خلق مثل الإنسان إلا أن وجوههم وجوه الدواب، يغوصون في البحر فيخرجون ما يقدرون عليه من الدواب البحرية فيأكلونها». جزيرة الطيور: «يقال إن فيها جنساً من الطيور في هيئة العقبان ذوات مخالب تصيد دواب البحر، وبهذه الجزيرة ثمر يشبه التين أكله ينفع من جميع السموم»( ).
وهذه الأوصاف من ابن الوردي بالنظر العلمي إليها ترقى إلى مستوى الصحة مع استبعاد بعض التهويلات التي يضيفها المؤلفون لاسترضاء العامة من الناس التي تميل إلى سماع الغرائب والمفاجآت، والتي حشدها في تضاعيف وصفه لإشباع نهم الجماهير التائقة للأساطير التي تغذي أخيلتها. فهذه الأوصاف جديرة بالتأمل والمحاكمة، فهو عندما وصف أهل جزيرة السعالي بأن وجوههم كالأخشاب المحترقة، فإنه جاء بالحقيقة فهؤلاء السكان الأصليون لقارة أمريكا الذين أطلق عليهم كولومبوس فيما بعد اسم الهنود الحمر لأنه وجدهم ذوي بشرة حمراء، ولون الخشب المحترق يميل إلى الحمرة الداكنة، ولا يخفى أن تشبيه وجوههم بالأحجار ينطوي على صرامة وقسوة تتميز بها وجوه الهنود الحمر.
وهو أيضاً عندما قال إن لهم أنياباً طويلة، فهو يرجع إلى أن الهنود الحمر كانوا يصبغون وجوههم ويرسمون حول أفواههم خطوطاً بيضاء، تُرى من بعيد وكأنها أنياب. وعندما ذكر أن وجوه أهل جزيرة قلهات كوجوه الدواب، فمردّ ذلك إلى تلك الأقنعة التي تحاكي وجوه بعض الحيوانات التي كان الهنود الحمر يضعونها لتخويف الغرباء. وكأن ابن الوردي في وصفه لجزيرة الطيور يتحدث عن العقاب الأمريكي الذي اتخذ الأمريكان منه فيما بعد شعاراً قومياً، وهو لا يوجد في غير أمريكا، وهو قريب من السواحل يتربص بالسمك( ).
5 - اعترافات غربية:
أكدت مجلة «نيوزويك» الأمريكية في عددها الصادر في نيسان من عام 1960 = 1380هـ، أن أمريكا كانت معروفة للعرب والمسلمين، وأن الوثائق التي عثر عليها تثبت أن العرب وصلوا قبل سنة 494هـ =1100م إلى عدة مواضع على الساحل الأمريكي، ولا غرابة في ذلك حسب ما أثبتنا قبل قليل( ).
ومن عجائب المفارقات ما ذكره أحد الباحثين وهو الأستاذ رفيق العظمة، أن صديقه الدكتور (جون فانديك) المعروف في الأوساط العلمية في بيروت، أبرز له أمام مجموعة من الحاضرين في مجلسه، رسالة كانت قد وصلته للتو من أمريكا تتضمن صورة فوتوغرافية لمحراب عليه آيات قرآنية كريمة مكتوبة بالخط الكوفي القديم اكتشف حديثاً في إحدى الخرائب المهجورة في أمريكا.
وقد أكد أحد المؤلفين الغربيين وهو (برتن كرين) في مقالة مختصرة وجود كلمات عربية خالصة في لغات ما اصطلح على تسميتهم هنود أمريكا، وقد رد تاريخ استخدام هذه الكلمات إلى عام 689هـ = 1290م، أي قبل قرنين من وصول كولومبوس إلى الأرض الجديدة، كما أشار إلى وجود أبنية عربية الطراز مثل الأبنية التي اتخذها المايا والأزتيك، مع الإشارة إلى أن الأزتيك اسم محرف من اسم قبيلة الأزد العربية اليمنية.
كما وعثر مدير متحف البرازيل قبل نهاية القرن التاسع عشر على صخرة إلى جوار مدينة ريودي جانيرو عليها نقوش قريبة الشكل من الحروف العربية القديمة.
وما يلفت الانتباه أن الكاتب الأمريكي الأسود (أليكس هيلي) اختار لأشخاص كتابه الشهير (الجذور) أسماء عربية إسلامية، وتفسر الكاتبة (فريدمان) ظاهرة انتشار الإسلام والثقافة العربية بين الأمريكيين السود بأنها عودة إلى المنابع الثقافية، إذ يقول السود: «كان أجدادنا مسلمين عندما جُلبوا إلى الولايات المتحدة، ونحن لا نفعل شيئاً غريباً عندما نعتنق دين أجدادنا».
وفي المؤتمر الواحد والسبعين بعد المئة للجمعية الشرقية الأمريكية في فلادلفيا، والمنعقد في آذار من عام 1961م = 1381هـ، ألقى الدكتور (هوي لين) أستاذ علم النبات بجامعة بنسلفانيا - وهو من أصل صيني- محاضرة استند فيها إلى وثائق محفوظة في الصين يعود عهدها إلى القرن السابع الهجري = الثالث عشر الميلادي، وأكد من خلال هذه الوثائق في محاضرته إلى أن المسلمين انطلقوا بسفنهم في عام 494هـ = 1100م من الطرف الغربي للعالم الإسلامي ومن ميناء الدار البيضاء على وجه التحديد، لترسوا سفنهم في نهاية الرحلة بنجاح في عدة أماكن على سواحل أمريكا الشمالية والجنوبية، وقد وصل (لين) إلى هذا الرأي بعد أن قضى ثمانية أعوام في تتبع انتشار المحاصيل الزراعية والحيوانية في شتى أنحاء العالم، وقد أيد هذه الحقيقة كل من الدكتور (لين يانغ) أستاذ علم التاريخ واللغة الصينية بجامعة هارفارد الأمريكية، والدكتور (ريتشارد رودلف) رئيس المؤتمر نفسه، والذي عقّب على محاضرة (لين) بقوله: «والآن ينبغي على الأساتذة العرب أن يتابعوا دراسة تاريخهم وليبدؤوا من هذه النقطة»( ).
وأكد المؤرخ (كوندي) أن الأسطول الإسلامي أبحر في القرن الرابع الهجري = العاشر الميلادي من ميناء لشبونة مستكشفاً جزر (أسورس) وبعض جزر (الأنتيل) فكان أول من مزق الحجب - على حد قوله - عن المناطق المجهولة في المحيط الأطلسي.
وقال الباحث الألماني (هدويك فتزلر): «إن العرب قاموا برحلات بحرية متعددة قبل البرتغاليين لا لاكتشاف إفريقيا الغربية فقط، بل للولوج في البحر غرباً أيضاً».
وذكر بعض الباحثين أن الانتشار العربي في إفريقيا بلغ الغاية القصوى في القرن التاسع الميلادي = الثالث الهجري، وامتد جنوباً في غرب القارة إلى (منديجو) ومنها انتقل إلى (مشوكان) على خليج المكسيك، وأن آثار العرب في لغات أمريكا ترد كلها إلى ذلك المكان وإلى (منديجو).
وقال بعضهم: إن حضارة الأزتك (التي تعني قبيلة الأزد اليمينة) والمايا هي حضارة عربية، ومنهم من ذكر أن مستعمرات عربية وجدت في أمريكا بين سنتي 1150 - 1200م = 545 ـ 597هـ، أي قبل أن يولد كولومبوس في جنوة بنحو ثلاثة قرون.
ونُقل عن جريدة (الهدى) العربية التي كانت تصدر في الولايات المتحدة الأمريكية قولها: «إن أتراكاً متجولين في مقاطعة (سيمسو جوفل) في المكسيك، عثروا في أثناء تجوالهم على قبيلة تتكلم العربية، وتقطن منطقة جبلية منيعة، ولا تزال هذه القبيلة في عزلة عن العالم، ولم تتصل بمن حولها، وهي محافظة على عاداتها الشرقية، وقال بعض أفرادها للتجار المشار إليهم إنهم يقطنون تلك الأصقاع منذ مئات السنين».
وكانت صحيفة (الغربال) العربية التي كانت تصدر في مكسيكو قد نشرت تحقيقاً ممتعاً عن اكتشاف أحد اللبنانيين المسمى (طنوس الشنتيري) لقبيلة عربية في منطقة (سيمسو جوفل) الجبلية بالمكسيك، وأشارت إلى أن الشنتيري تحدث مع أفرادها بلهجة عربية، وفهم منهم أنهم من عرب (سجلماسة) بالمغرب، وأنهم لا يسمحون لأحد بدخول منطقتهم، وأن لديهم أموالاً وتحفاً وآثاراً كثيرة يودون لو استطاعوا إيصالها إلى مكة المكرمة.
وجاء في مجلة (الشرق) البرازيلية أن الدكتور (برذينو مادوريا دو بينيو) أحد كبار المسؤولين البرازيليين وضع تقريراً رفعه إلى حكومته أشار فيه إلى وجود مسلمين برازيليين يقطنون مجاهل ولاية (باهيا) البرازيلية منذ زمن بعيد، ويعرفون باسم (الوفائيين) أو قبيلة الوفاء، وعددهم كبير لأنهم يزيدون على نصف الزنوج الموجودين في تلك الولاية، ويقول الدكتور البرازيلي: «إن هؤلاء المسلمين دخلوا البرازيل منذ قرون عدة قادمين إليها من إفريقيا»( ).
وجاء في «مجلة المقتطف» 1345 هـ = شهر آب 1926م، مقالة ملخصة عن مقالة لبرتن كلين في «مجلة العالم اليوم» 1345 هـ = شهر شباط 1926م، ويتكلم فيها عن كتاب عنوانه: إفريقية وكشف أمريكا؛ لمؤلفه ليوفينر، ويذكر فيها: إن كلمات عربية موجودة في لغات هنود أمريكا، ويقول المؤلف: «إن قدم هذه الكلمات يعود لعام 689 هـ = 1290م، أي قبل قرنين من وصول كولومبوس إلى أمريكا»، وقال أيضاً : «إن هناك بعض العمران العربي مثل بناء الأزد وبناء المايا»( ).
وأخيراً؛ أليس كل ما ذكرناه أعلاه يشكل محفزاً لنا نحن أبناء الحضارة العربية الإسلامية على إجراء دراسات حقيقية، ألا يدفعنا لبذل جهود جبارة لاستعادة حقوقنا الفكرية على الأقل، أليس ذلك فرصة للدول العربية والإسلامية لكي تحفظ ماء وجهها أمام هذا التخاذل العجيب بحق تاريخنا، بأن تبني مؤسسات علمية بحثية، وبأن تُفرغ الباحثين والمؤرخين للعمل العلمي فقط، ألا نرى مؤسساتنا الإعلامية ترصد الملايين لبرامج الطرب والغناء والمسابقات، بينما تُحجم عن دفع عُشر ذلك لبرنامج علمي، أليس هذا من الغرائب بل ومن الفضائح، في حين كان أجدادنا يشقون المحيطات ويتجاوزون الجبال في سبيل البحث العلمي!!!.
هذه استغرابات برسم من يغار على تاريخ أمته الذي هو منطلق الحاضر نحو المستقبل، لكي لا يصدق علينا (ناموا ولا تستيقظوا).
Pro-alnahar@hotmail.com
المصدر : الباحثون العدد 76+77 شباط – أذار 2014