يذكر كتاب جامعة «كمبردج» الشهير: «أن سورية في مجال العمارة كانت متقدّمة على روما، بل كانت بالنسبة لها نموذجاً يحتذى، وقد تفوقت سورية على روما في عبقريتها المبدعة، وفي معارفها التقنية، وفي مهارة عمالها، ويفترض أن أبولودور الدمشقي قد اقتبس تصاميم المباني من موطنه الأصلي».
وأبو لودور الدمشقي الذي يتحدث عنه كتاب «كمبردج» هو ذلك المعمار والمهندس المدني والعسكري السوري، الذي ولد في دمشق عام 60 ميلادي وتوفي في المنفى نحو عام 125 ميلادي، وقد بلغ في عهد الإمبراطور الروماني «تراجان» الذي حكم روما بين عامي (98-117م) منصب وزير الأشغال العامة، وكان جَسوراً في حياته، ومن خلال تأمل تمثاله النصفي الموجود حالياً في متحف «ميونيخ» بألمانيا، يتضح أنه كان متين البنية، قوي الشكيمة، متوازن الشخصية، نبيل القسمات، جميل الرجولة، وفيه مهابة، ووجهه يحتوي سمات شرقية لا شك فيها..
الدراسات التي كُتبت عن أبولودور الدمشقي، ومنها دراسة الدكتور الراحل عدنان البني تقول: إن وراء اسمه تكمن أعظم المنجزات المعمارية الرومانية في عهد الإمبراطور تراجان، الذي كانت تربطه بأبولودور صداقة متينة يعود إلى أيام خدمة تراجان كمحام عسكري في سورية، عندما كان والده والياً عليها.. وعندما أصبح حاكماً على روما، وبدأ في عهده، الفن يأخذ صورة مختلفة عن العهد الهيلينستي، فظهرت منحوتات بمفاهيم جديدة، تمثّل لأول مرة الطبقات الشعبية في العديد من المشاهد، وكان وراء ذلك كله، شخصية فنية، سورية، هي شخصية «أبولودور الدمشقي».
يقدر عدد الأعمال التي أنجزها وحققها «أبولودور» وفق الدراسات الحديثة بخمسة عشر عملاً على الأقل، وأهمها السوق الذي بناه على سفح رابية الكويدينال المعروف باسم «الفوروم التراجاني» بين عامي 108و 109م، ويضم هذا السوق فيما يعرف حتى الآن، نحو مئة وخمسين دكاناً، وتشير الدراسات إلى تعدد وظائف هذا السوق، فقد كانت تباع فيه التوابل والحبوب والخمور والزيوت والأسماك وغير ذلك، وقد ظلّ هذا السوق يستهوي المصممين المعماريين في كل العصور، لما يتمتع به من جمال وبساطة، مع الفائدة القصوى من إشغالات الأرض، فضلاً عن خلفيته المعمارية الأخّاذة.
أما الميدان التراجاني «الفوروم » فقد أنجزه «أبولودور» في عام /112/ م، وقد كف كل ما عداه من الميادين في روما والعالم، لأنه أكبر خمس مرات من «فورم الإمبراطور أوغسطس».. أما من حيث الجمال فهو كما جاء في تاريخ كمبردج القديم: «أعجوبة كل العصور» ويضم ساحات رحيبة، وأعمدة تذكارية، وأواوين وأقواساً للنصر، وداراً للعدل ومعابد وتمثالاً للفروسية وتفاصيل أخرى عديدة في غاية الجمال والروعة والانسجام، تضافرت جميعها مع بعضها بعضاً لتجعل من هذا «الفورم التراجاني» مجمعاً رائعاً، بُهر به القدماء، واعتبروه واحداً من أكثر لآلئ الفن الروماني صنعاً..
أما العمود التذكاري التراجاني، فقد بناه أبولودور بناءً على طلب الإمبراطور ليكون له قبراً وشاهداً على المنشآت التي أنجزها في عهده، فقادته عبقريته الفذّة إلى صنع عمود لم يسبق له مثيل في تاريخ الفن العالمي، وقد أنجزه في حياة الإمبراطور تراجان عام /113/م، ويرى النقاد، أن هذا العمود العملاق المزيّن بإفريز منحوت ملتف حول جزعه كفيلم تسجيلي للأحداث التي حدثت في عهد تراجان.. هو صيغة جديدة استنبطها «أبولودور» من أسلوب «الزقورات» البابلية والآشورية التي كانت شائعة في الألفين الثاني والأول قبل الميلاد في بلاد مابين النهرين..
وبنى «أبولودور» جسره العملاق على نهر الدنوب، الذي صعب على الرومان، صبّ أساسات وركائز في سرير النهر، إذ كان من الغزارة بحيث لا يستطيعون تحويله، ولكن «أبولودور» ولأول مرة، في التاريخ تصدى لمثل هذا العمل الذي يتطلب جسارة وتقنية عالية، فنجح في إرساء عشرين ركيزة قوية جداً، في لجّة النهر، ثم مّد الجسر بطول /1100/ متر، وما تزال بعض آثاره باقية حتى اليوم.
أما معبد «البانثيون» (معبد مجمع الأرباب) فيعد من أهم المعابد الرومانية المستديرة الباقية - حتى يومنا هذا - وهو من منجزات «أبولودور» ومن تصميمه، ويعود تاريخه إلى عام /114/م. وقد اعتمد في بنائه أسلوب العظمة والبساطة والوضوح.. وتصميمه يعتمد على العناصر الأفقية والعمودية وزخارف معمارية تحاكي زخارف تمت في عهد الإمبراطور أغسطس.
ولأبولودور الدمشقي منجزات باهرة أخرى، نذكر منها الحمامات التي شيدها على رابية «الانسكويلينوس» التي يقول عنها ليون هومو: «إن الحمامات التي شيدها أبولودور، هي التي حددت الشكل النهائي للحمامات، إذ أصبح على التصميم أن يلبي حاجتين أساسيتين هما: الاستحمام بأشكاله ومراحله المتعددة من جهة، والترويح والرياضة من جهة ثانية».
وينسب إلى أبولودور، قوس النصر في مدينة «بيغافتوم» وقوس النصر في مدينة «أنكونا» ومن منجزاته أيضاً مسرح موسيقي «أوديون» في مدينة «مونتي جورد يانو» وغير ذلك كثير، ومن المفيد ذكر مؤلفه عن «آلات الحصار» الذي وصلت إلينا بعض رسومه مستنسخة في مخطوط بيزنطي..
تتحدث الدراسات والمؤلفات التي كتبت عن «أبولودور» الدمشقي عن النهاية المأساوية لهذا الفنان والمهندس العالمي الكبير، وتجمع القول بأن الإمبراطور «هدريان» الذي استلم الحكم بعد «تراجان» كان مأخوذاً بالعمارة الإغريقية، وله آراء في فن العمارة، ويقال بأنه صمم عدداً من العمائر، وبخاصة، معبد روما وفينوس، والفيلا الشهيرة المسماة باسمه «فيلا هدريان» الواقعة في مرتفع يطل على روما، وما زالت آثارها باقية - حتى اليوم - وقد زرتها في عام 1995، وهي بالفعل جميلة، ويقال بأن الملكة السورية الشهيرة «زنوبيا» قد أقامت فيها عندما جاءت إلى روما (أسيرة)..
«هدريان» لم يكن على وفاق مع «أبولودور» الذي كان ينتقد تصاميمه، دون مواربة، وكان انتقاده للمعبد العملاق الذي يزمع إقامته للربتين روما وفينوس، صحيحاً من وجهة نظر نقّاد العمارة، ويرى المؤرخ الروماني «دون كاسيوس» أن الإمبراطور «هدريان» من أجل ذلك كله اتهم أبولودور بأشياء مختلقة، ونفاه من روما، ثم أمر بقتله».. وهكذا انتهت حياة هذا المعمار الدمشقي «أبو لودور» الذي بفضله، كما يقول الدكتور عدنان البني، كان عصره بمثابة العصر الذهبي لفن العمارة والعمران في تاريخ الإمبراطورية الرومانية، والتاريخ القديم، ولم تزل الجامعات والمعاهد في شتى أرجاء العالم تدّرس نظرياته ومنجزاته الرائعة، الباقية آثارها شاهدة على ذلك.
المصدر : الباحثون العدد 76+77 شباط – أذار 2014