هل تتكلم الحجارة؟..
لم لا، إن كانت روح العنفوان نابضة في أنامل الفنان، فتتجلى على صفحتها حياة موّارة بأرهف لمسات الفن وأرقى صور الإبداع.
ما كاد "ميكال أنجلو" عبقري عصر النهضة الحديثة (في القرن الخامس عشر) ينجز تحفته الخالدة "موسى" وقد اشتعلت ثورته على الجهل والمراوغة والخداع، وتوقه لطرح كابوس الغفلة والهوان عن وطنه، ومع اللمسة الأخيرة في منجزه العظيم، أهوى بمطرقته على التمثال وهو يصرخ من أعماقه: "انطلق، تكلم أيها التمثال".. وقد نطق التمثال فعلاً، وأضحى على مدار السنين، قبلة أنظار عشاق الفن والجمال، يتحلقون حوله صفوفاً، ويسمعون من كل لمحة في قسماته، هتافه بأبناء الوطن لليقظة والثورة على الذل والطغيان..
وبالطبع، كان التعبير في تمثال "أنجلو" مجرد لمسات فنية مذهلة أتقنت صياغتها أنامل عبقرية مرهفة، لكنّ ثمة حجارة تكلّمت بالفعل وأفصحت عن تاريخ إنساني مداه القرون، ومضمونه أحداث ومنجزات حضارية، بقيت وقائعها طي المجهول سطوراً على صفحة الحجر تنتظر من يمعن التأمل فيها، ويقرؤها ليحلّ ألغازها، فتتوهج من جديد وتعرض للأجيال مشاهد ووجوهاً وصفحات من سجل العصور الغابرة..
الاحتفال بالتتويج الملكي:
المكان: مدينة "منف" عاصمة الدنيا (حوالي 25 كم جنوب القاهرة).
الزمان: اليوم الرابع عشر من شهر كسانديكوس، الموافق ليوم 18 من شهر"أمشير" عام 196 ق.م، انعقد في المعبد الملكي في "منف" مجمع كبار الكهان والمتنبئين العاملين في خدمة الآلهة، بحضور كتّاب القدوس وحملة المراوح وكهنة المعابد القادمين من سائر أنحاء المملكة، للتشرف بمقابلة الملك "بطليموس" خامس ملوك البطالمة في مصر والاحتفال بالذكرى التاسعة لتتويجه ملكاً على القطرين الشمالي والجنوبي، وقد استعرض الحضور مآثر الملك الإله ومكرماته الكثيرة، وصدر في الختام المرسوم التالي: "أنا" ايتوس بن ايتوس كاهن الإسكندرية والآلهة سوتيريس وأدولفي والآلهة ابورجاتي وفيلو باتوريس، انعقد مجمعنا في هذا اليوم بمعبد "منف" لنشهد أن الملك بطليموس (فليعش محبوب "بتاح" والإله ابيفانس أوخاريستوس ابن الملك بطليموس"الرابع" والملكة" "ارسينوي" الآلهة "فيلو باتوريس" إنه محسن للمعبد وللعاملين فيه وكذلك لكل الشعب) وإنه إله ابن إله (مثل حوروس ابن إيزيس وأوزيريس المنتقم لأبيه) وأنه يقدّس الآلهة.
لقد قدّم للمعبد دخلاً من الثروة والحبوب، وأنفق الكثير من أجل رخاء مصر، وزوّد المعابد بالإمدادات، وهو سخي بثروته الخاصة، وعمل على إلغاء العوائد والضرائب التي كانت مفروضة بمصر، كما خفّض أخرى حتى يتمكن الشعب من العيش في رفاهية أثناء حكمه وألغى الديون المستحقة للقصر وهي كثيرة، كذلك حرّر نزلاء السجون، وأعتق الواقعين في قضايا منذ زمن بعيد، من التهم الموجهة لهم، وأمر بأن يستمر نصيب الآلهة من عائدات المعبد ودخله السنوي، سواء من الحبوب أو الثروات وكذلك من الغيطان والحدائق والأراضي الممنوحة لهم والتي كانت ملكاً للآلهة في عهد والده، وقررّ بشأن الكهنة أن لا تزيد رسوم تعميدهم لوظيفة الكهنوت، عمّا كانت مقررة في عهد والده، وفي السنة الأولى من حكمه أعفى أعضاء سلك الكهنوت من واجب الحضور كل سنة إلى الإسكندرية، وأمر ألّا يرغم أحد على العمل في الأسطول، كما خفّض الضرائب المفروضة التي يدفعها المعبد للقصر عن منسوجات "بيسوس" بمقدار الثلثين وقام بإصلاح ما تعطّل من الأمور خلال السنوات الماضية، حيث يهتم بتنفيذ كل الواجبات المتوارثة منذ القديم نحو الآلهة، وضمِن لكل الأفراد مساواة في العدالة مثل "هيرمس الكبير" وأمر أن يسمح للهاربين من صفوف الجيش وكل من كانت له نوايا سيئة خلال أيام التمرد، أن يسترجعوا ممتلكاتهم عند عودتهم، واتخذ إجراءات لتوجيه الفرسان والمشاة والأسطول، لصد أولئك الذين كانوا يهجمون على مصر من البر والبحر ورصد أموالاً طائلة وكميات كبيرة من الحبوب، لتعيش المعابد والناس في البلد بأمان.
عالم دفين تحت الرمال:
نُقش نص المرسوم الكهنوتي على صخرة بثلاث لغات: الهيروغليفية والديموطيقية والإغريقية، والتي كانت سائدة إبان حكم البطالمة لمصر لأكثر من 150 عاماً، وكما هو معروف كانت الهيروغليفية لغة دينية مقدسة متداولة في المعابد، والديموطيقية لغة الكتابة الشعبية (العامية المصرية) واليونانية القديمة لغة الحكام الإغريق وتم توزيع نسخ من المرسوم لتوضع في سائر معابد المملكة، ومرّت القرون حافلة بالأحداث على تلك النسخ، فتبددت وضاع أثرها، ولم ينج منها غير لوح حجري واحد، وهو الذي طمرته الرمال في ركن من مدينة "رشيد" على مقربة من مصب نهر النيل (70 كم شرقي الإسكندرية) وكان ممكناً أن يبقى اللوح رهينة في جوف الثرى لولا المصادفة المدهشة، ففي التاسع عشر من شهر تموز "يوليو" عام 1799م، انهمك فريق من جنود الحملة الفرنسية التي استولت على مصر بقيادة "نابليون بونابرت" عام 1798م، في هدم جدران مبنى قديم في "رشيد" لإقامة حصن بالقرب من مصب النهر، وكان الضابط المهندس "بييرفرانسوا بوشارد" يتابع العمل حين توقف فجأة أمام كتلة حجرية من البازلت الأسود، عليها كتابات بخطوط مختلفة، وسرعان ما حمل الخبر إلى قائده "بونابرت" الذي عمد من فوره إلى طبع عدة نسخ من النقش وأرسلها إلى العلماء في مختلف أنحاء أوروبا، وقام بنقل الحجر الثمين إلى منزل خلفه الجنرال "مينو" في الإسكندرية.. وبُعيد توقيع "مينو" على معاهدة التسليم مع الإنكليز عام 1801م، وكان فيها بند يفرض تسليم الآثار المصرية التي كانت في حيازة الفرنسيين وبينها "حجر رشيد" إلى الإنكليز، الذين قاموا بنقلها إلى إنكلترا لتُحفظ في المتحف البريطاني، ولتبقى معروضة فيه إلى يومنا..
وتكلّم الحجر:
استقر الحجر النفيس في بهو المتحف، ويبلغ ارتفاعه 114 سم وعرضه 72.5سم، وسمكه حوالي "28 سم" وقد فقد أطرافه: العليا اليسرى، والعليا اليمنى، والسفلى اليمنى، وتهافت علماء اللغات على دراسة مضمونه والعمل على حل رموز الكتابة المصرية القديمة، وكان في هؤلاء: الدبلوماسي السويدي "اكربلاد" الذي نجح في قراءة أسماء بعض الأعلام المدونة بالخط الديموطيقي، وتوصّل عالم الطبيعة الإنكليزي "توماس يونغ" إلى معرفة أن الهيروغليفية والديموطيقية وثيقتا الصلة، وأن أسماء الملوك في الهيروغليفية تكتب في إطار مستطيل ملفوف الأركان، كما أوضح أن وجود صورة أنثى بعد الأسماء كانت لتعيين المؤنث، لكن الإنجاز الأكبر جاء على يد الفرنسي "جان فرانسوا شامبليون" عاشق الحضارة الفرعونية، والذي كان يتقن اللاتينية والسريانية والفارسية والعربية والعبرية والكلدانية والإثيوبية والقبطية، وساعدته هذه الأخيرة على حل كثير من رموز الهيروغليفية، فتأكد له بعد دراسة دائبة استغرقت أحد عشر عاماً أن الكتابات الثلاث في الحجر هي لمرسوم واحد وبمقارنته لأسماء الملوك في النصين اليوناني والمصري توصل إلى مجموعة من المعلومات والحروف الهيروغليفية وما لبث أن تمكن من قراءة الأسماء وعرف معانيها، وفي ذلك اليوم السابع والعشرين من أيلول "سبتمبر" من عام 1822م أعلن "شامبليون" نتائج دراساته التي أسفرت عن حل رموز الهيروغليفية فدوى النبأ في العالم، واعتبر ذك اليوم ميلاد "علم المصريات" الذي فتح الباب على مصراعيه للتعرف على تاريخ مصر في عصورها القديمة، وكشف الوجوه الراقية لحضارة وادي النيل، وسبقها إلى أعظم المنجزات في ميادين الطب والفلك والعمارة والفنون والآداب والاقتصاد وغيرها من مجالات المعرفة الإنسانية.
نقوش بالآرامية على حجر تيماء:
لم تكن صخرة "رشيد" أول حجر يتكلم ليسرد أحداث التاريخ القديم، بل كان العالم من جديد أمام أثر آخر يحكي أخبار الأمم التي تعاقبت في شبه الجزيرة العربية، ظهر الحجر في مدينة "تيماء" القديمة - شمال الجزيرة - بين منطقتي "حائل وتبوك"، وعند "تيماء" كانت تلتقي طرق التجارة القادمة من جنوب وشرق الجزيرة، ومنها تنطلق القوافل صوب حوران والشام، وقد عرفت المدينة بأنها بلد النخيل والمياه الغزيرة المتدفقة من بئر "هداج" الشهير في ذلك الموقع، ولها تاريخ قديم من عهد السومريين والآراميين في الجزيرة؛ يذكر "المحبّي" في كتابه "الروض المعطار" أن "تيماء" كانت بلاد العماليق، وملكهم "الأرقم بن أبي الأرقم "المعروف في قصص الأنبياء.
سباق للظفر بالصفحة الأثرية:
ما حكاية "حجر تيماء" وما الذي كان في صفحته الصلدة، وجعل علماء الآثار يتسابقون للظفر به؟... كان الحجر في الواقع صفحة أثرية بالغة الأهمية، إذ نقشت فيها سطور عديدة من الكتابة الآرامية العائدة إلى القرن السادس قبل الميلاد، وكان أول من أشار إلى الحجر، الرحالة الإنكليزي "دوتي" الذي زار المنطقة عام 1877م، وذكر أن "سعيد بن راشد" أحد وجهاء" تيماء" أطلعه على صخرة في فناء بيته عليها نقوش فريدة، وما نَشَر الرجل الخبر في إصدارات الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية، حتى سارعت البعثات الأثرية للوصول إلى المنطقة جاهدةً لشرائه أو سرقته- إن أمكن-.. طلبت "فرنسا" بداية من الحكومة العثمانية التوسط لها لدى "محمد بن عبد الله الرشيد" أمير حائل، السماح لعالم الآثار الفرنسي "شارل هوبير" بزيارة شمال الجزيرة العربية لدراسة آثار المنطقة، ولما كان "ابن رشيد" من أصدقاء السلطنة العثمانية، فقد لبى طلب الحكومة الفرنسية، فما لبث "هوبير" أن وصل إلى "تيماء" عام1880م، وعاين الحجر الفريد ونسخ نقوشاً عديدة من الحجارة المستخدمة في بيوت القرية القديمة. وبالذات في جدران "قصر طليحان" – كما جاء في مذكرات الفرنسي "هوبير" والألماني "أوتينج"-.
يؤرخ الحجر لفترة سحيقة من تاريخ شبه الجزيرة العربية، ويصل ارتفاعه إلى أكثر من متر، ووزنه مئة وخمسون كيلو غراماً، ويتضمن كتابة بالآرامية يرجع تاريخها إلى القرن السادس قبل الميلاد. أما النص المكتوب، فيتـألف من ثلاثة وعشرين سطراً، تدور حول موضوعين: الأول تنصيب أحد الكهنة في معبد الآلهة الوثني في "تيماء" والموضوع الثاني: ينص على التزام المعابد الأخرى بتقديم محصول إحدى وعشرين نخلة ضريبة لمعبد تيماء.
عرف "هوبير" أهمية الحجر المكتشف، لكنه كان بحاجة إلى خبير في اللغات الشرقية ليفك طلاسم النص، وهو ما تحقق له في رحلته الثانية إلى الجزيرة العربية، وبرفقته اللغوي والآثاري الألماني" يوليوس أوتينج" فقاما معاً برسم الخطوط والنصوص وإرسالها إلى مراكز البحوث المتخصصة في ألمانيا وفرنسا، وتمكن الرجلان من نقل الحجر الأثري إلى مقرهما مقابل ريالين لصاحب الحجر وريالين آخرين للحمالين!!! ثم وقع الخلاف بين الخبيرين على ملكية الحجر وحصلت أزمة ثقافية بين باريس ولندن، افترق الرجلان على إثرها، حيث توجه "أوتينج" إلى القدس، وغادر "هوبير" جدة برفقة دليلين قاما باغتياله في "بلدة العلا" بالحجاز، لتبقى أوراقه والحجر الأثري الثمين في حاجياته المحفوظة لدى أمير حائل، وعاد التنافس من جديد بين الفرنسيين والألمان على ملكية الحجر، ودارت مفاوضات طويلة استغرقت عاماً، فشل الألمان أخيراً في الحصول على الحجر، الذي نُقل إلى باريس، ليأخذ مكانه في ركن من أركان متحف اللوفر، حيث ما يزال شاهداً على حقبة تاريخية معينة في شبه الجزيرة العربية.
المصادر:
- معالم تاريخ وحضارة مصر الفرعونية – سيد توفيق – القاهرة 1984.
- موجز تاريخ مصر القديم وحضارتها – د. عيد مرعي – بيشة 2006.
- رحلة في عالم الآثار – د. عيد مرعي – روافد للثقافة والفنون – دمشق 2010.
- حجر تيماء في متحف اللوفر في باريس – أسعد الفارس – مجلة الكويت – العدد 349/آذار 2010.
المصدر : الباحثون العدد 76+77 شباط – أذار 2014