رغم انتشار الأديان وفلسفات الوجود والتقدم الهائل في الاكتشافات العلمية ظلَّ السؤال الأزلي قائماً حول عقيدة القضاء والقدر وما إذا كان البشر مُخيَّرين أم مُسيَّرين، ولا زال الإنسان يحاول سبر أغوار وجوده ومعرفة غايته وكنه روحه البشرية. فقد بدأ يكتشف مع مرور الزمن تأثير عوامل خارجية عدّة في كينونته كتأثيرات الطبيعة والأفلاك والجينات الوراثية، وبدأ يسعى لاستشراف مستقبله والإحاطة بوقائع حياته ومعرفة خفاياها من خلال علوم الفلك والغيب والعلوم اللَدُنيّة، وكذلك عبر الباراسيكولوجيا التي تعتمد قدرات إدراكية عالية تمكّن صاحبها من استجلاء العديد من أوجه حياة البشر اليومية. لكن ثمَّة مفاتيح أخرى لوجودنا، ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، نعايشها يومياً دون إدراكنا لها، وهذا ما سأقدّمه في هذا المقال الذي هو ثمرة تجارب وجودية عدَّة لما يربو على عقدٍ من الزمن، تفضي إلى نهاية مفادها أن البشر هم جزء من العقل الكوني الكلّي المبني على ثنائية الخير والشر بشكلٍ يمكن استطلاعه وتقصّيه في ميتافيزيقيا الطبيعة وإيحاءاتها.
يشكِّل الوجود البشري جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة ومن المنظومة الكونية الأوسع ويرتبط معهما بروابط وثيقة لا حدود لها. وإنَّ رَصْدَنا لأوجه وعناصر هذا الترابط بين حياة الإنسان ومكونات الوجود هي عملية يمكن تسميتها (استجلاء الطبيعة) أو (الاجتلاء الكوني). وتظهر هذه الروابط التي علينا اجتلاؤها على شكل إشارات من الطبيعة وإيحاءات ميتافيزيقية كامنة غالباً ما تأتي كمحاكاة لواقعنا، وتشمل كافة أوجه حياتنا وأقوال محيطنا العام ومفردات تراثنا الثقافي وعوامل الطبيعة وغير ذلك. أما وسيلة اجتلاء هذه الروابط والإيحاءات فسوف أدعوها بعملية (القِـيافة الماورائية) وتعني- اقتفاء الأثر-، أي رصد وتعقُّب الروابط الخفية واقتفاء أثر إنسان ما وبعض جوانب حياته من خلال ما يحيط بنا من مكونات الوجود المتنوعة ولغة الكون وإشارات الطبيعة وإيحاءاتها وهو ما يمكن وصفه مجازياً بـ (عالَم الخَفَاء). والهدف من عملية الاجتلاء الكوني هذه هو الحصول على معرفة أكبر لذاتنا البشرية وكينونتنا وتوسيع مداركنا حول الطبيعة والكون وخالق الوجود، كما ويمكننا كشف الكثير من خفايا وحقائق واقعنا ومعرفة غيبيَّات مستقبلنا. فالمحاكاة والإيحاءات الوجودية تقدِّم نسخة مطابقة إلى حدٍ ما لفعلٍ حدث في الواقع بحيث يمكنها التعريف بهذا الفعل أو تبيان حقيقته مثل كشف غموض أو لغز أو جريمة ما.
ولمقاربة هذا الموضوع سيكون من الضروري إيضاح بعض الأشكال التي تتجلَّى فيها الإيحاءات والروابط الميتافيزيقية في عالَمنا وسوف أستعرض أبرزها كالمحاكاة الفنيَّة لواقعنا، والمحاكاة الكلامية والبصرية والذهنية والإيحاء التاريخي وغير ذلك. ففي المحاكاة الفنيَّة تنعكس مصادَفةً جوانب من حياة بعض الأشخاص في النتاج العالمي الفني والأدبي. كأن تحدث جريمة في الواقع فيقوم «س» بقتل «ع» مُسبّباً المعاناة لأفراد أسرته فيصاب أحدهم بالشلل وآخر يتعرَّض للعذاب طوال حياته. وبعد فترة زمنية، في مكانٍ آخر من العالَم، تظهر مصادفةً رواية أدبية يتم تحويلها إلى فيلم سينمائي تعرض جريمةً تتشابه في أهم تفاصيلها مع الجريمة الفعليَّة الآنفة بحيث يكون المجرم معروفاً بالطبع للقارئ أو المشاهد. وعلى أرض الواقع، فإن مَن يعرف بالحادثة السابقة سيدرك مفارقاتها مع الرواية أو الفيلم، وبالتالي يمكنه التعرُّف على بعض ملامح المجرم الفعلي باقتفاء أثره في العمل الفني حيث تظهر بعض خصاله المطابقة للواقع.
وفي حياتنا أنماطٌ من المحاكاة الواقعية تشكّل جزءاً من قَدَر الإنسان وتدفعنا للتأمُّل في الروابط الوثيقة بين البشر بتنوّعهم الإثني إذ يتشابه حدثان واقعيَّان في أبرز تفاصيلهما. فمثلاً، يسافر رجلٌ إلى بلد معيَّن، يجني ثروة في حياته، يتعرَّض لحادث سيارة عابر، يتزوج وينجب طفلين، يواجه طلاقاً مع زوجته، ويموت في سِن الـ 75. وفي مكانٍ آخر نجد شخصاً أو أكثر يمر في ذات الظروف السابقة ويموت بنفس العمر حتى أنه يسافر إلى ذات البلد التي قصدها الرجل الأول. وقد يعيش هذان الشخصان في نفس العصر أو في عصرين مختلفين وكأن حياتيهما أشبه بتكرار لذات القصة. ويسري هذا على حيواتٍ أناسٍ قديمين كالتطابق مثلاً بين حياة شخصٍ حَيٍّ وأديبٍ من قرونٍ ماضية لدرجةٍ يمكن فيها لهذا الشخص اجتلاء بعض غيبيّات حياته ومصيره عبر قراءته لسيرة حياة الأديب.
لكن ذلك لا ينطبق بالتأكيد على كل تفاصيل حيوات الأشخاص المَعنيين إذ لا يعقل تكرار القصة ذاتها بكل جزيئاتها كأنها قصة واحدة تتكرَّر عبر الزمن مثل إعادة لفيلم أو لحكاية. فالقصة تتكرر بأهم أحداثها لكن بأشكالٍ مختلفة، وغالباً بشكلٍ بُنيوي من منظور البُنيويين، أي في بنيتها الكليَّة بغض النظر عن التفاصيل. أو قد تأتي كاجتزاء من الكل بمعنى أن جزءاً واحداً منها يتطابق مع الواقع. كما أن درجة التطابق والمفارقات مع الواقع تتفاوت من محاكاة لأخرى. وبعضها يتضمَّن محاكاةً وصفية كالتشابه في لون العينين أو شكل الشعر بين شخوص الواقع والمحاكاة. وقد يشمل ذلك محاكاة اسمية تتشابه فيها بعض أسماء الأشخاص المَعنيين، ويتفاوت هذا التشابه بين كُلّي وجزئي أو يقتصر على تشابه الحروف الأولى. وتدفعنا هذه المحاكاة لاستطلاع أصول الكلمات والأسماء في عالمنا.
وفي المحاكاة اللفظية يصدر الإيحاء خلال أحاديثنا اليومية كالكلام الذي نقوله، نفكر به، نقرؤه، نكتبه، أو نسمعه ممَّن حولنا ومن المذياع أو التلفاز وما شابه، حتى تبدو كل أحاديثنا وكأنها مُقدَّرة! فمثلاً يحزم رجلٌ حقائبه ويودع أهله ويستقل سيارة أجرة للذهاب إلى المطار، فيجد سائقها يستمع لأغنية شجيَّة عن وداع الأحبة والسفر خارج البلاد! لقد جاءت هذه الأغنية كمحاكاة لفظية تصف الحدث الواقعي الواضح أمامنا، إلا أن الإيحاءات الغنائية كثيراً ما تأتي لترمز إلى فكرةٍ أو حدثٍ ما يَخفى علينا مما يتطلَّب اقتفاؤه واستجلاؤه. وأيضاً قد نقرأ مقالاً في صحيفة لنجد بعض تراكيبه اللفظية تنطبق علينا أو على ما حدث للتو معنا، أو تنطوي على رموز وإيحاءات لا مباشرة لما يجب أن نعرفه. فعند استجلاء العبارات التي تحمل فوارق لفظية مع حالتنا وواقعنا نصل إلى مرحلة يمكننا فيها معرفة بعض ما يدور حولنا باقتفاء الإيحاءات اللفظية في محيطنا.
كذلك تنطوي أفكارنا على إيحاءات ذهنية تظهر بطريقة غير مباشرة ضمن سلسلة الأفكار والرؤى والذكريات التي تراودنا. كأن يتم بث صورة ذهنية في عقلنا تحاكي الواقع أو ترمز له لإيضاحه، أو يتم استحضار ذكرى من الماضي أو فكرة ما تحاكي في بعض جزئياتها وعباراتها موقفاً نعايشه. فعلينا ملاحقة الانطباعات والتقاط الإيحاء الذهني ثم فك رموزه ومقارنته مع الحدث الواقعي لإدراك دلالته.
ولا تتزامَن الإيحاءات الماورائية بالضرورة مع أحداث الواقع، إنما منها تلك الارتجاعية التي توحي بحدث ماض وتبيّن حقيقته، ومنها الإيحاءات الاستباقية الغيبيَّة التي تستبق الحدث أو تنذِر بعاقبة ما حاملة إرهاصات المستقبل أو القَدَر، كأن تتردد في كلامنا أقوال استباقية توحي بأحداث مستقبلية دون إدراكنا لذلك، أو يتجلّى أمامنا إيحاء بصري كنذير ما. فمثلاً تتلقى فتاة من صديقتها هدية هي لوحة سفينة تمخر عباب البحر وسط عاصفة هوجاء، فتعجبها كثيراً وتعلقها في حجرتها. تسافر لاحقاً إلى إحدى البلدان عبر البحر إذ لا تتمكن من الحجز بالطائرة. وأثناء رحلتها تتعرض باخرتها لعاصفة تغرقها فيقضي من فيها. وبعد انتشال جثة الفتاة ودفنها، كان كل من يدخل حجرتها لاحقاً يرى على جدارها لوحة السفينة المتلوية وسط العاصفة - كأنما كانت هذه الهدية إيحاءً وجودياً ينذر بعاقبة الفتاة!
وهنا مثالان عن إيحاءات وجودية تكشف حقيقة ما أو تؤدي لتغييرٍ في الواقع. فمثلاً، تقوم طالبة بإحدى الأبحاث وتدون معلوماتها في دفتر. ولما ملأته كله قامت بشراء دفتر جديد فلاحظت العبارات التالية مطبوعة على غلافه: “هناك من يملك أفكاراً وهناك من يعمل شيئاً حيالها”. أثار هذا في ذهنها توجساً حول البحث الذي تجريه وما إذا كان هناك من يأخذ أفكارها منها، فتذكرت أنها كانت قد طبعت أجزاء من بحثها على حاسب في جامعتها. وعندما استقصت الأمر، اتضح أن هناك بالفعل من أخذ الأفكار من الحاسب ونشرها باسمه.
وأيضاً لدينا امرأة ذات كفاءات فكرية تؤهلها للنجاح في المجال الثقافي والحصول على وظيفة في إحدى المؤسسات الثقافية. تتقدم لمسابقة لهذه الغاية فتواجه منافسة من قبل رجال تقدموا لذات المسابقة واستخدموا نفوذهم وسلطتهم لإبعادها ووضع العراقيل أمامها. يحملها ذلك على التراجع إذ تصل إلى قناعة بعدم قدرتها على القيام بدور ثقافي فعال في مجتمع ذكوري وأن رجالاً كثراً سيحاربونها في هذا المجال. تتجه للمؤسسة لسحب اشتراكها بالمسابقة، وبينما تجلس في غرفة الانتظار تدخل من النافذة نحلة لتحوم حولها باستمرار ما جعلها تتذكر أن إناث النحل وليس ذكورها هي التي تعمل طوال اليوم لجمع العسل. ولدى هذه الفكرة، تستشعر قوتها ثانية وتقرر عدم التراجع وتغادر المؤسسة دون الانسحاب من المسابقة التي تنجح فيها لاحقاً بجدارة.
هل كان دخول النحلة من النافذة في هذا الوقت بالذات مجرد صدفة؟ ألم ينتج عنه تغيير في مسار حياة امرأة الثقافة؟ من الذي اختار طباعة العبارات السابقة على الدفتر في المثال الأول؟ وكيف تحركت الفتاة نحو المكتبة التي تحتوي على دفتر يحمل العبارات التي جعلتها تكتشف حقيقة هامة كانت تجهلها؟ إن هذه الإيحاءات الماورائية ليست عبثية على الإطلاق ولا تحدث بمحض الصدفة إنما تأتي كجزء من التسيير الكوني للبشر نحو أهداف محددة وكل منها يأتي لسبب رغم أن بعضها يبدو بلا أية غاية أو بُعد معنوي كأنه مجرد محاكاة وصفية للفعل الحقيقي. كأن يقوم شاعر فجأة بكتابة قصيدة عن الريح خطرت في باله، وبعد إتمامها يدخل إحدى غرف منزله ليجد أوراقه فيها وقد بعثرتها في الأرض الرياح القادمة من النافذة أثناء كتابته القصيدة!
لماذا تظهر في عالمنا كل هذه الإيحاءات كأنها لغة كونية تخاطب الذات البشرية وتتداخل مع ذهن الإنسان وأفعاله؟ من الذي يقوم بتركيبها؟ وما أهمية المحاكاة الوصفية المجردة؟ هذا يذكرنا بالسؤال عن مصدر الأحلام وآليتها. فالإيحاء الوجودي يكاد يشبه الحلم برمزيته ودلالته على الواقع بشكل مموه، لكنه أوسع نطاقاً بكثير إذ يتخطى عقل الإنسان ليشمل الدائرة الكونية كلها وليدلل على موقع الإنسان في الوجود ومدى التداخل بين كافة عناصر الكون التي تشملنا. فالإيحاءات الماورائية تبيّن علاقة الطبيعة وجزيئاتها بحياة الإنسان وبكيانه الفكري ومصيره لدرجة يمكننا فيها معرفة حقيقتنا وخفايا واقعنا وقراءة أقدارنا عن طريق كوننا ذاته. حتى الإيحاءات الوصفية المجردة التي تبدو بلا أهمية إنما لها دلالات في تفسير التكوين الميتافيزيقي للوجود، فهي روابط عضوية تشكل جزءاً من باطن الوجود ومن النسيج الكوني الكلي، وهي ليست عشوائية بل تدل على مدى التنظيم في البناء الكوني الذي تتمازج وتتداخل فيه كافة عناصر الوجود بما فيها الحياة البشرية؛ كافة أوجه وجودنا وواقعنا، إيقاع حركاتنا وكلماتنا، تراثنا الأدبي والفني، طوارق محيطنا وسائر الكائنات الحيَّة حولنا، كتغريد الطيور وعدو الخيول، وكذلك عوامل الطبيعة كأصوات وحركة الريح والبحر والشجر.
وبمعنى آخر فإن هذه الإيحاءات الماورائية تمكننا من الإجابة على أسئلة الوجود وتكشف عن ارتباطاتنا الدقيقة مع التراكيب الكونية بشكل يستحيل فيه لأي إنسان أن يكون مستقلاً بذاته لكونه يرتبط بشكل وثيق مع باقي البشر وبالوجود الكوني الكلي وبعوامل خارجة عن إرادته وهو جزء من منظومة كونية متكاملة ومتداخلة يمكن اعتبارها جوهر الكيان الإلهي. فالتكوين الإلهي يشمل كافة أجزاء الطبيعة والكون والأحياء والخلائق والأرواح التي تنتظم كلها ضمن قوىً متوازنة وأضداد تتمثل بمعادلة الخير والشر وتقوم على أساس التناظر والتكامل الكوني وتتبع كلها بالنهاية إلى الوحدة الإلهية الكلية. كل شيء ينبعث من الله، والقدرة الإلهية هي القوة القَدَرية المحركة للكون والتي تنظمه وتسيّره وتبث الأفكار فينا وتحرك أرواحنا– فنحن ننتمي إلى الله وأرواحنا البشرية هي جزء من الوجود الإلهي. الإنسان هو الله الكلّي الوجود في كافة الأحياء، والله هو الإنسان الذي ترتبط حياته بموجات الطبيعة وظواهر الوجود والفلك ويشكِّل ذهنه جزءاً من العقل الكوني التابع لموازنة الخير والشر أو لِما يمكن أن ندعوه افتراضياً بمنظومة (الانشطار الكوني) المتكاملة حيث ينقسم الكون إلى أقسام متساوية ومتوازنة تتقاطع مع بعضها. وهنا يكمن سر العدالة الإلهية والتوزيع الوجودي للأرواح عبر حَيَواتٍ وأجيال في صراع الأضداد والقوى بشكلٍ يحقق مسائل العقاب والثواب.
لقد اعتقد قدماء البشر بتناسخ الأرواح وتناقلها من جيلٍ إلى جيل، وآمن الهنود بذلك كجزء من عقيدتهم ومن بعدهم البوذيون وغيرهم، وكانت أيضاً فئاتٌ من قدامى اليونان وكبار فلاسفتهم أمثال سقراط وأفلاطون وفيثاغورس تؤمن بهذا الاعتقاد الذي اعتنقته لاحقاً طوائف عدّة من الدين المسيحي والإسلامي وغيرها. وفي زمننا هذا، ترسَّخ هذا المفهوم أكثر إذ بات خبراءٌ وأخصائيون يعتمدون آلياتٍ كالتنويم المغناطيسي لاستجلاء الأجيال السابقة للروح البشرية لأي إنسان كان. ولعلَّنا نصل إلى مرحلة يتوصَّل فيها العالم إلى المزيد من الوسائل والآليات الموثوقة القادرة على اكتشاف هذه الأجيال الماضية، وفي هذا الصدد، فإن الإيحاءات الوجودية كثيراً ما ترمز لصفات وأحداث في أجيال سابقة للروح البشرية، وبالتالي فإن عملية استجلاء الطبيعة واقتفاء إيحاءاتها الماورائية لا تشكل فقط إحدى وسائل اجتلاء هذه الأجيال المتعددة، إنما تكشف أيضاً عن ترابط أرواحنا مع بعضها في حالات كثيرة. هذا ما يمكن تسميته «التاريخ الوجودي للإنسان» والذي يمتد عبر أجيال عدة لروح واحدة بمئات الأسماء والأشكال والعناوين والأفعال. فالبشر يتزاوجون وتتوالد الأرواح وتتناقـل من جيل إلى جيل في حياة سرمدية لا تنتهي إلا بفناء البشرية حيث الفراغ الأبدي. وفي هذه الصيرورة الزمنية، تكشف الإيحاءات الوجودية عن التواصل الفكري بين أجيال مختلفة وعن تقابل وتناظر الأرواح وترابط مصائر البشر حيث تتناغم موجات حياة بعض الناس، تتقاطع أفعالهم وأحداث حياتهم، منهم من يتحركون بنفس الوقت نحو ذات الهدف في بلدان مختلفة، ومنهم من يرتبطون عاطفياً أو عدائياً من جيل إلى جيل ويترابط ماضيهم الوجودي مع حاضرهم بشكلٍ يتحقق فيه العدل الكوني عبر المسار الوجودي لكل روح بشرية بما تمثله من خير أو شر في حيواتها المتعاقبة المختلفة.
هذا كله يدفعنا إلى تطوير مداركنا ومفاهيمنا في الأنثروبولوجيا، وقد يشكل أيضاً تحولاً في دراسات التاريخ البشري؛ ففي الوقت الذي نتمكَّن فيه من اجتلاء الأجيال السابقة عبر القيافة الماورائية إضافة إلى علوم غيبية رديفة، سوف يتغير مفهومنا للقراءة التاريخية وللسيرة الذاتية، لأنه سيكون بإمكاننا قراءة التاريخ الوجودي لكل روح بشرية. وفي هذا الصدد، يشكل الأدب والفن مصدرين ثريين بالرمزية التاريخية والإيحاءات التاريخية للأرواح البشرية عبر مسارها الوجودي.
لكن معضلة التداخلات في حياتنا تعرقل أحياناً التوصُّل إلى يقينٍ تام حول تفسير الإيحاءات الوجودية التي تنطوي على بعض الالتباس أو الاحتمالات المتعدِّدة كما في المحاكاة الأدبية والفنية التي لا تنطبق كل تفاصيلها مع الواقع. ويجدر أيضاً السؤال إلى أية درجة ينطبق الإيحاء الوجودي على واقعٍ أو حدثٍ ما، فما يساعدنا في اليقين من اجتلاء حدثٍ ما يَخفى علينا هو تكرار الإيحاءات الماورائية عنه والتي تعطي فكرة مشابهة ذاتها تعرِّف به وتؤكِّده.
وبالنهاية، فإن عملية استجلاء الطبيعة باقتفاء إيحاءاتها تمدنا بالكثير من المعلومات عن التكوين الميتافيزيقي للوجود ويشكل رصدها مفهوماً تفسيرياً لطبيعة الكون، ولهذا أهمية معرفية قد تفتح آفاقاً جديدة ليس في علم الوجود فحسب، إنما أيضاً في علوم الطبيعة والأنثروبولوجيا والتاريخ وعلم الاجتماع، وحتى في دراسات الإتيمولوجيا التي تعنى بأصول وتاريخ الأسماء والكلمات.
الإيحاءات الاستباقية الغيبيّة هي التي تستبق الحدث أو تنذِر بعاقبة ما حاملة إرهاصات المستقبل أو القَدَر
المصدر : الباحثون العدد 76+77 شباط – أذار 2014