السؤال الكبير: من يحق له التكفير، وكيف يستخدم هذه اللغة أمام الحقِّ الأزلي في التفكير؟ الإنسان امتاز عن باقي الموجودات بالعقل، وهذا العقل سُمح له ما لم يسمح للجبال والهضاب والوهاد والبحار والحيوان والنبات، فأي مساحة تسمح لتكفير هذا العقل؟ طالما أنه وُجد في الأساس كي يتأمل ويتفكر ويفكر، ويخرج بفكرة سالبة أم موجبة يمنة أو يسرة تحمل الجهات الأربع، أو جهة واحدة، إلى الأعلى بكونه عمودياً أو إلى الأمام بحكم تطلعه الأفقي إلى غيره واستكشاف هدفه، أو إلى الأسفل ليمتلك مقدرة تجاوز الشِّراك، من ذاك الذي يُسمح له بلفظ الكفر على هذا أو تلك أو ذاك أو ذينك، وعلى الرغم من دقة التشابه مابين التفكير والتكفير فإن التفكير واسع سعة الكون، والتكفير ضيِّقٌ ضيق عروة الزر، بكونه الجزء الخطأ من التفكير السليم، ويعني ما يرتكبه الإنسان من أخطاء بحق نفسه، كما بحق أخيه الإنسان، وبحق الموجودات المادية واللامادية، ولذلك ما بين الفينة والأخرى يقوم بتقديم القرابين، وكذا علاقة الميزان بالوزن، فإنك تقول: لم يصل إلى الدقة ويحتاج قليلاً أو أنقص منه، وإلى الذين يقولون: إن المسافة بينهما تباعد القطبين أقول: إننا قدمنا جميعاً من رحم واحدة، والقاعدة تقول: مِن حَمْل مدته تسعة أشهر والشواذ من سبعة، فالتكفير شواذ القاعدة، على الرغم من تجاوز عقارب الساعة لبعضها وتراكبيتها، كما أن مساحة السلام أكبر بكثير من مساحة الحرب، وكذلك مساحة البناء منتشرة في طول الأرض وعرضها أمام مساحة الدمار، والإثبات أقوى من النفي، والتنوير أكبر بكثير من الظلمة التي تقبل الإنارة فتختصر الظلمة، بعكس مفهوم الليل والنهار، والنظر إلى الزهور يعني انتظار الثمار، وكسر الأغصان المزهرة لا يعني موت الشجرة. الإنجاب الفكري حقيقة علمية منها كانت الحضارات والتطور، ولولا الفكر المتفكر لما كنا ضمن هذه الآليات الاجتماعية ولما أُنجزت الأديان ولما ظهرت الحضارات ولما فهمنا وتفهَّمنا سبل المسير .
صحيح أن الفكر أمام الجهل مخاطرة ومغامرة مؤلمة لمبدعيه، وسهلة على مكفِّريه والجاهلين به، وبما أن الإنسان ابن الأزمات بأبعادها الكبرى والصغرى والطوارئ الطبيعية والقسرية، وجميعها أثناء حركة الفعل والتفاعل معها؛ تتطلب فكراً لحظياً ومستديماً، ومعه يتقبل نقد الفكر وتطوير التفاعل، وهذا حق، فلولا السلبي ما كان الإيجابي ولولا الخطأ لما ظهر الصح، أما التكفير ففيه تكمن الخطورة الحقيقية، أي أن لا عقل للمكفر أمام المفكر وهذا انتقاص لا نريد أن يحمله المكفر، بل نشجعه على فهم المفكر والحق الثقافي والعلمي في نقده وقبوله ورفضه، والإقرار والإيمان حالتان من الحالات الخاضعة للنقاش والتغير عند العقل المتفكر،
فالصدامية العاقلة من خلال حوار هادف تنجب ثقافة متنورة تحمل خصوصية التطلع إلى التطور، ولولا التفكر والفكر الإنساني لما كان هناك حضارات دينية وثقافية وعلمية، ووسائط أدواتها الرئيسة القلم والورق المسطور واليد المدونة، والمظهر لما يجول في الفكر، أما التقوقع والعزلة والغيرة والحسد وعدم المقدرة على التفكير فهي أدوات منجبة للتكفير، وضد الانفتاح ، والتطلع إلى منطق التاريخ، والإطلالة عليه كصورة نرى فيها ما يمتلكه التفكير، يمنحنا فرصة القبول والرفض والكفر والإيمان، كما أن تصوير المستقبل في الخيال الفكري أيضاً يمنحنا فرصة التطلع إليه، فماذا يعني الانحياز وتلفيق التهم والكيدية وقضم وقرض الحقائق، وعدم تسليط الضوء على الأغوار المظلمة كي نكشف بعضاً من أسرارها المسائلة للفكر، حق مشروع دون التدخل في الجسد أهو أعوج خلقياً أم صحيح وسليم بنيوياً ؟ .
إذاً نظرية الحق في التفكير تتشابه مع حق استنشاق الهواء وشرب الماء، هذان الأمران الممنوحان من الحق الطبيعي ولكل إنسان من ذلك الحق العقلي في وزن منتجات الأفكار، وحينما يمتلك القدرة على وزنها بميزان التجدد، أي قراءة الأبعاد الثلاثية القابعة خلف المنظورة، فلكل جسم طبيعي أبعاد سداسية في المكعب الكامل؛ الذي لا نرى منه إلا ثلاثة أبعاد منظورة، فإن استطعنا الالتفاف حولها ورؤيتها نكون قد وصلنا إلى رؤية التوثيق التي تضمن حرية التفكير، وهنا تكمن مسؤولية منحنا حرية التحرر من واجهة المكفرين المدعوين إلى واجهة التفكر، كي ننجب حواراً راقياً يتولد منه فكر جديد متجدد يحمل رؤية الماضي، يرسمها كصورة جديدة تنتقل إلى المستقبل بالتعامل والرابطة فيما بينهما ألا وهو الحاضر.
إذاً، التخلص من العقم الفكري يؤدي إلى عدم التكفير، ووتجهه إلى حرية الفكر المسؤولة أولاً وأخيراً عن آليات الإبداع، واصطناع الأشياء المادية من ذلك الفكر اللامادي الساكن في فلسفة الجوهر، الحاوي لكامل علوم الحياة: دين وطبيعة ومادة، إله ورسل وعلماء، ووسطاء ونجباء وأولياء أمور، وسياسة واقتصاد واجتماع، هذه الثلاثيات ما كانت لتنجح لولا رؤيوية الحرية الفكرية، وآداب التفكر المسؤولة عن ضبط الحوار الذي يمنع الاختلاف، وينجب التآلف ويجمع الأفكار على اختلاف مشاربها، كي يظهر منها منهل أساسه نبع متدفق، فيه قوة الوحدة والألفة تمنع التفرق، وتعمم هذا الفكر الذي يغدو فكراً كونياً خلاقاً ينضوي تحته ومعه الجميع .
إن الحق المطلق الذي يمتلكه الإنسان بقوة ودون منازعة، هو حق التفكير والانفراد به والتوازن مع الآخر، يتم حينما ينطق به ويتبادل معه احترام هذه الآلية (التفكير) ومن خلال هذا تظهر قوة التبادل المحترم دون تكفير، فإذا كفَّر أحدهم الآخر سقط الآخر والأول، ولم يعد للرؤية الفكرية حضور ، وخسر الجمع رؤية الفرد، وكانت في الابتعاد عن علم الحقيقة الذي لا يتطور إلا من خلال علم البيان والتبيين. لماذا قدمت لك هذا وأنا المتجرئ على مجريات التاريخ التي مرت من خلاله تلك الحضارات التي استعرضناها ضمن كتابنا مدن الروح والمادة، وما مر بها من أساطير وإيداعات واختلاسات وإبداعات ونًسب ونِسب، فالفترات التي مرت بها تلك الحضارات من أور والسومريين بعد تفهمها للبراهما الهندية، والرؤى الزرادشتية وانتقالها إلى فينيقيا وكنعان، وأثينا الإغريقية وطيبة الفرعونية، وروما الرومانية، ووصولهم جميعاً إلى عصر النهضة الذي أنجب المدن السبع الصناعية، على الرغم من اختلاف الظروف والزمان والمكان، وتطور الروحانيات، واتهام الكثير من العلماء أصحاب الفكر والتفكر بالتكفير والهرطقة، مثل: غاليليو وكوبرنيكوس وكاردانو والكثير الكثير من العلماء والمفكرين، أمثال: ابن رشد وابن عربي وابن سبعين، وتعرضهم لذلك الاضطهاد الرهيب، والذي أدى إلى اعتذار القساوسة والبطاركة ورجال الدين الإسلامي فيما بعد عن تكفيرهم لأولئك الناس، واتهامهم لهم بالزندقة .
لماذا أتجه إلى هذا كله؟ وأنا الذي أحاول فرد الحقيقة ووضعها على بساط البحث، وغايتي الانتقال إلى الأفضل في الفكر الإنساني، وإنشاء نمط فكري متوافق مع آليات التطور التي تبحث اليوم في علم الهندسة الجينية، وخريطة الجسد الإنساني، وملامح الوجود الكوني، والمادة والروح، حقيقة إني أتجرأ وأسأل سؤالاً: في حال اكتشاف سرِّ الروح - وأنا معكم ربما لن نصل إليه- ولكن في الافتراض العقلي، ما ذا يحدث إذا اكتُشف، وكم من المعادلات ستنقلب رأساً على عقب؟ وأنا من المؤمنين أن لكل مخلوق خالق، وهذه حقيقة دامغة غير قابلة للنقاش، ودون ذلك في المنطق العاقل قابلة للنقاش، فهل سأُكفَّر على هذا الحوار أم سنتحاور حول كل هذا مما قدمته لكتابي؟.
ردود الأفعال أنا الذي أطالب بها، وبما أنني أنشئ التباين بيني وبين منطق العقل، وللعلم أنني متصالح جداً مع مكوناتي الداخلية العقل والقلب ، من النظرية الإيمانية القائلة: "وفي أنفسكم أفلا تبصرون" أخاطب ذاتي قبل الآخر حول ردة الفعل والنقيض، وإن كل من تجرأ على البحث عن الأساليب الجديدة للتفكير، والتي تخالف النمطية الفكرية فهو مكفَّر، أدعو أولئك المتهمين لكل مفكر يفكر بأن يتحاوروا معه، وخروجنا عن النمط الاستلابي المسيطر على التنوع الفكري يدعونا لاتخاذ خطوات كبرى، كي تتحول التجربة التي نمتلك مكوناتها إلى حقيقة، إن آلاف المحاولات تمتلك المكونات ؛ تدعوك لأن تحاول من جديد، فالخطأ ليس في النظرية والمحاولة، وإنما الخطأ يكمن في التطبيق .
لقد بدأ التفكير خيالاً ما لبث أن تحول إلى رسم، حمل رموز ما يُتفكر به، ومن ثم غدا كلاماً يتبادله الإنسان ملتقياً مع أخيه الإنسان، وناقلاً ومتلقياً ضمن التبادل الذي لا يمكن أن يحدث التطور إلاّ به، وعليه ظهرت فكرة القبول والرفض والإيمان والكفر والتفكير والتكفير، وهنا يجب أن نتوقف لنفرِّق بين الكفر والتكفير، - وكما بدأنا- إن الإنسان ظهر حراً في البصر والاستماع، إنما تكلّف في النطق، ومنه كان حق الموافقة أو عدم التوافق مع كل ما يُطرح من الشفاه والأقلام الإنسانية، وإن كامل التفكير قابل للحوار، وعليه مرة ثانية يؤخذ به ويُعتد بمضمونه ويتحول إلى وثيقة أو يرفض، وأيضاً يعود ليظهر من وثيقة مضادة قادمة من وثائق الرفض والإثبات على أنه نقيض النقيض، فمن يستخدم الكفر قائم على الشك، وقمة الشك يقين، فهل وصل الشكاك إلى اليقين فآمن بالاختلاف، وأصبح النقيضان مؤمنَين؟ وهنا يظهر الاختلاف جلياً ما بين الكفر والتكفير، وفي حقيقة أمره يظهر الكفر على أنه إيمان بالنقيض، ألم يقل الوحي على لسان الرسول العربي الكريم في الكتاب المكنون (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ )، ألا نجد في هذا الكلام المقدس صورة من أرقى صور الحوار الإنساني؛ الذي طالبنا الإله به عبر النبي العربي؟، فلا يجوز التكفير إلا في حالة تكفير الإنسان لذاته والكفر بها، كما أن التكفير ممنوع أمام أي قادم جديد عقيدة كانت أم فكرة غير مفهومة أو مفهومة، بدليل الآيات الكريمة التي أوردناها، وهذا كله تأكيد على حرية الفكر الإنساني المولود في فكر الإنسان، وطالما أنه يحمل حدود الحوار والنقاش دون تعصب وانفعال فهو خاضع للاحترام، فلك أن تقول ما تقول ضمن حدود التوقف، والاستمرار عن السماح بالمتابعة أو التمنع عن الاستماع، لماذا كل هذا، وما الغاية من إجراء هذا البحث الذي جرى من قبل الكثيرين؟ .
الهدف من كل ذلك هو الخروج من نفق التخلف، والظهور على أرض النهضة الفكرية، فما أكثر الاتهام الحامل للتكفير والكفر على كل من يحاول التفكير في الواقع وتطويره!، وكم هي الحاجة للعودة لاستثمار العقل والتطلع منه إلى ما نحن فيه؟. وبعد أن أبنت الفرق بين الكفر والتفكير والتكفير، أقول: إنه من الواجب أن نطور آليات التفكير، والعودة إلى دراسة ما نحن عليه، وما مرَّ بنا وما مررنا به، ضرورة حتمية من أجل الانتقال إلى الأفضل .
مع كل دورة حياتية يظهر فيها نوح جديد، يحمل مع مجموعة من الناجين الذين يكتبون قصصاً عن ذلك الانفجار العظيم، والطوفان الأكبر، والزلازل والبراكين؛ التي أعادت الأرض إلى بدئها، وعودة الإنسان إلى التأمل بها والتفكر من خلال المساحات الأرضية الكبيرة، فيعمل عليها تكاثراً وبناءً حيث لا كفر ولا تكفير، بل إيمان موجود يحمل على كتفيه عاتق إعادة بنائها، بكونه قلمها، يخط عليها رسالته التي ينبغي علينا أن نقرأها بعد وصولها إلينا أو ذهابنا إليها، وحينما كان يعمل لها لم يكن يرى غير الرقعة التي هو عليها، وما في كبد السماء من شمس وقمر ونجوم، فلا اتصالات ولا آلهة ولا أنبياء، فكان كل نبي نفسه التواصل الوحيد المتباعد، كان يحتاج المسير الذي يكمن به الزمن الطويل من أجل الالتقاء بالآخر، وبمعنى أدق تبدو الأرض كبيرة جداً، فالإنسان قليل وهي كبيرة جداً عليه، وبالتتابع ومع التكاثر تضيق المساحات ويكبر العقل وتصغر الأرض والكون، ويدخل بكامله في ذاك الفعل الإنساني الصغير، يتقارب الناس من بعضهم ويظهر الاحتكاك المباشر وغير المباشر، ينمو الحلال والحرام بعد أن كان حلالاً فقط، يجري البحث في الحرام ، والتعدي والتكفير ، ووضعت قوانين ، وبنيت الشرائع والمعابد لها ، ومعها تُشاد الأوابد.
أيضاً، لماذا هذه المداخلة ؟ ونحن نمضي ضمن البحث عن التفكير والتكفير؛ اللذين أظهرا المسموح والممنوع، ورسما حدود الحرية وتعرفا على الديمقراطية والبيروقراطية (حكم المكاتب) أي حكم الناس لبعضهم، وخروج رائحة (التابو) المحرَّم والمقدس والجنس والدين والسياسة والحدود الناظمة بينهم، وأيضاً تعريف الطبقات الثلاث: الفقيرة والوسطى والغنية والعامة والخاصة وخاصة الخاصة، والانكماش والانفلات، وهذا كله نتاج الكثافة البشرية الهائلة التي تجمعت على وجه الأرض، وتحول الإنسان من التفكر والتفكير في الرسالة التي وُجد من أجلها وتعلم كتابتها إلى الالتهاء بحاله اليومي، والنظر إلى من بجانبه ومن يجانبه ومن يلتقي معه، ليتطور التكفير من عدم القناعة والأحلام الغوغائية، كما نما الكفر الفردي من خلال ولادة العقائد المضادة للكثرة، ومحاولة نشرها والعمل على انتشارها. ومن حيث وصلنا إلى هنا ونحن نستعرض ما بدأنا به، ننطلق إلى التاريخ الموغل في القدم ونسأل بعضنا: هل يحق لأي واحد منا أن يكفِّر الآخر أياً كان وعلى أي مذهب أو شريعة أو عقيدة ؛ طالما أنه يحاول التفكر ويعمل مخلصاً على تحقيق إنجاز؟ وفي اعتقادي أن لغة التكفير هي لغة التخلف التي حملها إنسان مدن الروح السبع من خلال ( أناه )، فحين المرور من ( أور سومر) إبرام إبراهيم إلى دمشق الشام ( بولس الرسول)- ومن ثم إلى قدس يسوع عليه السلام- ومكة محمد عليه السلام- وطيبة فرعون (موسى)- وأثينا أفلاطون وأرسطو وسقراط - وروما جوبيتر وفينوس والفاتيكان، هذه السبعة التي حكمت الأرض بانفراد كل واحدة منها، ولما يقرب من ألفي عام عادت لتحكم من خلال عالم المادة وأدواته السبع المجتمعة: باريس- ولندن- وبرلين- وموسكو- وطوكيو- وبكين- وعلى رأسهم واشنطن، ضمن قيادة دقيقة أخضعت باقي الأرض لمشيئتها .
من هذا كله، نجد أن صراع المادة والروح هو صراع الفكر والكفر والتكفير، من خلال المنظور البدائي لصراع الحضارات والقوى الكبرى التي مرت في التاريخ القديم، والقوى الكبرى الناشئة في العصر الحديث؛ الذي حول الفكر إلى تكفير والعقل إلى مادة تحتاجها الروح وترفضها في آن، إذاً يعود الصراع إلى مدن الروح الذي أنشأت الإيمان وضدَّه الكفر، وطورته إلى تكفير، بينما مجتمعات المادة نهضت من خلال الفكر الذي استثمرته بشكل مهم جداً، ولم تفسح له مجالاً كي يتوه ضمن متاهات الأسطورة والمعجزة والرسالة والنبوة والآلهة والإله، ومنحته مساحات هائلة من التأمل والتفكر، ليتعلم ويعلم ما لم تعلمه مدن الروح، فعاد عليها غازياً بفكره مستلباً مادتها تاركاً إياها تتوه في رحلة البحث الطويلة عن البداية والنهاية والعلوي والسفلي والجنة والجحيم .
ليس المكفِّر بجاهل ولكن لا يمكن لأيٍّ كان أن يمنحه لقب عالم أو عارف أو فاهم، كما أن المتفكر ممكن جداً ألاّ يصل إلى مرتبة العالم، ولا يتقبل أحداً أن يطلق عليه لقب كافر بكون الإنسان امتلك حق التفكّر والتفكير، وإلاّ لما كان إنساناً، وما لا يقدر عليه أحد هو إلغاء الفكر والتفكر، ولكن بالإمكان ومن السهل جداً أن تتجاوز الكفر بكلمة: "لكم دينكم ولي دين". هذه الحوارية هي دعوة للتفكر، وللعاقل الأخذ بها أو نقضها بلغة علم المتفكر لا بجهل المكفر. التفكر يتولد من التأمل في الحال والمحيط، فيصطنع فكراً يتقدم دائماً وأبداً على مائدة الحياة المتطلعة إلى الأمام والأعلى، أما التكفير فهو المؤخِّر عن الركب والمنحدر أبداً إلى الأسفل الذي لا صعود منه، حيث ينتظر به بَدَه الأجوف الذي لا بد منه، فلا يسجله التاريخ ولا تذكره الحياة، إنه أي المكفِّر ضد ذاته يناحرها يؤخرها وهي تطالبه بالتقدم فإما أن تقتله أو يقتلها .
إن عصر النهضة الأوروبية لم يكن ليظهر لولا تخلُص الفكر من التكفير؛ الذي مرت به وعاشته مئات السنين، حيث اتجه بها إلى التفكر، وانشغلت بإيمانها بالإبداع وضرورة حضورها النهائي، فأبدعت الثورة الصناعية وأنجزت خلقاً مادياً مبهراً أفاد البشرية جمعاء، وتحول هذا التفكر إلى علوم تجاوزت حدَّ الوصف، وأوجدت علاقة نادرة بين العقل والقلب، ووحدت معادلة الروح و المادة، فظهر إيمانها بالإنسان كحقيقة موجدة للأشياء وصانعة لها، لتعود الأشياء في خدمتها أي في خدمة الإنسانية، تتطلع إليها البشرية جمعاء. فلْننهِ التكفير ولنأخذ بالتفكير، لأنه الوسيلة الوحيدة للتقدم ضمن رحلة الحياة؛ التي يجب استيعاب معانيها واستلام الرسائل من بعضنا كي تنجح الحياة.