الدواء للعلاج لا للربح الفاحش ولا للإبادة - د. خير الدين عبد الرحمن
لم يكن مفاجئاً مضمون ما قرأناه في بعض المواقع الإلكترونية على لسان وزيرة الصحة الفنلندية، فقد قرأنا وسمعنا وعلمنا الكثير عن فضائح وجرائم مرعبة في مجال صناعة الدواء وتجارته، تفوق خطورة بعضها ما جاء على لسان وزيرة الصحة الفنلندية. لكن أقوال الوزيرة تكتسب أهمية خاصة بسبب موقعها وسمعة بلادها. قالت الوزيرة: " إن أمريكا تهدف لتقليص سكان العالم بنسبة الثلثين دون أن يتكبدوا خسارة، بل يجنون المليارات. وقد أجبروا منظمة الصحة العالمية على تصنيف إنفلونزا الخنازير بدرجة (وباء مهلك) كي يجعلوا التلقيح إجبارياً لا خيارياً، وخاصة للشرائح المستهدفة أولاً من الجيل القادم وهم الحوامل والأطفال... حكومتنا الفنلندية رفضت ذلك التصنيف وجعلت درجة المرض عادية كي لا يجبر أحد على التلقيح....لا أحد يعرف مطلقاً ما هي تأثيرات اللقاح بعد سنة أو 5 سنين أو 20 عاماً !؟.. أهو عقم مطلق أم سرطان أم غيره من الأمراض والأورام المهلكة!؟ الأهم أن أمريكا أعفت الشركات المنتجة من تحمل أية مسؤولية، وذلك مؤشر خطير على النوايا المبيتة...".
ما يضاعف من أهمية تصريح وزيرة الصحة الفنلندية هو تزامنه مع ظهور نتائج التحقيقات الأولية التي أجراها البرلمان الأوربي بناء على طلب رسمي من البرلمان الروسي. أظهرت النتائج أن وباء إنفلونزا الخنازير كذبة كبرى عن فيروس وهمي اخترعه البروفيسور الهولندي ألبرت أوسترهاوس، صاحب أحد أكبر مختبرات صنع اللقاحات الخاصة بالحميات الراشحة في العالم. ما زاد هذه الفضيحة عاراً هو أن البروفيسور ألبرت أوسترهاوس يعمل في الوقت نفسه كبيراً لمستشاري منظمة الصحة العالمية !
وهكذا اتجه تركيز تحقيق البرلمان الأوربي إلى مدى استغلال هذا البروفيسور منصبه الدولي الاستشاري لاستخدام منظمة الصحة العالمية في الترويج لمنتجات مختبره، ودفع دول العالم أجمع إلى شراء تلك المنتجات وسواها من لقاحات وأدوية مضادة للفيروسات، عبر قيام منظمة الصحة العالمية بالإعلان المتكرر عن جائحة وباء تتهدد البشرية، دون أن يكون لإعلانها أسس صلبة أو مبررات كافية، مما حقق في كل مرة أرباحاً تتجاوز عشرة المليارات دولار أمريكي جنتها شركات اللقاحات والأدوية العالمية.
لم يغادرنا القرن العشرون إلا بعدما أصيب البقر بالجنون، ربما لطول ما عبد مئات الملايين من البشر الأبقار في الهند وبعض ما حولها، ولشدة ما عبث آخرون من الجشعين بطعام الأبقار وخصائص خلقها التي شاءها الله عز وجل، في أوربا والولايات المتحدة. فمن إطعام البقر مساحيق جيف حيوانات وأسماك نافقة ودماء حيوانات مذبوحة، إلى التلاعب بها جينياً، جاعلين كل همّهم بلوغ الحد الأقصى من تسمين لحوم الأبقار والتلاعب بطراوتها، ومضاعفة إفرازها من الحليب مرات ومرات أكثر من الإفراز الطبيعي. وهكذا يبدو أن البقر قد جُنّ، ثم راح ينقل جنونه إلى آكلي لحمه!
احتجت الطيور الداجنة بدورها، بعدما وصل اضطهاد البشر لها أيضاً مداه بإطعام الدجاج مثلاً كما يُطعم البقر من الدم والجيف وحقن رقابها بهرمونات تنفخ الدجاج فتضاعف أحجامها وأوزانها قسراً في أقصر وقت ممكن، فجاء احتجاج الطيور وانتقامها وباء راح يفتك بالبشر هو إنفلونزا الطيور. وسرعان ما راحت سلطات حكومية هنا وهناك تُعدم ما بلغ مئات الملايين من الدجاجات والديكة! ولم يرعو المتحكمون بطعام الناس، فالجشع قد بلغ بهم حداً من الجنون أعماهم عن أي اعتبار غير مراكمة ثرواتهم ودفع مليارات البشر دفعاً إلى مزيد من الاستهلاك، وسَوقهم كالمخدّرين أو المسحورين سَوقاً لمجاراة ما تأمر به حملات هؤلاء الجشعين الإعلانية.
هكذا جاء انتقام خنزيري بعد انتقام البقر وانتقام الطيور. جاء هذه المرّة حاملاً تلوث الخنازير ونجاسة لحومها وجلودها ودمائها وما حولها.. وحتى ما تلامسه ويلامسها من بشر وجماد وماء وهواء ! ولأول مرة في التاريخ الحديث، طلب رئيس دولة كبيرة مكتظة بالسكان من مواطنيه ممارسة إقامة إجبارية / طوعية (!) في منازلهم، فقد طلب رئيس المكسيك فيليبي كالديرون من مواطنيه في خطاب تلفزيوني لدى انتشار المرض التزام بيوتهم لخمسة أيام ابتداء من يوم الجمعة 1/5/2009!
فتش عن المروّجين لمليار ذهبي
أثيرت على الفور شكوك حول حرب جرثومية يشنها بعض دعاة فلسفة (المليار الذهبي) في الولايات المتحدة الذين هرفوا بأن المحافظة على رفاه عالمهم الأول يقتضي التخلص من (الفائض) السكاني في العالم الذي أسموه (الغبار البشري) بحيث يبقى مليار إنسان فقط من (المميزين فطرياً، أبناء المجتمعات المتحضرة)، أي من زعموا أنفسهم زوراً شعباً مختاراً، سواء كانوا يهوداً أم متهودين. هنا تتداعى ذكريات وقائع تصاعد حدة النزوع إلى الإفراط في القتل الجماعي لدى هؤلاء. فمن سوّغوا قتلاً صاخباً لملايين العراقيين والأفغان والفلسطينيين والبوسنيين وألبان كوسوفو والشيشان والفيتناميين والكوريين والصوماليين، وقبل ذلك قتل مئات آلاف اليابانيين في لحظات بقنبلتين نوويتين في هيروشيما وناغازاكي، كما سوّغوا قبل قرون إبادة ثلاثة وسبعين مليوناً من أصل ثمانين مليوناً كانوا السكان الأصليين لما بات اسمه أمريكا، وأسموهم هنوداً حمر، لا يتورعون عن ممارسة قتل هادئ بفيروسات وجراثيم وميكروبات، أو حتى بالدفع إلى الموت هلعاً من أوبئة مبالغ في مخاطرها، أو الموت كمداً من الافتقار لتكلفة العلاج.
زعمت أوساط طبية، ومراكز ومختبرات علمية أوربية أن أكثر من نصف البشر سوف يقعون ضحايا إنفلونزا الخنازير هذه، أي أن الوباء المزعوم سوف يصيب نحو ثلاثة مليارات ونصف المليار من البشر. وهكذا انتشر الرعب طاغياً في شتى أنحاء العالم ! وسرعان ما تلاحقت تصريحات تشكك بوجود وباء أصلاً، وأخرى تبشّر بانحسار الوباء وتراجع الخطر. لكن تصريحات معاكسة صدرت بعد ساعات مؤكدة أن موجة ثانية وشيكة من الوباء سوف تكون أشد خطراً وفتكاً، فاشتد اندفاع الناس لشراء اللقاح والدواء المضاد المقترح، بينما اكتفى الفقراء الجائعين الذين عزّ عليهم شراء ما يكفي من طعام بأن يسلموا أمرهم إلى خالقهم. وعندما قررت السلطات المصرية التخلص من عدد محدود من الخنازير لا يتجاوز الثلاثمئة ألف، تحصيناً لسبعين مليون مصري، أطلقت منظمة الصحة العالمية في نفس اليوم تصريحاً غريباً هاجم قرار الحكومة المصرية بإعدام الخنازير، مما يشكل تدخلاً غير مشروع في صميم اختصاصات حكومة دولة مستقلة!
منظمة الصحة العالمية في خدمة تجار لحوم الخنازير
في هذه الأثناء، احتج اتحاد تجار اللحوم الأمريكي وضغط على الإدارة الأمريكية بدعوى أن استخدام تسمية إنفلونزا الخنازير يثير هلع المستهلكين ويتسبب بكساد تجارة لحومها، فضغطت الإدارة الأمريكية بدورها على الأمم المتحدة، وإذ بمنظمة الصحة العالمية تقرر فوراً يوم 30/4/2009، في خضم الرعب الذي انتشر كالنار في الهشيم وقف استخدام تسمية (إنفلونزا الخنازير)، واستبدالها باسم (الفيروس الجديد)، أو بالرمز العلمي H1N1، على الرغم من أن تسمية إنفلونزا الخنازير مستخدمة منذ عشرات السنين في كتب الطب البشري والطب البيطري وعلم الأدوية ! وهكذا انتصرت مجدداً سطوة المال وحمى مضاعفة الأرباح بأسرع وقت ممكن - وخلال أيام قليلة - على اعتبارات مصائر البشر، وصحة الإنسان وحقوق الإنسان وهيبة الأمم المتحدة وفاعلية القانون الدولي وأحلام الفقراء!
قبل هذا الرضوخ لضغط اتحاد تجار اللحوم الأمريكي قالت معلومات عن مصدر هذا الوباء الجديد إن سببه هو قلة اكتراث شركة أمريكية بمعايير البيئة في قرية (لاغلوريا) المكسيكية التي انطلقت منها فيروسات الإنفلونزا الجديدة. ففي هذه القرية المنكوبة تربي تلك الشركة أكثر من مليوني خنزير في ظروف صحية بالغة السوء. فباتت قرية لاغلوريا والمناطق المحيطة بها منذ سنوات موطناً للأمراض التنفسية واضطرابات الغدد وأمراض القلب والشرايين والمعدة وشتّى أنواع التقيحات الجلدية السطحية والباطنية الخفية، بمعدّلات عالية جداً. وكان منطقياً وسهلاً إدراك مصدر هذه الإصابات التي طالت العاملين في حظائر خنازير تلك الشركة ومسلخها ومصانع تغليف وتعبئة اللحوم التابعة لها. كما أصيب كثير من أفراد عائلات أولئك العاملين ومن سكان القرية والمناطق القريبة منها، الذين لا ناقة لهم ولا جمل ولا حتى خنزير ! لكن سطوة المال في زمن استشراء عبادة عجل ذهبي معاصر – لعله صار خنزيراً ذهبياً - كانت كفيلة بإخفاء معالم الجريمة، قبل افتضاح أمر الكارثة وبعده. لذلك راح التركيز الإعلامي ينصب على انتشار الفيروس الجديد / القديم، ومواطن المصابين به، وتطور أعداد المتوفين بسببه، واحتمالات انتشاره، دون أي ذكر لتلك الشركة المتسببة بالكارثة ! (د. خير الدين عبد الرحمن، من جنون البقر إلى فتك الخنازير..، الفيصل العلمية، الرياض، يناير – مارس 2010)
فاجأ الصحفي وين مادسن Wayn Madsen مئات الملايين من المصابين بالهلع على امتداد العالم عندما تحدث في بداية التحذير من هذا الوباء عن سلبيات اختبار وتصنيع اللقاح الجديد الذي راهنت كبريات شركات تصنيع الأدوية عليه لجرف مئات مليارات الدولارات بسهولة ويسر من خلال استغلال هلع الناس لترويج اللقاح. نقل هذا الصحفي شهادات أطباء وخبراء عن الأمراض التي يسببها هذا اللقاح للذين يستعملونه، مثل التوحد والعديد من الاعتلالات العصبية الأخرى، نتيجة احتواء اللقاح مواد مثل التايمروزال الذي يشكل الزئبق السام نصف العناصر الداخلة في تركيبه. كذلك نشرت الدكتورة سارة ستون Dr. Sarah Stone مقالة هامة يوم 10/8/2009 عنوانها (كابوس مروّع Tainted Nightmare) تحدثت مفصلاً عن تلاعب شركات تصنيع لقاح H-1 N-1 (إنفلونزا الخنازير) وعن الأمراض التي تسببها مواد تتم إضافتها إلى اللقاح.
وقيل في البداية إن إيجاد المصل المضاد يحتاج إلى ستة أشهر، ثم تبدأ بعدها عملية تصنيعه. وإلى أن يتم هذا، لا بديل عن استعمال أدوية الإنفلونزا المعروفة والشائعة. علماً بأن القول الدارج للأطباء على امتداد السنوات الماضية هو أن تلك الأدوية تخفف الشعور بألم المرض، وتختزل بعض آثاره كسيلان إفرازات من الأنف، لكنها لا تعالجه، فمدة المرض ثابتة مع العلاج أو بدونه. في هذه الأثناء سوف تتسابق شركات أدوية كثيرة إلى تصنيع أصناف جديدة تروّج لها باعتبارها أفضل الأدوية الملائمة لقهر هذا المرض. وقبل المصل المضاد والأدوية المطوّرة سوف توّسع مصانع الكمّامات خطوط إنتاجها وتضاعف ساعات العمل وتستوعب جزءاً من الملايين الجديدة من البشر الذين انضموا إلى مئات ملايين العاطلين العمل، لكي تواجه الطلب الهائل على منتجاتها، فمليارات البشر بحاجة إلى هذه الكمّامات، وبالتالي تطلب الأسواق عشرات المليارات منها خلال الفترة القصيرة القادمة، لأن استهلاكها سريع، وأكثرا لناس يجددها يومياً أو مرة كلّ يومين، حتى وهم يستمعون إلى تأكيدات الخبراء بأن هذه الأقنعة لا تفيد شيئاً للوقاية من هذا المرض. المهم أن مئات المليارات من الدولارات سوف تستنزف من جيوب الذين هووا إلى خط الفقر وما دونه، أو الذين ينتظرون دورهم الوشيك في التهاوي، ضحايا للأزمة المالية التي بدأت من الولايات المتحدة في أواخر العام 2008 وانتقلت بتسارع شديد إلى معظم بلدان العالم. فعدة شركات كبرى تتعامل بذكاء للاستفادة من جائحة إنفلونزا البقر، والتحكم بالتغطية والمعالجة الإعلامية لها، والتفنن في نشر الرعب وزرع القلق وتصنيع الهلع رديفاً لمنتجاتها من أدوية وأقنعة وكمّامات وأمصال وسواها!
أسئلة كثيرة يمكن طرحها منذ سيطرت فكرة العولمة على الأسواق العالمية،ومنذ قررت الشركات العملاقة أن تزيد من رقعة أسواقها لتحقيق أرباح خيالية.. أسئلة مثل تلك التي طرحها الكاتب الكويتي عبد الله السويحي مثلاً (الخليج، الشارقة، 4/5/2009): من الذي يتحكم بالعالم؟ من الذي يخرب المجتمعات؟ من الذي يشعل الحروب؟ من ينشر الفيروسات والأوبئة التي تصيب بعض الدول في مقتل، بينما تنجو دول أخرى، بل تكون خالية من أي إصابة؟ هل هناك دول محصنة من الفيروسات والحروب؟ وماذا يحصنها؟ لا أحد يدري... " خلال حرب الولايات المتحدة على العراق، وبعد احتلالها، قام طبيب أمريكي بنشر إعلانات في صحف العالم، يحذر فيها من أن الحروب الجديدة هي حروب دوائية. صحيح أن الدول المنتصرة تبيع السلاح للدول المهزومة، إلا أنها تبيعها أدوية بأضعاف ما تبيعها من السلاح، ناهيك عن تغيير أنظمة تكنولوجيا المعلومات والاتصال والبنية التحتية كلها. وفي النهاية، فإن المستفيد الأكبر هو الشركات العملاقة، التي تقرر في لحظة ما أن تشعل حرباً هنا وأخرى هناك، وتنشر فيروساً هنا وآخر هناك. ألسنا نعيش حربا مفتوحة، تستخدم فيها أسلحة محرمة دولياً على البشر، فيموتون كالأغنام من دون رأفة أو شفقة من أي مسؤول، وتتحول القضية إلى ملف بارد في محكمة أكثر برودة؟ وفي الحرب المفتوحة يتاح استخدام أنواع الأسلحة كافة بما فيها الأسلحة الجرثومية، فهل يشهد العالم منذ فترة حرباً جرثومية؟ وهل هذه الحرب ستحل مشكلات هجرة شباب الدول النامية إلى المتقدمة؟ وهل ستقفل الحدود؟ وهل ستحل هذه الحرب أزمات التصحر والفقر والجوع في إفريقيا (المصابة بالإيدز)؟ أتمنى أن تكون الخنازير هي السبب، والطيور هي السبب، حتى نبقى نعيش في ظل تفاؤل، وحتى لا نفقد آخر قلعة نتحصن بها وهي الإيمان بوجود الخير في الإنسان."
لحقت خسائر كبيرة بشركات طيران ومنشآت سياحية وسواها، بينما استنفرت شركات ومصانع ومختبرات ومؤسسات عديدة لاستثمار الفرصة الجديدة التي يوفرها لها هذا الوباء الجديد المزعوم لمضاعفة نشاطاتها الصناعية والتجارية على امتداد العالم، وبالتالي تكديس مزيد من الأرباح لأصحابها.
دير شبيغل: أوكار فساد في منظمة الصحة العالمية
وصلت اللعبة إلى نهاية كان لا بد أن تبلغها ذات يوم. جاء ذلك اليوم قبل غروب شمس العام 2009، فوفقاً لتحقيق نشرته في مطلع كانون الأول 2009 مجلة دير شبيغل - أوسع المجلات الألمانية انتشاراً - تضمن مقابلات مع عدد من كبار العلماء والمختصين اتجهت أصابع الاتهام إلى أوكار الفساد لمتفشين في منظمة الصحة العالمية وأوكار محلية في عدد من دول العالم. ففي حالة وباء إنفلونزا الخنازير افتضح ارتباط تلك الأوكار بمافيا شركات اللقاحات والأدوية المضادة للرشح، ثم تبين أن مافيا تلك الشركات كانت تطلب التحذير من وباء بعد الآخر، وفقاً لبرامج إنتاجها من اللقاحات والأدوية.
قال البروفيسور توم جيفرسون مثلاً، وهو من أبرز العلماء الذين أجرت المجلة مقابلات معهم، إن تواطؤ بعض مسؤولي منظمة الصحة العالمية ووزارات الصحة في عدة دول مع مافيا شركات اللقاحات والأدوية كان يلزم مائة واثنتين وتسعين دولة أعضاء في الأمم المتحدة بشراء اللقاحات والأدوية. وسأل البروفيسور جيفرسون عن مصير جائحة وباء إنفلونزا الطيور التي أثارت الرعب بدورها على امتداد العالم وجعلت الدول تبيد مليارات الطيور، حارمة الفقراء من بيضها ولحومها، ومسببة الخسائر المادية لمالكيها. قال جيفرسون إن هذا الوباء الذي أطلق عليه مفتعلو حملة التهويل والتحذير منه رمز H0N1 قد اختفى فجأة، فمن الذي قضى عليه؟ وهل كفت الطيور عن أن تكون ناقلة للفيروس بقرار ذاتي اتخذته رحمة بالبشر؟ أم أن شركات لقاحات وأدوية عالمية قررت إطلاق وباء آخر أكثر ربحية لها!
فضيحة احتكار أدوية الإيدز
قبل الضجيج المفتعل المثار حول وباء إنفلونزا الخنازير، كانت معارك شرسة قد احتدمت بين الشركات التي صنعت الأدوية الخاصة بعلاج مرض نقص المناعة (الإيدز) من ناحية، وعشرات الدول الفقيرة التي انتشر فيها هذا المرض بشكل وبائي (أو تم نشره على نحو مفتعل ومقصود، كما تؤكد اتهامات صدرت عن جهات عديدة، منها رؤساء دول وحكومات) من ناحية أخرى، وأكثرها بلدان أفريقية فقيرة. ذلك أن الأسعار المرتفعة جداً للعقاقير المضادة لفيروسات الإيدز تجعل حصول ملايين المصابين في تلك البلدان على العلاج مستحيلاً. وقد بلغ استهتار الإدارة الأمريكية آنذاك حداً جعلها ترد على المناشدات والضغوط الدولية للتدخل لدى شركات صنع هذه العقاقير عسى أن تخفض أسعارها بالقول: لن يستطيع الأفارقة استخدام هذه العقاقير لوجوب تناولها بدقة في مواعيد محددة ثابتة، بينما هم لا يملكون ساعات لتشير إلى أوقات تناولهم الدواء !
وعندما نجح مصنع أدوية هندي في استنساخ علاج للإيدز بسعر يكلف المريض نحو مائة وخمسين دولاراً سنوياً، هاجت شركات الأدوية الأمريكية المنتجة للأدوية المضادة للإيدز، ولجأت إلى القضاء وإلى الإدارة الأمريكية لإرغام الهند على منع ذلك المصنع من إنتاج دوائه، بدعوى انتهاكه حقوق الملكية الفكرية، فإنتاج العقار يتكلف أكثر من مليار دولار، مما يوجب احتكار الشركة صاحبة براءة الاختراع إنتاج ذلك العقار لعشرين سنة... لكن مصانع أدوية في البرازيل وتايلاند سرعان ما انضمت إلى التحدي الهندي الذي كسر احتكار ذلك الدواء. وفي العام الثالث لهذا الصراع رضخت شركة أمريكية وباعت حق إنتاج عقارها إلى مئة دولة فقيرة مقابل دفع كل منها أرباحاً لتلك الشركة تعادل 5% من سعر تصنيع العقار فيها. وسمحت شركة أخرى بعد ذلك لشركات تصنيع أدوية في الهند وجنوب إفريقيا باستنساخ دوائها بلا مقابل. لكن أسعار أدوية معالجة السرطان وأمراض القلب - اللذين يشكلان سبب الوفاة الأول في الصين والهند وفيتنام وبلدان أخرى عديدة – لا تزال مرتفعة جداً بحيث لا يتمكن أغلب المرضى في البلدان النامية والمتخلفة من دفع قيمتها. (انظر مثلاً: أتوال جاواندي، صناعة الأدوية بين الربحية والاعتبارات الإنسانية، نيويورك تايمز، 20/5/2007)
أدوية وهمية ومغشوشة
لقد كثرت الدراسات والتحقيقات التي فضحت عمليات غش مذهلة في عالم صناعة الأدوية وتجارتها. لا يقتصر هذا على الدول النامية التي يسودها الفساد والرشوة، بحيث تكاد الرقابة تنعدم على شركات الأدوية التي يعمد كثير منها إلى صنع أدوية وهمية أو ذات نسب منخفضة جداً من المواد الفعالة، أو ذات مواد ضعيفة الفعالية أصلاً، أو حتى منتهية الفعالية، بل تكثر عمليات الغش في كثير من كبريات شركات الأدوية في العالم. فمثلاً، أظهرت دراسة طبية جديدة أن بعض شركات صناعة الأدوية كانت تُساهم في غش المستهلكين فتبيعهم عقاقير لا تحقق الغرض منها على الإطلاق. تبين أن نحو أربعين مليون شخص حول العالم يتعاطون عقاقير علاج الاكتئاب مثلاً، قد دفعوا مبالغ خيالية لمحاربة الاكتئاب والوحدة، بينما كان بإمكانهم استعادة حياتهم الطبيعية إذا تحدثوا إلى أفراد عائلاتهم أو أصدقاء أو جيران. أكدت الدراسة أن الثرثرة بين المريض بالوهم وآخرين أشد فعالية من تناول العقاقير الطبية. وقد درس خبراء وباحثون في بريطانيا إحصاءات عن العقاقير الخاصة بمكافحة الاكتئاب والتجارب التي أجريت عليها، قبيل طرحها في الأسواق، وقارنوا بين متعاطي هذه العقاقير ومرضى تناولوا الأدوية الوهمية أو حتى حبوب السكر. وتبين أن الذين تناولوا الأدوية الوهمية استفادوا أكثر ممن تناولوا الأدوية المهدئة للأعصاب!
وأشارت الدراسة التي أشرف عليها البروفسور ايرفين كيرش من جامعة هال البريطانية، وشارك فيها عدد من الباحثين في الولايات المتحدة وكندا ونُشرت في صحيفة (بابليك لايبريري اوف ساينس) الطبية، أن الأدوية التي تُعطى لمجرد إرضاء المريض ويعرفها الأطباء باسم الأدوية الوهمية لها فعالية أكبر من أدوية مكافحة الاكتئاب. وحضّ البروفسور كيرش الذي توصّل مع رفاقه الباحثين إلى نتيجة التجارب التي سبقت طرح أربعة أدوية مضادة للاكتئاب، على إخضاع المرضى إلى العلاج النفسي مع المشرفين الاجتماعيين أو النفسانيين وحتى نصحهم بإقامة علاقات اجتماعية مع غيرهم. وكان الأطباء لاحظوا مؤخراً تأثيرات جانبية للعقاقير المهدئة الشائعة، وخاصة بين فئة الشبان التي زادت بينها نسبة الانتحار.
كانت (...) الشركة المصنعة لدواء (....) قد باعت الدواء إلى ما يزيد على 40 مليون شخص حول العالم محققة مليارات الدولارات منذ العام 1988... من بيع هذا الدواء الذي يعتبر من أكثر الأدوية المستعملة لعلاج الاكتئاب في العالم، إذ تدل الإحصاءات أنه يعطى لأكثر من 17 مليون مريض في الولايات المتحدة لوحدها، كما يستخدم في أكثر من 100 بلد في بلدان العالم، ويُوصف أحياناً لخفض الوزن عند الذين يعانون السمنة، بل وحتى لمرض السكري، على الرغم من أضراره الجانبية مثل الإصابة بالغثيان والأرق والقلق والصداع والدوران وفقدان الشهية والتعرق والخمول واعتلال القدرة الجنسية... وقد ذُكر أن 16 مليون بريطاني عولجوا بهذه الأدوية في السنوات الأخيرة، بعدما سمحت وزارة الصحة بتداولها. كما تبين أن الأطباء أصدروا أكثر من 31 مليون وصفة طبية العام الماضي تناولت خليطاً من هذه الأدوية (الحياة، لندن، 27/2/2008). هذا نموذج من آلاف الحالات لأدوية وهمية أو مغشوشة أو ذات فعالية مشكوك بها.
متى تعود إلى العابثين بحياة الإنسان وصحته، المتاجرين بآلامه، بقايا شعور إنساني تردعهم عندما يقصّر المجتمع بتربيتهم أو تفشل القوانين بردعهم؟