يحتاجه الإنسان علمياً وطبياً كي يتخلص من سموم أعضائه وتنقيتها، وإعادة تغذية الروح وشحنها من جديد بالغذاء الروحي؛ الذي يدعو إلى فهم الجوهر الذي قام عليه منذ ذلك التاريخ الموغل في القدم، وقبل الوصول إلى الرسالات السماوية التي نسجت حوله جماليات تهذيب السلوك الإنساني، معتمدة على التحليل التاريخي حول معنى الصوم القائم على كسر الاعتياد، واختبار قدرة الإنسان، وقواه الإنسانية للسيطرة على أفعاله وأقواله وحركاته وسكناته، أي: التجديد الروحي الدائم للطاقة، وإثبات أن فكره وأفكاره وتأملاته البصرية والنظرية تمتلك قيم الوصول إلى الحياة العلمية والعملية ضمن مجرياتها.
والغاية من كل ذلك التبصّر الدائم في أسباب الوجود، والتوجهات الإنسانية التي تسير إليها لا صورة المنع القسري، فلم يحمل يوماً معنى مفردة الامتناع عن الطعام؛ التي تأخذ شكل الإضراب أو العصيان أمام الصور المادية بأشكاله المتعددة .
وبما أن الهدف الرئيس منه تزكية اللامادي وغير المرئي، أي: المخفي من الإنسان داخل مظهره كي ينعكس على الآخر، فتظهر الصورة الإنسانية في أحلى صورها، لذلك لم تكن أهداف الصوم العميقة تحمل صورة الامتناع عن إدخال الطعام أو الشراب إلى داخل الجسد؛ وإنما تهذيب ما يخرج منه أثناء التقائه بالآخر وإليه يقدم حصيلة عمله، فهو حقيقة الفعل والانفعال والوصل والتواصل، وحينما اعتمدته البشرية جمعاء على اختلاف مشاربها ومناهلها الروحية؛ وجدت فيه قيمة التخلص من الجشع الفردي البشري إلى التواصل الإنساني، وللعلم إن الأنثى وبعدما أنجزت التوطين الأول أسست لمفهوم الصوم، وأطلقته حيث كان اختصاصها الأول في عمق التاريخ، إذ الأنثى تعتبر الصوم شكراً للإله الذي أظهر بها الصفات الأنثوية.
سار الصوم إلى أن ظهر في الهند مع ( البراهما ) الذين يصومون أربعة وعشرين يوماً في السنة، وهو موجود عند الفراعنة القدماء، وعند الإغريق وعبدة النار وفي سومر وأكاد، حيث أخذ عنهم اليهود نظام الصوم المذكور في العهد البابلي من باب التقرب للإله، حينما يشعرون بسخطه عليهم، أو إذا حلت بهم الخطوب الكبيرة أو الوباء الفاتك، ولذلك نراهم يصومون أيام أسَرهم نبوخذ نصر، ويوم نجاتهم من ملك الفرس في واقعة استير، وصوم التطوع ويوم عاشوراء ويعني الشكر لله ( وهو اليوم الذي نجّى الله فيه موسى وقومه من الغرق)، والمسيحية تصوم أربعين يوماً اتباعاً لمسيرة السيد المسيح؛ الذي صام أربعين يوماً قبل تجلّيه، كما يصومون صوم التوبة (الكفارة) وصوم التعميد، وصوم أعياد الفصح، أما العرب في قريش فكانوا يصومون يوم عاشوراء قبل الإسلام، وبعده أضاف الرسول العربي عليه السلام يوماً فصار المسلمون يصومون التاسوعاء وعاشوراء من شهر المحرم، وكان النبي يصوم يومي الاثنين والخميس بشكل دائم.
آمن المسلمون بمنهج الصيام الذي عُزز في الكتاب الكريم إذ قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)، أي أن الصوم كان سائداً منذ امتلك الإنسان الموغل في القدم فَهْم أسباب وجوده في الحياة، وشكره لموجده الروحي، ومن أجل إيجاد علاقة إنسانية مع أخيه الإنسان أولاً، ومع الموجودات الحية والجامدة حوله وضمن محيطه ثانياً، وقبل كل هذا وذاك هو من أجل تصحيح ممارساتنا ومساراتنا.
الصوم في اللغة: يعني إغلاق الفم عن الطعام والكلام وكل من يمارس الإمساك عنهما فهو صائم، وعكس ذلك يعني كسر الصيام، ارتبط الصوم بحركات الشمس، والقمر، والكواكب، والنجوم، والأشهر والفصول وبعض أيام الأسبوع، فمنهم من كان يصوم اليوم كله أي نهاراً وليلاً، ومنهم نهاره فقط، والبعض يصوم جزءاً منه، ومنهم من كان يصوم عن الطعام والشراب معاً، أو عن الأطعمة الحيوانية، ومنهم من يصوم عن الأسماك والخمور، ومنهم أيضاً عن الماء فقط، وهناك من كان يصوم عن الهواء الرطب فقط بكونه مصدر الحياة، وهذا من أصعب أنواع الصيام ففيه الأوكسجين والماء وذرات الغذاء، وإن أقدم صوم في دورتنا الحياتية الأخيرة - بكون حيوات كثيرة سبقتنا- هو لنبي الله نوح عليه السلام، حيث كان يصوم العام كله عدا أيام الأعياد، كما أن رجالات من الإغريق أمثال: " أبي الطب أبقراط والفيلسوف سقراط والعالم بلاتو" قد حضّوا على الصوم كمنهج علمي روحي للشفاء، ومن أجل تجديد المكونات الحية في الجسد الإنساني المادي، وتحفيز الرؤى الفكرية التي تدعو إلى التبصر والإبصار في عالمي الليل والنهار، إنه الصوم ذو الغايات العظيمة والجليلة وأهمها نصرة الإنسان لأخيه الإنسان.
د.نبيل طعمة
المصدر : العدد 39 أيلول 2010