أنا، لا أكون بكونكَ إلاّ بكَ، وبكَ أكون أنا وأنتَ تكون، فإن لم أكنْ لا كُنتُ ولا كُنتَ، ولا كون، ولا كن فيكون، فالكون: الحدث، والكائن: الحادثة، وكونه أحدثه، وتتشابه مع بديع من بَدع، والإبداع تحويل اللامادي إلى مادي، فتكون الكاف كلية الوجود بحضوره التام، أي: الإنسان، والحيوان، والنبات، والجماد، والنون استمراره من باب نون وما يسطرون، فالكلّ يسطر الاستمرار، الإنسان الوحيد الذي سكن سرّ الكاف الكونية لتتفرع عنه مجمل الأسرار؛ التي عمل طيلة مسيرته على تفكيك معانيها رويداً رويداً، وبه استدلّ أنّ سكن كامل تلك الأسرار به على أنه مسؤول، وأنه وُجد من أجل الظهور الكلّي لكينونة الكون؛ التي بدونه لما كان عرف شيئاً منها، وحينما نعلم أن الإنسان بناهُ الكلّي السرمدي، وسكنه في الجوهر حيث أنجز منه ذلك المظهر المذكور في المقدّس كأحسن تقويم، وكذلك حمّله عقلاً لا حدود لمعرفته، حتى بدأ يظهر بحجمه الذي يتّسع للكون وما به، وكلّ ذلك يتم من خلال فكِّ الأسرار المحمولة ضمنه، وأيضاً فهِم أنه جرمٌ صغير وفيه انضوى العالم الأكبر.
وعليه نجد أن الإنسان هو اتحاد الكاف والنون، وكذلك بقية الأجناس في لحظة تشكيل كونية الكون وكلِّيته، وذلك تمّ بإرادة المكون الكلّي بصورة حضور الأمر اللّفظي، حدث هذا لمرة واحدة، ليستلم زمام أمور تلك الإرادة الإنسان، ويعمل من خلال علمه بفلسفة وجوده التي يبحث، وهو ينفّذ أمر كنْ في الحالة المادية، بعد أن امتلأت بها لغة الكون الروحية، وجدلية البحث بين ماهيّة العدم كحالة، وتحوّلها إلى وجود في حالة المتنقل، وهو المستمر بين الماضي والحاضر والمستقبل، أدت إلى ظهور بناء كوني مادي مرتبط بالبناء الكوني اللامادي، بمعنى أن اللامادي هو الكوني، والمادي هو النسبي، والإنسان نسبة من الكوني متحداً بنسبة النسبي، وأقصد طبعاً الخليّة الحيّة زائد المادة المحيطة الثابتة في النسبي، مما يؤدي إلى بلورة أشكال الوجود الحيّة، وأهمها على الإطلاق هو الإنسان، المتمتع بالمسافة العمرية القصيرة والمحدودة، والعامل خلالها على إحداث استمراره، والغاية إبقاء سيطرته على الوجود المادي، وهو المُسَيْطَر عليه من الكلّي اللامادي، الذي تبلغ عظمته في إبداع الكون بين حرفين لا زمن بينهما، أي أنه يعمله بحرف الكاف من باب منحه الثاني خلافته، وأعطاه لغة الاستمرار، بينما بقي هو ( هُو) المنزّه والمجسّد والمعذّب ضمن مثلث رسائله إلى الإنسان، فكانت الكاف ترمز إلى الكلّي، والنون إلى النور المسقط على الإنسان كي يودعها على السطور، مقتبساً اليقين الذي يبقيه متوهجاً حاملاً لرسالة الكائن في كونٍ أراد له أن يكون.
إذاً، نحن نسير على محاور الحياة، وهدفنا التجوال ضمنها، والدخول إلى أعماقها، تجذبنا فلسفة الكاف والنون والعلاقة المنشأة بينهما، صاحبة النتيجة المؤدية إلى ظهور الإنسان واستمراره، من خلال تمتّعه بالعقل الذي احتوى ضمنه الكون بكينونته، فالتفكر والبحث والغوص في أعماق التكوين ما هو إلاّ من أجل الوصول لامتلاك بعضٍ من أسرار حالة الوجود المختبئة بين الكاف والنون، الحامل الرئيس لكينونة الحياة في كونها، والتي كانت منها الأكوان كائنة حيّة، فكيف إذا حُذفت الكن، وإلى أين يذهب الكون الكائن بإرادتها الممتلَكة من الكلّي، وهل إذا انتفت انتفى الكون.
حرفان أظهرا لغة الكلّي في المقدّس، من مبدأ أن اسمه يكمن بين الكاف والنون، وإرادته في كنْ فيكون، أي في الطاقات الكلية المركبة الرئيسة للسائل والغازي والجامد- وبدقة أكثر- الخلايا الحيّة المالئة للكون، والتي أكدت لنا الأبحاث العلمية عدم فنائها، من باب أن الطاقة لا تفنى؛ بل تتحول، لنستدلَّ على أنها جوهر الأشياء المادية تنتقل بعد انتهاء الشكل المادي أياً كان إنساناً. حيواناً. نباتاً. مادة مصنعة بحكم تركيبها وعودتها بفناء المظهر إلى جوهرها، أي إلى تركيبها الذرّي المشكِّل للخلايا الحيّة، ومنه نجد أن جميع ذرّات الكون حيّة بحكم طاقة الكاف والنون؛ التي تظهر بأشكالها المتنوعة لتدور في كونها دورات حياتية تستمرّ وتستمرّ، وتأخذ الصفات والصور، تستمدّها من الطاقة الحيّة التي مُنحت للأجناس الحيّة، والتي تستمرّ بانتقالها ضمن الجنس الواحد، والملفت للنظر أن جنس الإنسان بشكل خاص لم ينقرض، ولم يختلف شكله منذ اللحظة الأولى لوجود الحياة، بكونه سببها الأول والأخير، بينما الأجناس الأخرى نجد أن الكثير منها قد انقرض وتناقص بشكل كبير، على عكس الإنسان تماماً يتكاثر بتسارعٍ هائل، وهنا أعود لكينونة الكون وسرّها المسكون بين الكاف والنون، وعلاقة الواجد بالموجود الإنساني، ووحدة الوجود الظاهرة والمخفيّة في كن الكونية.
حوارية، سرنا بها وهدفنا العودة إلى التأمّل؛ علَّنا نستلهم من الملهِم عبر الوحي المتجول بين قدرة المتأمِّل على فهم المتأمَّل به، وكلّما استطعنا فهم علاقة الكاف بالنون اتّسع العقل، مما يؤدي إلى اتّساع الكون، حيث يمنحنا فرصاً جديدة لفهم المغلق منه والعصيِّ غير المفهوم، والذي يتحول إلى مفهوم ومعلوم كلما اتّسعت القدرات العقلية، ومنه نكتشف أنه السرّ الأول والأخير؛ لكن كان الإنسان الكائن ضمن كينونة الكون.
د.نبيل طعمة
المصدر : الباحثون العدد 56 شباط 2012