يحدّده دوره وإسهامه في تحليل الأزمات، والْتصاقه بالواقع وتفاعله معه، حيث يدفعه لتقديم الحلول المنطقية التي تُظهره معبِّراً أميناً عمّا يحلم به محيطه، وكذلك لا يصطاد في الماء العكر، - أي غير المرئي- بل يرمي بسنارته في الماء الصافي، من أجل أن يرى ويمحِّص دون أن يتكلم بالحقيقة، يسكن. يهدأ. يتأمّل. كي يسمع أدقَّ التفاصيل القادمة من أعماق الماء والهواء ومشاغبات الفرقاء، لا يتحدّث إلا حينما تحتاجه اللحظة المهمة، حيث تثبت ضرورة حضور كلمته المنطوقة، أو المنسابة من قلمه، لتشكّل الاستثناء في لحظات مهمة، بكونه حاضراً ضمن السياق الطبيعي. موقعٌ تختاره الحياة الفكرية من بين كمِّ الحضور، تفرزه عن أولئك المستشعرين بأن هناك فرصة ما ينبغي انتهازها؛ دون أن يدري أن تلك الفرصة عمياء قد تؤدي لاصطياده، ومعه تصطاد صعوده، فترميه من عَلٍ، فمتى يكون المثقف منغمساً في الحال الذي ينتقل به إلى المستقبل؟. والسؤال الذي يفرض نفسه: كيف يظهر المثقف من بين تلك الأكمة - أي من بين مواطنيه وأرضه ومواطنَته - ومتى يجتاز حدوده أو يتوقف عندها ليكون مع الأكثـرية أو ضدها أو على الحياد، وأيضاً، ضمن أيِّ محور يصنع له أجنحة تحمله إلى عالم الثقافة؛ التي تؤمن أولاً بقيمة الجغرافيا، وثانياً بقوة الإنسان، وثالثاً وأهمّها مقدار الانتماء والولاء اللذين لا يظهران إلا من خلال تقييم الأداء، وأقصد بدقّة قيمة النتاج المقوَّم من المحيط الاجتماعي. فإلى أين يذهب المثقف؟.. إلى الواقع الطبيعي والمعاش، وتحركاتُه تلتقط من خلال تجوال بصره وبصيرته الآلام. الآمال. الأحلام. تحوّلها إلى لغة تنشد الارتقاء إلى الأفضل تحت مسمّى الحب، هل يمتلك المثقف لغة الانقلاب، وهو الفنان، يعلم ويمتلك لغة علم الجمال؟ فإن لم يمتلكه كان حضوره حضور القناع ما إن يُنزَع عنه حتى يظهر انقلابه على علم جماله؛ الذي يدفنه مع فنونه وجنونه وشيطان حبِّه، يعرّيه يجرّده من أدبيات وأسس ثقافة حضوره الذي بدونه لا يمتلك لغة ثقافية، أو فنية، أو معرفية بالواقع من خلال استقرائه للماضي، وقدرة انتقاله إلى المستقبل، وأيضاً دون فائق الحبِّ المتولّد من عهره العاشق لصخرته التي يسكن بها مثله، وتمثاله كيف يخرجه إن لم يتّحد معها يتعشّقها كفاتنة أبدية وكرائعة أزلية، كيف يستطيع أن يُخرج تمثاله من سجنه دون أن يتعشّقه ويعشقه؟ ومنها يجد أن القيود تافهة ولا قيمة لها، ينفضها عنه كما ينفض الغبار.
موقع المثقف ينشئه متابعوه، قرّاء لغته، وبمقدار ما يقدمه من قيم تحمل مصداقية قراءته لهم، فالمثقف فنان يعلم ويمتلك علم فنون الجمال وهيبته؛ التي تحضر منها قيمته، كأن يشير إلى الوردة الظاهرة في جمالها على الأكمة حيث تكون مولدة الأمل، ومنه نجد أن موقع المثقف أسٌ اجتماعي. اقتصادي. سياسي، يربط محاور هذا المثلث إليه ويرتبط بها، فالمياه الراكدة وسكونها الزمني لا يمكن للمجتمع أن يرى دوائرها المنتظمة، وأبعادها، ومقايساتها إلا بعد حضور تفاعل المثقف الواعي والمنتمي لقضايا أمته على اختلاف محاورها المتنوعة بتعددها، ورميه بكلماته التي تنشئ وحدة ألوانها، وفي ذات الوقت تجعل منه مسؤولاً عن حراكها، فالكلّ وأقصد مجتمع المثقفين لديهم قضية خارج ذاك الجنون العالمي الذي يدعو المثقفين للانبلاج منه يحتاج الوعي من خلال دقة امتلاكه لمفهوم التعدد والتنوع، ونهج طريق التأثر بالأرض والسماء منجبَي الإنسان يؤدي إلى إحداث الإيمان بالملحية الحتمية لوحدة تنوع الإنسان.
موقع المثقف قضية حياة وأثرٌ متروك بينهما، حيث التقييم للنتاج الواقعي الذي ينقله إلى المستقبل كأثر مؤثر في حركة الواقع، يحضر بقوة الأثر القادم من التأثّر، فما نزرع نحصد، والحصاد نتاج الاجتهاد، فإلى أيِّ موقع يتّجه المثقف ضمن عالم ملأه الجنون.
المصدر : الباحثون العدد 59 أيار 2012