أم ثقافة العروبة، من أين نبدأ كي يكون لنا عود على بدء، وما تلك العلاقة الجدلية أو الكيميائية بين اللغة الأم ومكوناتها من فهْم تراكم مفرداتها كشخصية لغوية، وعلى كافة مسارب تنوعات الحياة التخصصية؛ فتُظهر حاملها كموجود حقيقي، يحضر بها، لتنمّ عنه ثقافة وغنى معرفياً بمعاني ما يلقي من كلماتها.. هذا يقودنا إلى ما ننشده من عنواننا؛ الذي يدعونا إلى البحث العميق فيما يجري على عروبة ثقافتنا، أي مجموع التاريخ بما حواه من تراكم حضاري موغل، أي علينا الإقرار بأن لدينا ثقافة هامة جداً وهائلة تدعونا إليها، منادية إيّانا للاشتغال عليها من خلال الانتباه لذاك الاغتيال العنيف؛ الذي يمارَس على عروبة ثقافتنا الوطنية وبشكل مدروس ودقيق، فالذي يحدث هو عمليات فصل مبرمج وممنهج لمسيرة الفكر الإنساني عن تراثنا العربي، والغاية الخبيثة الكامنة وراء ذلك، هي إبعاد أسُسها التاريخية الحضارية، وإسهاماتنا في بناء الفكر والعلم العالميَين المستمرَّين حتى اللحظة التي نحياها، وإلى ما سيأتي من المستقبل المنظور واللامنظور.
جميعنا يعلم ذلك التعتيم الرهيب الذي يمارَس على الفكر الإنساني العروبي الحقيقي، والحقيقة الحاضرة الساكنة بين الماضي والمستقبل؛ التي تتجلى في الحاضر الحيِّ، يتحمّلها المفكرون والأدباء والصحفيون حَمَلة المشروع الثقافي النهضوي العربي، الذي يعنونهم إن أخلصوا له باسم المثقفين، قابلاً بهم ومُعلياً شأنهم فإذا لم يكونوا عليه؛ كانوا على شاكلة المسطّح الحامل للتكاثف اللامعرفي.. والسؤال الذي يفرض حضوره على شخصية أمتنا العربية: هل العروبة تحتاج لتعريب، أليست العروبة قيمة إنسانية، لها جذرها كما للأمم الأخرى، ألم يحتَج هذا الجذر لرعاية دقيقة حتى نما وترعرع، وأخذ حضوره بين الأمم، وإلاّ كيف كان لهذه الأمة ذكرٌ تاريخي مجيد؟، ألم يمتلك أولئك الراعون لنموّها وظهورها ثقافة نوعية اختصّوا بها، أي أنهم استوعبوا حضور التحضّر الذي ما كان ليصل إلينا لولا تلك الدهشة المنجزة لحضورهم ضمن مساحة زمننا الذي كانوا فيه، من أجل أن نكون، فهل نحن اليوم بحاجة لإعادة فهمها، وتقديمها من جديد على تلك الأسس الآبدة والراسخة في العقل الإنساني، ألا تحتاج رعاية جديدة كي لا يستعربها الأعراب الذين يحاولون تحويلها إلى عروبة مستباحة، وخليط هجين «بوب وسامبا وروك وهزّ للخصر الحزين»، وكذلك هي أفكار: «توم وجيري والكاوبوي وأرسين لوبين وهيتشكوك»..؟! غزو استشراقي دائم متطور ومتجدد، يترافق مع التطور البسيط للفكر العربي الذي لم يخرج عن فكر الاستشراق قيد أنملة، وفي ذات الوقت لم يستطع أن يفكر في استغراب الغرب، أو أن يؤثر فيه ولو بفكرة واحدة، ترسم صورة ثقافية تخلّد المشهد الثقافي العربي، لماذا؟.. ضرورة تفرض حضورها على الواقع، لنتفكر.
كذلك لنلحظ أن الأمم الجديدة التي ظهرت؛ ليست من ذاك البعيد من الزمن، خلقت ثقافات، أوجدها مثقفوها من فكر تأمّلي، عزّزوها ووثّقوها إلى أن غدت استشهاداً لنا، نحن العرب لا يمكننا التحدث دون أن نأخذ بما قالوه.. فأين نحن اليوم من أصالة العروبة، وكيف نعيد لتك الأصالة ألقها وقوة لغتها التي نحتاجها اليوم، حينما نعود إلى تلك المعلقات/ القواميس كي نفهم بعضاً من مفرداتها، تلك اللغة الراقية والقوية شهد لها التاريخ لا التأريخ؛ الذي عمل الكثير من الأعراب على استباحتها بشكل خطير، فمنذ زمن يعملون وبدعم هائل تحت لواء الفكر الاستشراقي، والغاية دائماً استعراب ثقافة العرب المؤصلة بأصباغ لغة الحداثة الغربية على صورتها، وبما أن الأجيال العربية الصاعدة بتسارع الحداثة ودخولها مباشرة في عوالم الاتصالات المتجلية على شبكات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، والمعلومات الخطيرة القادمة منها وغير الموثقة والمتلاعب بها، فإن غايتها الأولى والأخيرة تشكيل الخلط الثقافي، وإن مآل هذا التخبط والانحراف الفكري سيكون إلى ضياع الحقيقة وإلباسها أثواب التشكيك وتشويه دقة معانيها، لنجد في المستقبل القريب أجيالاً تشكك بمصداقية حضورها العربي، وأن التأريخ الذي يقدّم لها يدمّر البناء الحقيقي لشخصية الإنسان العربي بشكل عام، وضمن أقطاره المجزأة بشكل خاص.
أيها المثقفون العرب: ما معنى عروبة الثقافة وثقافة العروبة، أين نحن من التيارات والمذاهب والعقائد والأديان، أين نحن من ثقافة الأداء والبناء والولاء والانتماء، أين نحن من البناة الحقيقيين الذين يهابون ويخشون بالحب ثقافة عروبتهم، وبها ومن كلماتها يستمدون أفكارهم، ويستلهمون الإيمان من جذورهم، أين ذاك الربط بين الماضي والمستقبل، كي نعلم أننا نحن الحاضر، نستند إلى ما مضى مستعدين دون تهيّب بعلمية ثقافتنا إلى المستقبل، كي لا نبقى أعداء الغد من جهلنا فيه، لا منتظرين ومتطلعين إلى الأطلال دون قيَم معرفية أو فهمية أو علمية؛ فنتأخر بسبب سكوننا.
المصدر : الباحثون العدد 60 - حزيران 2012