إنه ليس لعبة فكرية نمارسها وننتظر نتائجها، يقع ضمن معنى ممكن أن يكون هذا أو ذاك، ولا وجود له في المستحيل ومفقود في اليقين، حيث يعيش متجولاً في العقل والتحليل الذهني، وعليه يكون غير منظور من العين المبصرة، يتكون من رؤية فكرية تخالف الشك والقلق ولا يحمل الرؤية العينية، حيث يتشابه مع التخمين ويختلف عنه بكون الأول يخص الإنسان والأعمال والأفعال، والثاني أي التخمين يختص بالمكونات المادية تتعدد أشكاله، فحينما يكون معلوماً وعلمياً يتحقق فيه التصور للمتفكر به أياً كان نوعه ، وفي حال الجهل يبدو على شكل توهم لأي شيء أو فكرة لا تمتلك أي أساس علمي، والفرق بينهما هو الإثبات الذي ينفي الظن أو يثبت خطأه، فإذا كان مبنياً على معلومات سليمة صدق وإن قدم إلى العقل المتفكر من معلومات غير صحيحة فشل وكذب، ودائماً وأبداً الصدق في المعلومات الواردة تفقد الظن حضوره وتبعد الوهم وتقتل الشك، عليه يكون الظن فوق الشك ودون اليقين، وهو يخضع لنظرية الاحتمالات غير الممتلكة لدقة التوقع وختام الإجابات الصحيحة، يحصل الظن من الوشاة المارقين في الحياة، والمتمردين على لغة الصح وغير المنتفعين يبثونه من أجل غايات خبيثة، فيخلطون بين الحقيقة وضدها، وهنا أستحضر الآية الكريمة الخالدة على سطور المقدَّس (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ) فكيف إذا كان كله! فإذا كانت هذه الدعوة لاجتنابه والابتعاد عنه، فكيف بنا نتبادله؟ ألا يشكل دعوة للتأخر حين الأخذ به ؟ وفي العلم هو علم لم يتحقق وفي الحسِّ لم يلمس، وإذا استجاب له المرء أنهى وجوده من عالم الاجتماع، وأصابه في تطوره بالشك المؤدي إلى الانعزال، ومن ثم تحوّله إلى مرض عضال .
إنني لا أتحدث عن الظن الإيجابي والذي يصدق في كثير من الأحيان متقارباً مع نظرية الاحتمالات، وسنعرج عليه، إنما أقصد الظن السلبي والمتجسد في الإنسان الظنون الذي لا يوثق به ولا بخبرته بكونه يحمل ظن التخلف والتأخير، يعيش بينهما الحسد والكراهية والحقد، وعليه يكون صاحبه مفتقداً إلى ثقته بذاته وبالآخرين، ورجل فيه ظِنّة متهم، أي يحمل تهمة تلبسه، وفي المعاجم ( البئر الظنون ) أي البئر الذي لا يوثق بمائه .
لا يفسر الظن دائماً بمعنى سلبي، وكثيراً ما يكون عند العاقل المالك للعلم والفاهم لطبيعة الحياة إيجابياً فلا يتهم البريء حتى ينفي الشك باليقين بكون الظن يعيش بينهما، ودائماً وأبداً الإثبات هو أداة نفي الظن والشك ، واليقين يتأكد من خلال الشواهد العلمية والروحية النظرية والعملية، والتي يجمع عليها جمهرة الفاهمين المالكين لقواعد فهم أصول الحياة، والمترفعين عن مغرياتها حيث ينجزون الأحكام ويضعونها في مقاماتها النافية للظن والمنهية للشك المدعمة باليقين .
يتجول الظن متحولاً إلى لغة دافعة تحدث التطور عند الآخر المظنون به، حيث يندفع إلى إثبات حسن العمل وتقديم الجيد، وغايته هنا التطوير ولا يستخدم إلا من قبل العاقل الواثق، وحينما يطرحه بأسلوب الإشارة البصرية أو الحركات اللفظية يؤدي إلى الإفادة والتطوير .
يعتبر الظن من الأدوات المعطلة التي توقف تطور الإنسان الفاعل إن تمكن منه وأدخله في البحث عن التفاصيل المنجبة للقلق الفتاك والشك الهدام، وعليه تكون ضرورة التخلص من الشك السلبي الجاهل؛ الذي يؤدي إلى التخلف وفقدان العلاقات وإنهاء العملية التطويرية والتخلي عن الصبغة الإنسانية، أما الظن العلمي فلا ضير من امتلاك بعض منه، بكونه يخدم العملية العلمية الإنتاجية للحياة الإيجابية .
لا ينبغي لنا أن نظن ببعضنا إلاّ الخير، وأن نبحث في حالة الظن التي تنهي الشك باليقين، بكونها تعيش بينهما تربك الفكر وتقلقه وتؤرقه، بعدها نقرر ما نريد أن نفعله بدقة من خلال امتلاكنا للمعرفة الموثقة فتنشأ الثقة ونستمر مع بعضنا، ويستمر معنا مسيرنا الكوني فننتج .
د.نبيل طعمة
المصدر : العدد 24 - حزيران 2009