قليلة هي حواضر التاريخ التي كَرَّمت مواطنيها بمثل ما فعلت تدمر. ونعرفُ هذه الحقيقةَ يقيناً من العدد الكبير من النقوش الكتابية على أبدان الأعمدة أو على جبهات قنصلياتها أو في مواضِعَ بارزةٍ أخرى في الأماكن العامة كشارع الأعمدة [الشكل1] أو الأغورا (السوق العامة) أو المعابد في تدمر. وهذه النقوش [الشكل2] كانت تشير إلى النُّصُب أو التماثيل التي تعلوها للأشخاص المكَرَّمين والتي لم يصلْنا منها اليوم إلا ما نَدَر. فما نراه من هذه النقوش، والتي بقيت ولحسن الحظ، كان كلُّه تدعيماً وشرحاً للتماثيل التي اختفت في عصور لاحقة حيث كانت تُبرِزُ ملامح شخصياتها الذين كرَّمتهمُ المدينة باستحقاق نظراً لأعمال جليلة كانوا قد قدَّموها لخدمةِ مدينتهم وشعبهم. كل هذا نعرفهُ من استنطاق الأحجار الصّماء في تدمر. هذه الأحجار الصماء التي كانت تنطق باللغتين: الآرامية التدمرية، وباليونانية القديمة. وهذه الأحجار هي المصدر الوحيد لمعلوماتنا الوثائقية عن هذا الموضوع.
من كان يُكَرِّم من في تدمر؟
الواضح أن موضوع تكريم أشخاص معينين في تدمر كان يتم بأمر من جهةٍ ما في المدينة تملك حقَّ التكريمِ بقوة القانون. ونَسْتَدِلُّ من العديدِ من هذه النقوش الكتابية التكريميةِ المعلنةِ في أماكنَ بارزةٍ من المدينة أنها كانت صادرةً عن هيئتين تشريعيتين مُنْتَخَبَتَين هما مجلس الشيوخ (أو الشورى) والذي كان يُعرف باسم "بولا" بالتدمرية وهو لفظ دخيل من اليونانيةή = Boule ويعني حرفياً "الإرادة" أو "المشيئة" أو "الرأي"، ويمكن تعريبه بمجلس الشورى أو الشيوخ، ومجلس الشعب الذي كان يُعرف باسم "د م س = ديموس" بالتدمرية وهو الآخر لفظ دخيل من اليونانية Demosή ويعني الشعب. وكانت هاتان الهيئتان هما المولجتين الشؤون البلدية والتنظيمية والعمرانية في مدينة تدمر وتَحكُمان المدينة بضربٍ من الديموقراطية والاستقلال الذاتي [ إلى جانب سلطات أخرى قضائية وإجرائية هي أعضاء مجلس العشرة أوώ = Decaprotous ووكلاء السلطة القضائية "سدقيا" بالتدمرية أوٍ = Syndicous باليونانية والأرخونين المكلَّفين بالسلطة الإجرائية ά = Archontas باليونانية.
وأيضاً، وكما تشير النصوص التكريمية، فإن بمقدور من يشاء من أعيان تدمر أن يُكَرِّمَ من يشاء من مواطنيه، ولم يكن حقُّ التكريم مقتصراً على مجلسي الشيوخ والشعب فقط. وهناك تكريماتٌ قدّمتها هيئاتٌ أخرى كنقابات حِرَفية وغرف تجارة وغيرها.
نعلم جميعاً، ولا شك، أن تدمر بَنَتِ اقتصادها وازدهارها وقوتها الحضارية والعسكرية على التجارة والترانزيت بالدرجة الأولى. فأهل تدمر اكتشفوا في حقبةٍ مبكرة من تاريخ مدينتهم أمراً هاماً وهو أنّ قوافل التجارة التي كانت تجوب المسافات الكبيرة على طرقها، كانت بحاجة إلى عدد من الخدمات الحيوية أهمها عنصر الأمن: أي تأمين الطرق ضد اللصوص وقُطاع الطرق ثم عنصر اللوجستية أي تأمين المبيت والاستراحة والخدمات البلدية المرتبطة بها وتأمين الحاجات الضرورية كالتزود بالماء وبالأغذية أثناء الإقامة أو العبور( الترانزيت). فقد عملوا على تأمين هذه الخدمات في مدينتهم وعلى طرق التجارة التي كانت تقع ضمن نطاق سيطرتهم. فحموا القوافل بأن ضمنوا لها الأمن والأمان بمرافقةِ خفراء كانوا يحرسونها. ولعل هذا العنصر كان الأهم من بين كافة الخدمات الأخرى. ومن هنا نشأت أهمية القوة العسكرية التدمرية التي كانت توفر المحافظة على أمن المدينة وأمن القوافل وأمن المملكة ضد الدول المجاورة الطامعة. فلذا نرى أن من بين المواطنين المكَرَّمين في تدمر الضباط وحَمَلة الرتب العسكرية. كما أن ترقية التجارة داخل المدينة وخارجها على نوعيها الداخلية والخارجية، كانت من مهام التجار الكبار ورؤساء القوافل وأرباب السوق، فاستحق بعض هؤلاء التكريم أيضاً. كما أن الفئة الثالثة التي استحقت التكريم أيضاً هي فئة رجال الدولة من الإداريين والموظفين وغيرهم ممن كانت لهم آثارُ إيجابية على تنظيم الحياة والمرافق الحيوية في تدمر. ولا يخفاكم الدور الكبير لعملية الإدارة والتنظيم في حياة المجتمعات المتحضرة.
وثمّةَ أشخاص غير هؤلاء ممن لا ينتمون إلى أيٍّ من هذه الفئات الثلاث حظَوا بتشريفاتٍ مماثلة أيضاً في تدمر كالكهنة مثلاً.
بعد هذه المقدمة، سنقوم باستعراض نماذجَ مختارةً من التدمريين الذين كَرَّمَتهم مدينتُهُم علانيةً، وغالبيتهم حظَوا بتماثيلَ لهم كانت تقوم فوق قنصلياتِ الأعمدة سواءً منها تلك التي في المعابد أم في شارع الأعمدة أم في الأماكنِ العامة كالأغورا. والحق يُقال إن هذه القنصليات أو النواتئ البارزة من أبدان الأعمدة كانت سمةً بارزةً لمدينة تدمر من بين الحواضر القديمة ولا نجد ما يماثلها من حيث كثرة عددها. ففي أفاميا يوجد عدد لا بأس به منها ولكن ليس بالكثرة التي هي عليه في تدمرَ. وإن دل هذا على شيء، فإنما يدل على الديموقراطية الواضحة التي تميزت بها تدمرُ عن سواها، لأن هذه القنصليات كانت مُعَدَّةً سلفاً لتكريم مواطنيها ليس إلا. كما أن من اللافت أيضاً أن ملوك تدمر لم يحظوا بتمييز عن مواطنيهم في التكريمات أو التشريفات التي حظي بها هؤلاء الملوك، فكان الملوك من بين المُكَرَّمين فقط لا غير. غير أن التاريخ الذي وصل إلينا لم يردد أسماء عظماء تدمر بمثل التواتر الذي نعرفه ويعرفه العالم عن شخصية أذينة أو زنوبيا أو وهب اللات أو زبداس أو زبدا أو كاسيوس لونجينوس، حتى ليخال المرءُ أن تدمر لم تَجُدْ بذكر غيرهم من الشخصيات الهامة، وحتى أن المتداولين لتاريخ تدمر والمتحدثين عنها عموماً لا يعرفون إلا هذه الشخصيات فقط وانتهى الأمر. فهؤلاء " المتداولون" أو " المتحدثون" لا يقرؤون الكتابات التي تَعُدُّ بالمئات حيثما اتجهت في تدمر ولا يقرؤون ترجماتها المتوفِّرةَ لطالبيها لكي يمدوا أنظارهم إلى ما وراء أفق أذينة أو زنوبيا، والسبب واضح: وهو عدم إلمامهم باللغتين الآرامية التدمرية وباليونانية القديمة، بل وحتى أنهم لم يطّلعوا على ترجماتها المنشورة في الدوريات والبحوث العلمية. غير أن الحقيقة هي غيرُ ذلك بالمرة، وإنّ ما جادت به نصوص تدمرَ من معلوماتٍ عن مواطنيها لافتٌ إلى الدرجة التي حملتني على التعريف بهم من خلال هذا البحث.
نبدأ، من زنوبيا الملكةِ العظيمةِ: فعلى بدن العمود الثاني من الأعمدة الثمانية إلى يسارك قبل بلوغك مصلبة التترابل [الشكل 3] تجد النقش الكتابي اليتيمَ الذي يُكَرِّمُ ملكتنا العظيمة التي كان يقوم تمثال لها على ناتئة أو قنصليةٍ مبتورة اليوم فوق الكتابة. والنقش الكتابي التكريمي باللغتين: اليونانية من الأعلى وبالتدمرية من الأسفل [الشكل 4]:.
يقول النقش اليوناني:
í#á
üííáöáìá
öáá³á#éÈó
óü°õ
وتعريبه:
"صاحبة الجلالة زنوبيا الملكة الباهرة والتقية. صاحبا السعادة الأفضلان زبداس القائد الأعلى وزبّاي القائد المحلي للقوات (أقاماه) لسيدتهما عام 582 بشهر لوو".
أما النقش التدمري فيقول:
" صلمت سبطيميا بت زبي نهيرتا وزديقتا ملكتا. سبطميوا زبدا رب حيلا ربا وزبي رب حيلا دي تدمور قرَطسطوا أقيم لمرتهون بيرح آب دي شنت 582 ."
وتعريبه:
"تمثا(لة) صاحبة الجلالة بات زابِّي الملكة الباهرة والتقية، صاحبا السعادة الأفضلان زبدا رب أرباب القوات وزابّي رب قوات تدمر أقاماه لسيدتهما بشهر آب عام 582 " ويعادل هذا التاريخ عام 271م.
يُلاحظ من هذين النقشين التكريميين اقتصارُ الألقاب التي حظيت بها الملكة على سبطيميا وهو لقب تشريفي اسْتُخْدِمَ نفسُهُ في النقش ذاته لمنصبي قائدي القوات أي الجنرالَين زبدا وزابّي وكذلك اسْتُخْدِمَت لفظة فاسيليسا اليونانية بمعنى ملكة التي تقابلها في النقش التدمري لفظة مَلَكتا بالمعنى ذاته، ولم تُعطَ الملكةُ في هذا النقش من الصفات سوى لفظتي "الباهرة" و"التقية" تكريماً لها. وهذه الألقاب والصفات متواضعةٌ جداً إذا ما قورنت بالصفات والألقاب التي كانت تُعطى للملوك في الفترة الأيوبية والمملوكية والأتابكية مثلاً. فعلى واجهةِ معبد بِل التي سدّها يوسف بن فيروز الأتابكي بجدارٍ ليُحَوِّلَ المعبد إلى حُصْن، نقرأ النقش العربي التالي:
" بسم الله الرحمن الرحيم: أمر بإنشاء ذلك الحائط المعمور وإنشاء الحائط الشرقي الأمير الحاجب الأجلّ، السيد الكبير، المؤيَّد، ناصر الدنيا والدين، عُدَّةُ الإسلام، سيف الدولة، مُعْتَمَدُ الملك، مُعين المجاهدين، شرف الأمراء، فخر الجيوش، ذو النجابتَين، أبو الحسن يوسف بن فيروز الأتابكي أمير المؤمنين من خالص ماله في شهور سنة سبعٍ وعشرين وخمس ماية " ويوافق هذا التاريخ الهجري عام 1133-1134م.
ولا نريد التعليق على الفرق بين هذا النص وسابقه.
وعلى العمود الثالث المجاور لعمود زنوبيا نقرأ نقشاً تكريمياً آخر مكرساً هذه المرة لأذينة الملكِ العظيم وهو بالتدمرية فقط:
"صلم سبطميوس أدينت ملك ملكا و متقننا دي مدنحا كله. سبطميوا زبدا رب حيلا ربا و زبّي رب حيلا دي تدمور قرطسطا أقيم لقرهون بيرح آب دي شنت 582. " وهذا النص يُكَرِّم الملك بعد رحيله بثلاثة أعوام. وتعريبه:
" تمثال صاحب الجلالة أذينة ملك الملوك ومقوِّم الشرق كلِّه... والباقي كما ورد في نص تكريم زنوبيا."
أذينة حظي ببضعة تكريمات أخرى قبل أن يتربع على عرش تدمر، وإليكم إحداها فيما يلي:
يأتينا نقش تكريمي لأذينة الذي لم يكن قد أصبح بعد ملكاً على تدمر، من شارع الأعمدة الذي يلي المصلبة وترتيبه الخامس إلى اليمين.
يقول النقش الإغريقي المكون من عَشَرَة أسطر:
ίίάάώοάάώήάήώίήέέόόί
ما تعريبه:
" لسبطيميوس أذينة بن حيران بن وهب اللات النصوري الإكسرخوس الباهر للتدامرة. صديقه يوليوس أوريليوس أثيناكافوس بن عجيلو بن زبدبول المعروف أيضاً بِقُرَّا، أقامه تكريماً له عام 563 في شهر كسانذيكوس." أي نيسان من عام 252 الميلادي.
ويُكَرِّمُ هذا النص الملكَ المقبل لتدمر والذي كان مازال يشغل منصب الإكسرخوس أي الوالي المُعَيَّن من السلطة الرومانية.
ومن أذينة إلى حيران ابنِه الذي يُكَرِّمُهُ نقش من شارع الأعمدة مُشوه في قسمه العلوي المنقوش بالإغريقية وسليم في قسمه السفلي المنقوش بالتدمرية والنقش مكون من ستة أسطر قراءتها :
"صلما دنه دي سبطميوس حيرن بر أدينت سنقلطيقا نهيرا ورش تدمور دي أقيم له أورليوس يوليوس بر مريافلينا رعي فلحا رب لجيونا دي بحرا ليقره بيرح تشري شنت 563." أي 251م.
وتعريبه:
" هذا التمثال هو لسبطيميوس حيران بن أذينة السّنْقُل الباهر ورئيس تدمر الذي أقامه له أوريليوس يوليانوس بن مريافلينا قائد الجند وآمر حامية البحر تكريماً له في شهر تشرين الأول من عام 563." أي 251م.
حتى الآن كنا نقرأ تكريمات خاصة بالأسرة الملكية الحاكمة، وسنكتفي بهذا القدر منها لنرى مَنْ مِنَ المواطنين التدمريين حظي بتكريمات مماثلة.
نبدأ من التكريمات في معبد بعل شمين:
أولاً. مالئ أو أغريبا بن يرحاي الأمين العام:
من إحدى قنصليات واجهة معبد بعل شمين يأتينا نقش كتابي تكريمي يعود للعام 131 الميلادي، وهو مكون من اثني عشر سطراً يونانياً وثمانية أسطر تدمرية. إليكم ما جاء في النص التدمري:
بقرار (مجلسي) الشيوخ والشعب أقيم هذا التمثال لـِ ”مَالئ“ بن يرحاي بن سمش بن راعي الذي هو الأمين (العام) للمرة الثانية ولما أتى سيدنا هادريان الإلهي وَهَبَ الزيت لأبناء مدينته وللجيوش [أو الجند] وللأجانب الذين أتوا معه وفرش معسكره بكل شيء وبنى الهيكل وبهوه (الرئيس) وزخرفته كلها من كيسه لبعل شمين ولددحلون ... [هـ د]... من بني يديعبل بشهر نيسان سنة 442 (= نيسان 131م)
كما رأينا يتحدث النص عن زيارة الإمبراطور هادريان إلى مدينة تدمر التي تمت عام 129م أي قبل تاريخ نقش هذا النص بعامين تقريباً. وتُلاحظ ظاهرة العدوى الثقافية- اللغوية بين اللغتين اليونانية والآرامية التدمرية ففي هذا النص وحده توجد سبعة ألفاظ تشهد على هذه الظاهرة.
وبالمناسبة أذكر هنا أن الإمبراطور هادريان قام في العام 131 م نفسه بزيارة مدينة جرش بالأردن ولدينا نقش كتابي احتفالي تكريمي مطول ضخم باليونانية على بوابة هادريان هناك التي أقيمت على شرفه حيث يوثق لنا هذا النقش المناسبة ويحتفي بقدومه.
ثانياً. مُكَرَّمون بقيت تماثيلهم وذهبت أسماؤهم:
من المُكَرَّمين في معبد بعل شمين مواطن تدمري نرى تمثاله على أحد الأعمدة من الرواق الشمالي الشرقي وقد نُحِتَ من أصلِ بدن العمود ضماناً لإدامة التمثال، ولكن ذلك لم يَحُلْ دون فقد رأسه، ولا نعرف اسمه ولا صفته لأنه لا يوجد نص يعرف به.
وثمة مواطن آخر مثله على عمود مجاور نجهل اسمه وصفته والسبب الذي من أجله كُرِّمْ.
ثالثاً. تكريمات موجزة جداً على أبدان الأعمدة:
وعلى أحد أبدان أعمدة معبد بعل شمين نقش تدمري يُقْرَأُ كما يلي: "مطلتا ده كله قرب عليشا برلشمش بر زبدبل " وترجمته :" هذا الرواق كله قدمه عليشا بن لشمش بن زبدبل."
ومن معبد بعل شمين إلى معبد بل وهو المعبد الأهم والأضخم في تدمر حيث التكريمات بالعشرات وسنقف على ست عينات منها فقط نبين على هذه الصورة مواضع القنصليات التي تحملها:
رابعاً. عزيزو التدمري الغيور:
تحمل قنصلية أحد الأعمدة في معبد بل إحدى أقدم الكتابات التدمرية المكتشفة والعائدة للعام 19 الميلادي أي أنها معاصرة للسيد المسيح في دور الإمبراطور طيبيريوس.
تعريب النص التدمري:
” بشهر آب سنة 330 (=آب 19م) هذا التمثال (هو) ليديعبل بن عزيزو بن يديعبل (الذي) من بني متَّبول (و)الذي أقامه له التدمريون واليونانيون الذين بسلوقيا لأنه ترأّسَـ(ـهُم) وساعد(هم) بالعطاء الجليل لبيت بل.
يلاحظ من هذا النص أن قوافل التجارة التدمرية كانت تصل إلى سلوقية بابل على الدجلة، وهي المُعَرَّفَة اليوم بالمقابِلة لطيسفون على الضفة الغربية لدجلة بينما طيسفون هي على الضفة الشرقية لنهر دجلة، وتشكل معها ما يعرف بالمدائن، عند تقارب نهري دجلة والفرات إلى أصغر مسافة بينهما في العراق اليوم.
خامساً: رئيس قوافل تجارية قَدِمَ من البصرة والكوفة
يُكَرِّمُ نقش آـخر من معبد "بل" رئيس قوافل التجارة نسا بن رفائيل بن عبسي الذي قَدِمَ مع جماعته من مدينة "فرات" والتي أخذت فيما بعد اسم البصرة ومن مدينة " ألغشيا " التي أخذت فيما بعد اسم الكوفة. وقد كَرَّمَتْهُ قوافله بإقامة تمثال له في أحد أروقة معبد بِل.
يقول النقش التدمري ما تعريبه:
”هذا التمثال هو لِنَسا بن حَلا بن نَسا بن حلا بن روفائيل بن عبسي الذي أقامته له جماعتُهُ الذين صعدوا معه من فرات (البصرة) ومن ألغشيا (الكوفة) لأنه كان محبوباً لديهم وقام برئاستهم وساعدهم في كل الأمور لتكريمه بشهر نيسان سنة 453 (= نيسان عام 142 ميلادي).
سادساً. وتاجر آخر يُكَرِّمُه تجار مدينة بابل ومجلس الشعب بدون مجلس الشيوخ:
يأتي نقش آخر من قنصلية على العمود الثالث من الرواق الجنوبي لمعبد "بِل" وهو مكون من ستة أسطر تدمرية وثلاثة يونانية ويُكَرِّم بموجبه تجار مدينة بابل (حسب النص التدمري) ومجلس الشعب التدمري (حسب النص اليوناني) التاجر ماليكو الملقب حشاش من بني كمرا نظراً لإنفاقه المال على بناء هيكل بِل. والنص مؤرخ في شهر تشرين الثاني من عام 24 الميلادي وهو من أقدم النقوش ويشير إلى التجارة الواسعة المدى التي كانت تقوم بها تدمر. جدير بالذكر أن بني كمرا(ولفظة كمرا آرامية تعني الكاهن) هم الذين بنوا معبد بِل.
سابعاً. ومدينة تدمر تُكَرِّمُ مقيمو بن عجيلو لأنه جادَ بتقدماتٍ عينية حُدِّدَت قيمتها في النقش التكريمي نفسِه:
على القنصلية الثانية من الرواق الشرقي نقرأ عليكم تعريب النقش اليوناني (لأنه الأكمل) وهو المثال السادس والأخير من معبد بل:
"مدينة تدمر أقامت هذا التمثال لمقيمو بن عجيلو بن فصئيل والملقب هوكايشو لأنه كان محبوباً لديها ولدى الآلهة نظيرَ تقدماته التي قربها للهيكل من كيسه الخاص وهي كأس القرابين والمبخرة الذهبية بقيمة 150 ديناراً والقُرَب الأربع الذهبية المنقوشة بقيمة 120 ديناراً وغطاء ووسادة السرير المشتراة بمبلغ(كذا) ديناراً فضياً، وذلك تكريماً له وشهادة لإحسانه عام 362 في شهر آذار ." أي عام 50 الميلادي.
لاحظوا أن هذا المواطن استحق تمثالاً لعطاءاته التي كانت قيمتها تفوق بقليل مبلغ 270 ديناراً.
ثامناً. تكريم من مجلس الشيوخ فقط دون مجلس الشعب:
سبق أن وقفنا في معبد بِل على تكريم لأحد المواطنين من قبل مجلس الشعب دون مجلس الشيوخ، والآن سنرى معاً تكريماً لشخص آخر من قبل مجلس الشيوخ دون مجلس الشعب. فعلى قاعدة تمثال محفوظة في باحة متحف تدمر القديم نصّان يوناني وتدمري نُعَرِّبُ التدمري فيما يلي:
" هذا التمثال هو لأبجر بن فطروقليس الملقب عستورغا بن لقيشو من بني ميثا أقامه له مجلس الشيوخ تكريماً له نظير محبتهم له في شهر آذار من عام 395." أي عام 84 الميلادي.
ننتقل إلى شارع الأعمدة حيث الكثير من التكريمات، ونكتفي بهذا المثال منها مقتصرين على ذكر الأسماء والألقاب والمناصب والتواريخ فقط تجنباً للإطالة.
وإلى محطتنا الأخيرة في باحة الأغورا أو السوق العامة حيث نقتطف بضعة أمثلة نختتم بها هذا البحث.
ومن جدار الأغورا الداخلي تبرز ناتئة حجرية (قنصلية) طويلة يبلغ طولها نحو المترين تحمل نقشين كتابيين مطولين: يوناني إلى اليسار وتدمري إلى اليمين. ونستقرئُ من هذين النقشين أن هذا الإفريز الطويل كان يحمل أربعة تماثيل تُكَرِّمُ شخصاً واحداً، أي أربعة تماثيل لشخص واحد.
تاسعاً: يبدأ النص اليوناني على النحو التالي:
άήή
أي بأمر مجلس الشيوخ والشعب. والنص التدمري المقابل." بتوحيت بولا ودموس ." أي بإيحاء أو بتوجيه من مجلس الشيوخ والشعب. والنص طويلٌ لا مبرر لقراءة ترجمته بشكل كامل ولكنه يتلخص بأنه يُكَرِّمُ شخصاً واحداً اسمه عجيلو بن مقي عجيلو شويرا بأربعة تماثيل له قَدَّمَتْ كلَّ واحد منها إحدى العشائر الأربع الرئيسة في تدمر (دون ذكر اسمها) وذلك للحماية الأمنية التي كان يوفرها لقوافل التجارة بخفرها ولإنفاقاته السخية وقيامه بأعمال مجيدة ومشرفة لمدينته على حد ما جاء في النصين اليوناني والتدمري وكان تكريمُهُ بشهر طبت من عام 510 أي كانون الثاني من عام 198 الميلادي [أي إبان فترة حكم الإمبراطور سبتيميوس سيفيروس الذي تزوج من الأميرة الحمصية جوليا دومنا] ونقول هنا إن العشائر التدمرية الأهم كانت بني متبول و بني معزين وبني ميثا وبني كمرا وبني يديعبل وبني إيلاهبل وبني زبدبول وبني زبود .. وأرجح الظن أن العشائر الأربع الأولى هي التي كَرَّمَت المواطن عجيلو هذا.
عاشراً. ضابط يحظى بتكريمين مستقلين كلٍّ على حدة:
اسم الضابط ماكيليوس أكيليوس مقيمو بن سرغيا أثينوذوروس وهو برتبة قائد ألف وكان يشغل منصب آمر الحامية الفراتية العاشرة ومنصب مرزبان منطقة البتراء وقد أقامه له مولبيوس ماليكوس تكريماً له.
وقنصلية أخرى تحمل تكريماً مماثلاً للضابط نفسه من قبل شخص أو جهة لم نعرفها بسبب اختفاء بقية النص.
طبعاً، كل الأمثلة التي سقتُها كانت نماذجَ فقط اخْتَرْتُها بعناية من جملة النصوص التكريمية التدمرية. وأرجو أن أكون قد وُفِّقْتُ في اختيارها. ولا شك أنها سَلَّطَتِ الضوء على زوايا جديرة بالاهتمام من تاريخ مدينتنا العظيمة تدمر وأَوْضَحَت كم من الاهتمام والاعتبار كانت هذه المدينة توليه لمواطنيها على اختلاف شرائحهم ومراكزهم واختصاصاتهم، كما سَلَّطَت بعض الضوء أيضاً على نشاطات وفعاليات المجتمع التدمري في القرون الميلادية الأولى.
في خاتمة هذا البحث، لا أعلم بالضبط ما هي الانطباعات التي تولدت لدى القارئ الكريم لجهةِ معاني ومدلولات هذه القراءات التكريمية من الوجهة الحضارية والإنسانية التي حملتها هذه المدينة السورية الأعجوبة كما يوحي اسمُها بالآرامية. إلا أنني أقدِّر أنَّ هذه الانطباعات هي إيجابية ومفيدة لنا جميعاً على الصُّعُدِ المعرفية والحضارية والقومية على حدٍّ سواء.
وختاماً أتساءل، من منظوري الشخصي البحت، إن كان بالإمكان أن نحتذي حذو أسلافنا التدمريين بتكريم مواطنين سوريين مستحقين للتكريم بجدارة، ليس بإقامة تماثيل لهم بالضرورة، بل بإطلاق أسمائهم على شوارع أو مدارس أو حدائق أو مرافق أخرى على حياتهم مثلاً، أقصد قبل رحيلهم ؟؟!! فهل هذا مفيد؟ أم إنَّ المسألة تحتمل الجدل بين الرأي والرأي الآخر؟
Bibliography:
1. Inventaire des Inscriptions de Palmyre. Fascicules I-XII. Publications de la Direction Générale des Antiquités et des Musées de la République Arabe Syrienne.
2. Inv X, 44 (PAT 1378; voir Seyrig 7, 139: grec seulement).
3. PAT 0208; BS 60, M. Gawlikowski, 1990.
4. Our Personal Observations on site, Remarks and Corrections on Previous Readings by other Epigraphists.
المصدر : العدد 40 تشرين الأول 2010