كنت في بيروت منذ سنوات أحاضر عن تجربتي في جراحة الدرق، وأثناء ذلك قلت إن كوخر قد مُنح جائزة نوبل للطب بسبب أعماله على الدرق وأنه أول من أجرى جراحة سليمة على الدرق وهو أكثر الجراحين الذين قاموا بإجراء هذه الجراحة.
علماً أنه حدثت مآسٍ لمرضاه لاحقاً حيث أصيب قسم كبير منهم باختلاط قصور الدرق وهي حالة شديدة لم يكن لها علاج في ذلك الوقت، وأثناء النقاش قام أحد الجراحين من أميركا وقال لي إنك لم تقرأ تاريخ الطب جيداً وإن أجدادك ومنهم أبو القاسم الزهراوي الذي أجرى أول جراحة للدرق منذ ألف عام.
وفي الواقع فوجئت بذلك وطلبت منه المراجع التي تقول إن الزهراوي كان يسمِّي الدرق بالبثعة وهو أول من أجرى هذا النوع من الجراحة بأدوات بدائية بالنسبة إلينا في الوقت الحاضر وأن ثلاثة من مرضاه قد فقدوا صوتهم.
لذلك أوصى لاحقاً بعدم إجراء هذا النوع من الجراحة لأنها تفقد الصوت وكانت أدواته هي سكين من الفضة وأدوات يكوي بها أماكن النـزف لإيقافه ولم يكن في ذلك الوقت التشريح معروفاً كما نعرفه الآن ولم يكن معروفاً أيضاً إنه يوجد عصب اسمه العصب الراجع وهو فرع من العصب المهم (العاشر) وهذا العصب هو مسؤول عن تعصيب الحبل الصوتي لذلك فإن أذية هذا العصب تؤدي إلى بحة أو زوال الصوت.
وإذا كانت الإصابة بالجانبين فقد يختنق المريض ويموت إذا لم تجرَ له عملية خزع رغامى وتجاوز الحنجرة التي يوجد بها الحبال الصوتية المسؤولة عن الصـوت.
نحن لا نقرأ تاريخنا ولا نعرف الكثير عن علمائنا القدماء، وكثير من الأوربيين لا يذكرون ذلك في كتبهم ويقولون إن العصور المزدهرة لنا هي عصور التخلف والانحطاط.
وحين رجعت من بريطانيا صرت أقوم بجراحة الدرق كما تعلمتها هنالك وكانت العملية تستغرق مني أكثر من ساعتين، وأثناءها جاء إلى المشفى الذي أعمل به طبيبٌ زائر من ألمانيا الشرقية (من برلين) وقال إنه أكثر جراح قام بهذه العملية في العالم حيث كان قد أجرى أكثر من 15 ألف عملية على الدرق وعندها طلبت منه أن يجري العملية كما يجريها بألمانيا ويسمّي هذه الطريقة بطريقته...
وكانت العملية سهلة وسلسة وأعجبتني وتعلمتها منه وعلمتها لكثير من طلابي وأصبحنا نسمي هذه العملية بطريقة فوزي الشامي في جراحة الدرق.
ولكن مع الزمن استطعت أن أطلع على طريقة الزهراوي بجراحة الدرق فوجدت أن الألماني يقلد طريقة الزهراوي، ولكن بطرق حديثة وآلات حديثة تجعل هذه العملية سلسلة وسهلة ويمكن لأي جراح إجراؤها دون اختلاطات علماً أن كثيراً من مرضى الدرق في بلادنا قد فقدوا صوتهم نتيجة إجرائها من قبل أطباء خبرتهم محدودة في هذا المجال، وكثير من المرضى يخافون على صوتهم ويتهربون من هذه العملية. ولن أتطرق لهذه العملية بالتفصيل ولكن أقول إنني قد أجريت الآلاف منها بهذه الطريقة وباختلاطات أقل من المعتاد وقد حاضرت عن تلك الطريقة في بيروت وبغداد والكويت.
إن طريقتنا رُدت إلينا فحبذا لو نقرأ التاريخ جيداً ونتعلم منه ونطوره ونجعله طيعاً لنا بالأدوات الموجودة حالياً مع الاستفادة من التطور العلمي.
ولد أبو القاسم في الأندلس 1030 وتوفي 1106.
وأهم كتاب له هو كتاب التصريف لمن عجز عن التأليف ويقع في ثلاثين جزءاً وقسم كبير منه ضاع، وبقي منه القسم المتعلق بالجراحة، وميزة هذا الكتاب أنه زيّن بصور للأدوات الجراحية التي كان يستعملها وفيه شرح مفصل للعمليات الجراحية العامة وأمراض العيون وطب الأسنان وأمراض النساء وجراحة العظام.
وكثير من الجراحين في أوربا استفادوا من الزهراوي وخاصة الطليان وهم الذين نقلوا علومه إلى فرنسا، وقد ترجمت كتبه إلى اللاتينية والعبرية والإيطالية والفرنسية والإنكليزية، وإن صورته مع زميليه ابن سينا والرازي تزيّن كاتدرائية ميلانو بإيطاليا.
وهو يعتبر الجراح الأول في عصره وبعد ذلك لمئات السنين، وبقيت كتبه تدرس في أوربا لمئتي سنة خلت.
وكانت أبحاثه تكتب كما جربها فإن لم تنجح التجربة يلغي العملية ويوصي بعدم إجرائها ومن ميزات هذا الجراح العظيم:
1- أنه كان ملماً بالتشريح وكان يقول للأطباء لا تجروا الجراحة إذا لم تعرفوا تشريح المنطقة جيداً ويذكر بعض المؤرخين أنه قام بتشريح الجثث وكان هذا ممنوعاً في زمانه والذي يدل على معرفته بالتشريح أنه أول من قام بربط الشرايين لإيقاف النـزف ولهذا فهو كان يعرف طريق الشرايين وطريق الأوردة.
وكذلك كان يعرف طبقات وعناصر كل عضو في الجسم لهذا كان يستأصل الشيء الزائد دون أن يقوم بثقب الأحشاء أو إيذائها.
وكان في كتبه يشرح الاحتياطات اللازمة التي يجب أن يقوم بها الجراح حتى لا تحدث عنده اختلاطات قد تؤدي إلى وفاة المريض.
2- كانت لديه سجلات يصف فيها حال كل مريض، ويذكر بالتفصيل كل الإجراءات التي كان يقوم بها لذلك فهو أب للسجلات الطبية وتقارير العمل الجراحي وهذا لم يُذكر عن أحد قبله.
3- أما عن الأورام فهو أول من ذكر وفرّق بين الأورام السليمة والأورام الخبيثة وكان يعالج السرطان في بدايته بالجراحة؛ ولكنه يقول: إنه لم يستطع أن يشفي أي مريض مصاب بالسرطان المتقدم وخاصة المتقرح أو الذي مرّ عليه فترة من الزمن أما الأورام السليمة فكان يشفيها بسهولة.
4- أما الأمراض التي تكلم عنها فمنها مرض الناعور وهو مرض دموي خطير ينتقل بالوراثة وإذا تعرض المريض لرض أو جرح فإن الدم لن يتخثر وسوف يموت بالنـزف ووصف كل ذلك بالتفصيل ولم يكن له علاج عنده... لذلك نصح بعض العائلات التي يصيبها هذا المرض بعدم التزاوج بينها.
5- ويذكر أنه عالج الإحليل التحتي والإحليل الفوقي وقال حينها: إن هذه الأمراض تسبب العقم عند الرجال إذا لم تعالج لأن المني لن يذهب باتجاه مستقيم، ولهذا كانت له طرق خاصة لإعادة مسير الإحليل إلى الطبيعي وبذلك يتغلب المريض على مشكلة العقم.
وكذلك كان يعالج القيلة المائية لأنه كان يستأصل الصفاق الحاوي على السائل.
6- كان قد توصل إلى طريق لشق خراجات الكبد وإخراج القيح إلى خارج الجسم وقد نجح في علاج العديد منها في عصر لم يكن فيه لا صادات ولا غيرها. وكان يستطيع أن يستخرج السائل من بطن المصاب بالحبن.
وله عمليات كثيرة جداً وطرق مبتكرة تدل على أنه:
1) مبتكر من الطراز الأول.
2) تجريبي – يجرب ما أجرى غيره ويعدل.
3) واسع الاطلاع على علوم الهند واليونان والصين.
4) توثيق كل شيء والاطلاع على ذلك بين الفترة والأخرى.
5) ذو نفَس طويل ودقيق لا يمل ولا يكل وغير طماع.
لقد قيل عنه من قبل المستشرقين ما يلي:
- إنه أعظم جراح عربي أنجبته الأمة الإسلامية.
- إن كتابه قد طغى على كتاب ابن سينا في تلك الفترة.
- الكتاب الجراحي الأول الذي فيه رسوم للآلات الجراحية التي استخدمها وهو قد صنعها بيده. وكان سلاحه الأساسي السكين والكي بالنار، والكي بالنار لإيقاف النـزيف، وقد تطور إلى عدة آلات تستعمل الآن وهي ربط الأوعية الدموية واستعمال المخثر الكهربائي واستعمال الأمواج فوق الصوتية واستعمال الليزر والأشعة تحت الحمراء وغيرها وأساسها هو إيقاف النـزف وإغلاق الأوعية الدموية.
وأخيراً
يجب البحث وتجريب كل شيء وعدم إهمال أي إجراء كان قد استعمل في الماضي لأنه لم يكن عبثاً وكلنا نعلم أن الصينيين قد أعادوا استعمال الإبر الصينية في المعالجة والتخدير بعد أن اندثرت آلاف السنين؛ ولكن قبل أن يتبنوها بعثوا الأطباء إلى كل أنحاء الصين ليبدؤوا بالتجريب والاستعمال وعندما ثبتت جدواها قاموا بنشر أبحاثهم وانتشرت الطريقة في كل أنحاء العالم.
- وعندنا طرق بالعلاج مهمة وهي الكي بالنار وكاسات الهواء وفتح مصرف وهي كلها طرق جراحية يجب تجربتها على نطاق واسع ودراسة النتائج دراسة علمية وإذا ثبت جدواها يجب كتابة ذلك وتعميمه، وباستطاعة أي مؤسسة طبية القيام بذلك.
- المشكلة عندنا أننا أصبحنا نستورد العلم ولا نكلف أنفسنا بالبحث والاستقصاء ولسوء الحظ أن الذين يجربون الطب العربي أكثرهم من الجهلة وليست عندهم أية خلفية طبية ما عدا الربح السريع دون رقابة.
- إن البحث الطبي والتجربة قد لا تحتاج إلى موازنة ولكن تحتاج إلى علماء ومفكرين ذوي أفق مفتوح تكون المادة آخر غاياتهم وما يريدون، ويجب أن يكونوا محبين لبلادهم وشعبهم وإعادة الاعتبار لها.
- وإن الصينيين عندما أعادوا الاعتبار للعلاج بالإبر قام بذلك حفاة الأقدام بالأرياف وتجمعت المعلومات من هؤلاء.
- رحم الله أبا القاسم الزهراوي وحبذا لو نعيد النظر في أدواته الجراحية ونطورها وهي كثيرة وبالعشرات ورسوماتها موجودة في الكتب القديمة.
- يجب إحياء هذا التراث وهذا العلم وقد يكون لنواة عمادها عشرات من شبابنا المتعلم في كليات الطب وهم النخبة هذه الأيام.
المصدر : العدد 40 تشرين الأول 2010