هل بات على الجنس البشري أن ينجز عصر نهضة وثورة تنوير أخلاقية للخلاص من كرادلة المال الذين لا يتورّعون عن حرق الغلاف الجوي الحامي للحياة على الأرض؟
لقد اعتادت أكثر القوى ذات النفوذ في الغرب إلقاء تبعات معظم ما في عالمنا من مشاكل وأزمات على شعوب البلدان الفقيرة والمتخلفة. قليلة هي الأصوات المنصفة التي تجرأت على قول الحقيقة ووضع النقاط فوق الحروف. منها مثلاً صوت العالم البريطاني هاريسون الذي شدد في كتابه (الثورة الثالثة) على أن " أفقر سكان الأرض هم أخفهم وطأة على البيئة ". فهؤلاء الذين يعيشون تحت خط الفقر أو على تخومه، وتضاعف عددهم من مليار قبل ربع قرن إلى مليارين حالياً، لا يملكون أراض يستنزفون تربتها، ولا يتحكمون بغابات يزيلونها في أيام لتحويلها إلى مراع لتربية المواشي تشبع نهمهم، ولا ينفثون مخلفات الاحتراق من مصانعهم وسياراتهم وطائراتهم وتفجير أسلحتهم التقليدية وفوق التقليدية، ولا يدفنون نفاياتهم النووية والكيماوية في مياه البلدان الفقيرة وصحاريها وغاباتها، فيتسببون بنشر أوبئة وأمراض كالذبحة الصدرية والسل وأمراض الدم والكبد وتدمير المناعة والجهاز العصبي والتنفسي والأمراض الجلدية والنفسية، ويثقبون طبقة الأوزون ويتسببون برفع معدل حرارة كوكبنا وأجوائه ومياه بحاره، فيذوب جليد القطبين ويرتفع منسوب مياه المحيطات والبحار مهدداً بإغراق معظم المدن والمناطق الساحلية بعد حين.
حذر كثيرون من عواقب إرهاق الأرض واستنزافها وتلويثها، وتلاحقت إنذارات علماء وخبراء ومفكرين بأن جشع قلة من البشر يدفع كوكب الأرض إلى كارثة تصيب أضرارها الجميع.
مع ذلك، لم يكترث الذين أعمى عشق الكسب السهل السريع بصائرهم وأبصارهم، وأسر ضمائرهم في شرنقته، بمثل هذه التحذيرات. خرج من هؤلاء من راح يدعو إلى (تطويع الطبيعة)، ثم ظهرت دعوات أشد وقاحة وغطرسة واستهتاراً إلى (قهر الطبيعة)! وهكذا تراجعت مساحة الأرض المغطاة بالغابات مثلا من 16 مليون كيلومتر مربع في مطلع القرن العشرين إلى أقل من سبعة ملايين عند غروبه، وتفاقم التصحر في إفريقيا وضمرت غاباتها ومزارعها. وفي المقابل، تضاعف الإنتاج الصناعي في النصف الأول من القرن العشرين، ثم تضاعف أربع مرات في النصف الثاني منه، وتوقعت دراسات الأمم المتحدة تضاعفَ هذا الإنتاج مجدداً عشر مرات في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين! أدى هذا إلى تركز كمية من غازات ثاني أكسيد الكربون والميثان وحامض الكلوريك والكلور في غلاف الأرض الجوي خلال آخر عقدين من القرن العشرين بأكثر مما تركز في مئة وستين ألف سنة خلت! كيف يستهتر البشر، وكيف تستهتر الحكومات والقيادات وأصحاب النفوذ الظاهرين والمستترين بمصير عالمنا إلى هذا الحد ؟
قال روب واطسون، الذي كان يرأس واحدة من كبرى شركات التكنولوجيا، إن الطبيعة ليست أكثر من مركب من فيزياء وكيمياء وأحياء، وبالتالي لا نستطيع تغيير طبيعتها أو رشوتها أو تملقها أو تجاهلها... الطبيعة آخر من يغضب ويضرب، لكنها مدمرة عندما تغضب فتضرب!
تكثر النماذج المماثلة المعبرة عن قلق مفكري الحضارة الغربية التي تحتكر مجتمعاتها 97% من الموارد المخصصة للإنتاج التكنولوجي تاركة لأكثر من مئة وثمانين دولة نامية وساعية إلى النمو3% فقط من تلك الموارد، مجسدة التصحّر الإنساني المتوالد من رحم حضارة جعلت إلهها عجلاً ذهبياً! ولأن عالمنا واحد، وبالتالي فالتخريب الذي يتسبب به جشع المهيمنين لا يمكن حصره بمنطقة معينة، مهما ابتعدت هذه المنطقة عن بلادهم، شهدنا كيف بدأ غضب أمّنا الطبيعة يرتد انتقاماً من هؤلاء المتسببين بالتخريب في بلادهم التي توهموها محصنة بالجيوش والتكنولوجيا والتفوق الفطري المزعوم! ومن أبرز أسباب الخلل الذي تسببت به كبرى القوى والدول والشركات الصناعية تحتكر معظم المخترعات والابتكارات ذات الاستعمال المدني أو المزدوج مما أنتجته أصلاً مختبرات ومراكز بحث لمؤسسات عسكرية ومصانع أسلحة في تلك الدول والشركات الكبرى التي لا تتورع عن شن حروب والدفع إلى أخرى من أجل مصالحها الاقتصادية دون اكتراث بما تسببه من تدمير وإبادة جماعية في البلدان الصغيرة.
المليار الذهبي
كررنا الإشارة إلى أن المجتمعات الصناعية التي تشكل ربع سكان العالم تستهلك ثمانين في المائة من الطاقة، ويستهلك فقراء العالم الذين يشكلون ثلاثة أرباع سكانه خمس الطاقة المستهلكة بكل أشكالها وفق دراسات منظمة أوكسفام التابعة للأمم المتحدة. ويستهلك الفرد الأمريكي ما يزيد على أربعمئة وعشرين ضعف استهلاك الفرد الإثيوبي من الطاقة، بل وثلاثة أضعاف استهلاك الفرد الياباني أيضاً، كما يستهلك الفرد الأمريكي ألف ليتر من الماء يومياً، بينما لا يستهلك الفرد في مجتمعات الجنوب التي تشكل ثلاثة أضعاف البشر سوى عشرين لتراً في اليوم لشربه وكل الاستعمالات المنزلية والزراعية والصناعية. نعيد التذكير بهذا مجدداً، وبما تتكاثر الدعوات جهراً إليه من ضرورة التخلص من(الغبار البشري) أو (الفائض البشري)، للإبقاء فقط على (مليار ذهبي) من نخبة المجتمعات الغنية، بالإضافة إلى قوة عاملة تخدم هذه النخبة بأدائها الأعمال المتدنية، حلاً لمشكلة قصور الموارد، وحَدّاً من تكاثر البشر (1). يحدث هذا بدلاً من أن يتجه أصحاب تلك المدارس والمذاهب ومجتمعاتهم إلى الإسهام الإيجابي في تقليص أعداد الفقراء الذين يموت خمسون ألفاً منهم يومياً نتيجة شرب مياه ملوثة، ويموت سبعون مليوناً منهم سنوياً نتيجة مجاعات وسوء التغذية، وهذا رقم يقفز سنوياً قفزات هائلة.
تكاثرت منظمات ومجموعات ترفع شعار الدفاع عن الطبيعة وحماية البيئة على امتداد العالم، لكن تعقيدات حياتنا المعاصرة وباطنية كثير من علاقاتها وتوازناتها - التي تضمر غير ما تظهر وتزعم – أو تضل السبيل السوي حتى لو حسنت نواياها، على نحو ما بيَّن الله عز وجل في كتابه العزيز من أمر " الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " (الكهف: 104)، عوامل تجعل للحذر والتمعن والتدبر والتفكر إلحاحاً مضاعفاً.
نقف عند ملاحظة أوردها ديفيد إدواردز في مقالة له قال فيها: " لطخت الأوبزيرفر أخيراً الناشطين والمدافعين عن البيئة بتسليطها الضوء على تحذيرات الشرطة مما أسمته الخطر المتنامي للإرهاب البيئي الذي تقوده مجموعة تدعى (الأرض أولاً)!، وادعت الصحيفة أن هذه المجموعة لديها مناصرون يعتقدون أن تقليص عدد سكان الأرض بنسبة 80% من شأنه أن يساعد على حماية كوكبنا. ألمحت الأوبزيرفر ثلاث مرات على الأقل إلى أن ناشطي (الأرض أولاً )لا يرغبون في أن يروا نقصاً وخفضاً هائلاً في عدد السكان فحسب، ولكن ربما يكون لديهم استعداد للعمل من أجل تحقيق هذا الهدف. وفي ردهم على الصحيفة قال أربعة أكاديميين مدافعين عن البيئة: " في نهاية التسعينات بدأ بعض الساسة ووسائل الإعلام الأمريكية في نعت نشطاء البيئة بالإرهابيين، وكانت هذه بداية حملة منظمة لخطط وسياسات القمع، وتنظيمات وقوانين جديدة للحد من انتقاص الحريات المدنية الأساسية.
إن العمل المباشر Direct Action، الحركة السلمية المدافعة عن المناخ والبيئة، هي طريقة فعالة للضغط من أجل التغيير السياسي. وتعمل الأوبزيرفر على مقارنة وربط هذه الحركة بالإرهاب وبالتالي تساعد الصحيفة على إحجام المجتمع عن تقديم الدعم للحركة التي هي في أشد الحاجة له. وبخبث تمهد الأوبزيرفر لاحتمال أن تلجأ الأجهزة الأمنية لسحق هذا الشكل من المعارضة، وحينها سيكون المجتمع أقل استعداداً وقابلية لمعارضة أو مجابهة الأجهزة الأمنية لأنه سيكون عندها مقتنعاً بإيهامه الخاطئ بأن خطر حركة( إرهابيي البيئة) قد تم تجنبه."(2) في هذا الصدد يقول كيفن سميث: " إن المتطرفين الحقيقيين هم الشركات أمثال (إي أون، E.on وBAA شركة المطارات البريطانية العملاقة) التي تعتمد على تحقيق أرباحها عبر زيادة انبعاثات الغازات السامة مثل CO2، وحرق مزيد من الفحم وبناء مدرجات أكثر للطائرات، والحكومة التي تمنحهم العطاءات.
كان ألكسندر ستيل Alexander Stille مصيباً إلى حد بعيد عندما حذر في كتابه المعنون (مستقبل الماضي) من تهديد عصر المعلومات المتزايد والمتصاعد بتدمير التراث الثقافي للمجتمعات، في تكامل مع التدمير البيئي الذي مارسته الثورة الصناعية. قال ستيل إن المسألة تتعدى تأثيرات التلوث الناجم عن التوسع الصناعي على البيئة وصحة المجتمع والتراث والآثار والعلاقات الاجتماعية، فالتخريب الذي يتعرض له التراث الوطني والتراث الإنساني متعدد الأبعاد والأدوات والجوانب. يفرض التحديث مثلا قطيعة بين القديم والجديد على نحو يقضي على الخصائص الذاتية التي توارثتها المجتمعات المختلفة في الزراعة والبناء والصناعة والتبادل التجاري وطرق التفكير والتواصل الإنساني والسلوك الفردي والجمعي. وهكذا أدى طغيان الاتجاه نحو التحديث إلى اختفاء طائفة الحرفيين والصناع المهرة والمشتغلين بالمهن اليدوية، مما جعل الإبداع يتراجع إلى حد التلاشي لصالح تنميط جليدي فرضه الاندفاع نحو التصنيع السريع ذي الإنتاج الضخم المحكوم بمراكمة أقصى قدر من الأرباح بأقصر وقت ممكن وبأسهل السبل.
سبق أن حذر نعوم تشومسكي من أن الكارثة البيئيّة التي ستهدد بقاءنا على قيد الحياة في المستقبل لا تقلّ خطورة عن الأسلحة النووية. وقال إن أي مقاربة في هذا الإطار تتطلب تغييرات اجتماعيّة- اقتصاديّة ملموسة. وهو وإن كان يتحدث في رؤيته لواقع المجتمع الأمريكي وأزمته المتفاقمة مخاطباً هذا المجتمع بقوله: " من المؤلم أن نصور أنفسنا كدولة تفرط في عقلانيتها أو هدوء مزاجها.... إن الكارثة البيئيّة التي ستهدد فعلياً بقاءنا على قيد الحياة في المستقبل غير البعيد لا تقلّ عن الأسلحة النووية خطورةً. ولا شكّ أن أي مقاربة جديّة في هذا الإطار تتطلب تغييرات اجتماعيّة - اقتصاديّة ملموسة، إلى جانب تكريس مصادرنا للابتكارات التكنولوجيّة، لاسيما تعزيز الطاقة الشمسيّة" (3)، فإنه قد لمس عملياً واقعاً بيئياً محفوفاً بالمخاطر يشمل البشرية بأسرها في ظل تقلص مستمر لإمكانيّة الولوج إلى الموارد الأساسيّة لحياة الإنسان كالمياه والقدر الكافي من الطعام. صحيح أن إلحاح تطبيق حلول قصيرة الأمد، مثل تحلية المياه وتحسين سبل إدارة المياه، وتطوير التقنيات اللازمة لزيادة كفاءة استخدام المياه، وتنفيذ استثمارات جديدة في هذا القطاع، إضافة إلى ترشيد الاستهلاك، هي خطوات تستوجب اهتماماً أكبر وتركيزاً عاجلاً، إلا أن الحلول بعيدة الأمد مطلوبة بدورها، على نحو متوازن لا يقتصر عل مجتمعات غنية متقدمة دون سواها، أو على طبقات تستحوذ معظم الثروة فحسب، وإنما تنظر من منطلق إنساني يعتبر البشر جميعاً متساوين في حق الحياة. وهنا نتفق مع تشومسكي إذ أكد أنه كلما تأخرنا في معالجتها، كلما ازداد الثمن التي ستضطر الأجيال المقبلة إلى دفعه.
المياه.. المياه!
وهنا تستحق أزمة المياه المتفاقمة في أقاليم واسعة تشمل معظم بلدان آسيا وإفريقيا وقفة تمعن.
لقد تسببت نُدرة المياه في اشتعال أو إذكاء نار العديد من الصراعات والحروب، وتهدد بصراعات وثورات وحروب قادمة، من تشاد إلى دارفور في السودان، إلى صحراء أوغادين في إثيوبيا، إلى الصومال، مروراً اليمن والعراق وباكستان وأفغانستان، ناهيك عن الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى. فهذه الدول تقع جميعها في إطار قوس عظيم من الأراضي القاحلة حيث تؤدي ندرة المياه إلى تلف محاصيلها ونفوق قطعان الماشية وتفاقم الفقر في مجتمعاتها. ومثلما كانت المياه بعداً رئيساً في برنامج الغزوة الصهيونية لاغتصاب فلسطين والتمدد في الجولان وجنوب لبنان نهباً لمصادر المياه السطحية والجوفية، سوف تكون المياه عنصر تفجر رئيس في مستقبل الصراع العربي ضد هذه الغزوة الصهيونية. ولئن تمكن الكيان الصهيوني مدعوماً من الولايات المتحدة الأمريكية من جعل الحكومة المصرية تنفذ مشروع قناة لجر كميات من مياه النيل عبر سيناء إلى جنوب فلسطين المغتصبة، في وقت اشتدت شكوى دول منابع النيل الإفريقية من عدم كفاية الحصص التي قررتها بريطانيا لها من مياه النيل قبل استقلال تلك الدول، فإن الحروب المتوقعة في سياق الصراع على المياه قد لا تتأخر كثيراً.
لقد أوضح تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية العربية المعلن في تموز 2009 أن ندرة المياه وتغير المناخ في البلدان العربية وما ينجم عنهما من تفاقم التصحر الذي يهدد 87ر2 مليون كيلومتر مربع من الأرض العربية، أي نحو خمس المساحة الإجمالية، يمثل تهديداً خطيراً للأمن الإنسان العربي. إن مجموع الموارد المائية السطحية المتاحة حالياً في الوطن العربي هو نحو 277 مليار متر مكعب، لا ينبع منها في الأرض العربية سوى 42%، وبالتالي فإن دول الجوار تتحكم بنحو 58% من المياه السطحية التي يعيش العرب عليها. بل إن هذه النسبة ترتفع إلى مئة في المئة في حالات السودان ومصر والعراق. أما المياه الجوفية فتتعرض إلى نضوب متسارع، يضاف إليه خطر آخر هو تزايد نسبة تلوث المياه الجوفية نتيجة إساءة تصريف مياه الصرف الصحي والنفايات الكيماوية والصناعية، ناهيك عن انتشار مدافن سرية وعلنية لنفايات نووية وكيماوية وصناعية بالغة السمية يتم التواطؤ مع شركات أوربية لدفنها في عدد من البلدان. وزاد من التلوث الكيماوي والإشعاعي الحربان اللتان شنتهما القوات الأمريكية وحلفاؤها على العراق سنة 1991 وسنة 2003، وحروب الكيان الصهيوني المستمرة ضد لبنان والشعب الفلسطيني.
القتل بالصواريخ والقتل عطشاً
كتب جيفري دي ساش، عن إنفاق الولايات المتحدة، وأوروبا، عشرات بل مئات المليارات من الدولارات لإرسال القوات أو القاذفات لقمع وسحق الانتفاضات أو لاستهداف ما يسمى- الدول الفاشلة -، ولكنها لا ترسل ولو 10% أو حتى 1% من هذه المبالغ لمعالجة الأزمة الأساسية المتمثلة في ندرة المياه وتأخر التنمية.. أصدرت هيئة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة مؤخراً تقرير تنمية المياه في العالم لعام 2009 وأصدر البنك الدولي نتائج دراسات مكثفة أجراها في الهند تحت عنوان (اقتصاد المياه في الهند: الاستعداد لمستقبل عامر بالاضطرابات)، وفي باكستان تحت عنوان (اقتصاد المياه في باكستان: الجفاف القادم)، وأصدرت جمعية آسيا مراجعة لأزمة المياه في آسيا تحت عنوان (التحدي القادم في آسيا: تأمين مستقبل المياه في المنطقة). أما عن أزمة المياه في الوطن العربي فخطرها جاد وحقيقي يهدده بأكمله، بما فيه العراق الذي اشتد عطش أهله ومزارعه، ومصر والسودان اللذين ينتظر أن يتسرب جزء كبير من مياه النيل بعيداً عن أفواه سكانهما بموجب واحد من أشد فصول لعبة الأمم خطورة وبذاءة. أن صرخات الاستغاثة التي انطلقت من جنوب العراق ووسطه منذ صيف العام 2009، نتيجة جفاف مجرى نهر الفرات هناك، وقبلها صرخات سكان الأردن المتكررة لعدم توفر مياه الشرب بعدما سحبت مشاريع غزوة الاغتصاب الصهيونية معظم مياه نهر الأردن وروافده وتعمدت تلويث ما تبقى منها، جديرة بأن توقظ الغافلين بيننا. كذلك هي الأزمة داهمة في سائر الأقطار العربية. لقد أصبحت إمدادات المياه في تضاؤل مستمر في أجزاء ضخمة من العالم، خاصة في المناطق القاحلة. وتعكس أزمة ندرة المياه المتفاقمة نضوب المياه الجوفية، والنفايات والتلوث، والتأثيرات الهائلة المتزايدة الخطورة الناجمة عن تغير المناخ نتيجة لأنشطة بشرية. أن العواقب مروعة: فالجفاف والمجاعة، وخسارة سُبل العيش، وانتشار الأمراض المنقولة عن طريق المياه، والهجرات القسرية، بل الصراعات المفتوحة. لابد أن تشتمل الحلول العملية لهذه المعضلة على العديد من العناصر، بما في ذلك تحسين سبل إدارة المياه، وتحسين التقنيات اللازمة لزيادة كفاءة استخدام المياه." (4)
ارتفع عدد سكان باكستان مثلاً من 42 مليون نسمة في عام 1950 عقب استقلالها مباشرة إلى 190 مليون نسمة اليوم. وينتظر أن يبلغ عددهم 335 مليون نسمة في العام 2050 طبقاً لتوقعات دراسات الأمم المتحدة. وقد نضبت معظم المياه الجوفية التي يعتمد معظم المزارعين عليها في زراعاتهم، وأكثر من هذا فإن الأنهار الجليدية التي تغذي أنهار باكستان قد تذوب تماماً بحلول عام 2050 نتيجة للانحباس الحراري في العالم.
وبينما تحتكر الدول الصناعة الغربية نحو 97% من الامتيازات العالمية كافة، وتملك الشركات الدولية عابرة القارات 90% من امتيازات التقنية والإنتاج والتسويق، ويذهب أكثر من 80% من أرباح إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر في البلدان النامية إلى عشرين دولة غنية. يظن ناهبو ثروات العالم أن هذا الوضع عنوان من عناوين نجاحهم، بينما لا يجد نحو نصف سكان البلدان النامية مياه شرب نظيفة صالحة للشرب ولا، يجد ربعهم أي سكن، ويفتقر أكثر من20% منهم لأي خدمات صحية الاعتيادية وتتزايد أعداد أطفالهم المحرومين تماما من التعليم. وقد انزلق ثلاثة مليارات إنسان من أصل ثلاثة مليارات وأربعمائة مليون هم شعوب البلدان الفقيرة إلى خط الفقر، بمعدل دخل فردي يقل عن دولارين أمريكيين في اليوم، بل فيهم 2.1 مليار باتوا تحت خط الفقر، إذ يحصل كل منهم على أقل من دولار واحد يوميا!(5).
يا أمة تستورد ثلثي طعامها!
لا نزال نحن العرب نستورد ثلثي طعامنا، وبالتالي نرهن حياتنا للمتحكمين بتصدير غذائنا إلينا، على الرغم من دعوات واقتراحات وقصائد وشعارات وقرارات ظلت طوال عشرات السنين حبراً على ورق، عناوينها إقامة وحدة اقتصادية عربية وتكامل اقتصادي عربي وسوق عربية مشتركة وأمن غذائي عربي واستثمارات زراعية عربية مشتركة تقام في ملايين الكيلومترات المربعة من الأراضي الصالحة للزراعة، وخاصة في السودان الذي يطلق عليه لقب " سلة غذاء العالم "(!) فاجأتنا أزمة الغذاء العالمية الراهنة دون أن نكون قد أنجزنا شيئاً يستحق الذكر من تلك القرارات والشعارات والاقتراحات. بل ازداد ارتفاع الأسوار والحواجز البينية واتسعت الخنادق مكرسة تجزئة الوطن العربي وتمزقه، انضباطاً والتزاماً بما رسمه مارك سايكس وجورج بيكو من خرائط تمزق العرب أرضاً وبشراً واقتصاداً ومساراً.
من العوامل الخفية الرئيسة في أزمة الغذاء العالمية الراهنة أحد القوانين التي تحكم النظام الرأسمالي المعولم، وهو قانون يقول إن كل ما يتم اختراعه أو اكتشافه يجب إنتاجه، وكل ما يتم إنتاجه يجب تصريفه وتأمين أسواق استهلاكه. وقد توصلت أبحاث الهندسة البيولوجية والبيوتكنولوجية إلى تطبيقات تتيح التحكم بجينات (مورثات) المواد الزراعية على نحو يزيد من كمياتها المنتجة وأوزانها وأحجامها ومواصفاتها من خلال إدخال تعديلات على تلك المورثات. أتاح هذا مضاعفة الكميات المنتجة في الولايات المتحدة وكندا من مواد كثيرة، وخاصة القمح والأرز وفول الصويا والذرة والحليب ومشتقاته، فتدفقت تلك المنتجات إلى الأسواق العالمية بإشراف أمريكي مباشر.
نشطت تحركات منظمات علمية وأهلية تحذر من أخطار كوارث وأوبئة جديدة مماثلة لجنون البقر. فبينت استطلاعات الرأي عندئذ أن ثمانين في المئة من الأوربيين ونحو ستين في المئة من الأمريكيين يرفضون قطعياً استهلاك الأغذية المعدلة وراثياً. وهنا كان لا بد للعقلية الرأسمالية الأمريكية من تحرك لتصريف الفائض الهائل من المنتجات المعدلة وراثياً الكاسدة لديها والتي تراكمت في السنوات الأخيرة. جاء الحل، وفق عدة مصادر، بافتعال أزمة غذاء على امتداد العالم ترتفع الأسعار معها ارتفاعاً يفوق قدرة الغالبية الفقيرة من البشر وبقايا ما كان طبقة متوسطة في المجتمعات الفقيرة، بحيث تضطر مليارات فقراء العالم الذين باتوا مهددين بالموت جوعاً إلى استهلاك الأغذية المعدلة وراثياً، على الرغم من ثبوت أذاها وخطورة العديد منها على صحة الإنسان، عندما تطرح في الأسواق بأسعار أقل من أسعار المنتجات الطبيعية.
نعود هنا إلى الحالة العربية على امتداد الوطن العربي. فقد كررت تصريحات مسؤولين وتجار ومصدّرين صينيين وهنود في وسائل إعلامية عديدة تفسير سبب تدني جودة كثير من منتجات بلدانهم التي تغرق الأسواق العربية، بينما تمتدح مجتمعات بلدان أوربية وأمريكية ما تستورده من نفس تلك الدول! أجمعت تلك التصريحات والتوضيحية على أن كثيراً من المستوردين العرب يشترطون منتجات رخيصة جداً ولو كانت متدنية الجودة، أو تعاني عيوباً إنتاجية أو خللاً تشغيلياً، أو مواد طبية وغذائية شارفت صلاحيتها على نهايتها أو قد انتهت فعلاً، بل حتى نفايات منتجات مخصصة للإتلاف. يقول هؤلاء المصدرون: نحن تجار نلبي رغبات الزبائن، ولا نتحمل مسؤولية ما اختاره هذا المستورد أو اشترطه. نحن نضع أمامه الحقائق، ونكشف له الخصائص والنقائص، وهو الذي يختار، بل يصرّ أحياناً على تخليصنا من بضائع أشبه بالنفايات ليبيعها في بلده. هناك تنتهي مسؤوليتنا وتبدأ مسؤولية المستهلك الذي يجب أن يكون على قدر كاف من الوعي، والسلطات الرسمية والمنظمات الأهلية التي يجب أن تحكم رقابتها وتحمي مواطنيها.
لقد أثبتت الفحوص المخبرية والتحقيقات في عشرات الدول، بما فيها كل الدول العربية أن من المنتجات المستوردة ما قد تعمدت جهات معادية أو جهات مستهترة بتلويثها للتسبب بإصابة المستهلكين بأوبئة وأمراض مختلفة. هذه ليست أوهاماً ولا دعاية شعبوية تعبوية. إنه واحد من وجوه أزمة الغذاء العالمية الراهنة، بمسبباتها وتفاعلاتها وأخطارها.
تجويع متعمّد
يهدف قباطنة الرأسمالية العالمية من وراء افتعال أزمة الجوع وإدامتها إلى جعل العالم بأسره مختبراً عضوياً واحداً تسيطر فيه شركات البيوتكنولوجيا العملاقة على إنتاج الطعام وتصنيعه وتطويره وتسويقه، لتصبح هذه الشركات أقوى قطاع في الاقتصاد العالمي، متفوقة بمراحل على لوبيي النفط والمجمع الصناعي - العسكري فائقي القوة في الولايات المتحدة. هذا ما بدأ يتحقق بالفعل عبر وسيلتين: "تحرير التجارة" وإلغاء دعم الزراعة والمزارعين في العالم الثالث، حيث ثلثي البشر، لجعل هذا العالم معتمداً على كل ما تنتجه الشركات من بذور معدلة جينياً.
شهدت المكسيك والفلبين أولى نتائج تطبيق هذه التوجهات. فجوع المكسيك لا يمكن فهمه من دون تذكّر الحقيقة بأن صندوق النقد والبنك الدوليين، حولا البلاد من اقتصاد مصدر للذرة إلى مستورد لها. القصة بدأت مع أزمة الديون في ثمانينات القرن العشرين، حين أجبرت المكسيك على توسل الدعم المالي لخدمة ديونها. الصندوق والبنك استجابا، لكن لقاء ثمن باهظ: إزالة رسوم الضرائب الحمائية، ووقف الدعم الحكومي للسلع الزراعية. الضربة التي تلقتها الزراعة بسبب ذلك كانت قوية، لكنها لا تقارن بشيء بتلك التي وُجهت لها العام 1994 حين وُضعت اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (النافتا) موضع التطبيق. إذ سرعان ما اجتاحت الذرة الأمريكية أسواق المكسيك، مما قصم ظهر زراعة الذرة المكسيكية، فتحولت المكسيك إلى مستورد صاف للمواد الغذائية. كان هذا أمراً غريباً لبلد اكتشف الزراعة قبل خمسة آلاف سنة.
تكررت القصة نفسها في الفلبين. حيث كان 10% فقط من إنتاج الأرز فيها يخضع للتجارة قبل الأزمة الحالية. لكن الأسعار تضاعفت ثلاث مرات في عام واحد، وتحولت الفلبين فجأة من دولة مكتفية ذاتياً في مجال الأرز، الغذاء الرئيس في البلاد، إلى الدولة الأولى المستوردة له في العالم، مهما ارتفع سعره!
قرأنا للروائية الأمريكية إديث وارتون قولها: " إغناء الحياة ثقافياً أهم بكثير من مجرد المحافظة عليها ". لسنا في وارد التقليل من أهمية إغناء الحياة ثقافياً، لكننا نعتبر أن إغناء الحياة أخلاقياً هو أكثر إلحاحاً، فبهذا الإغناء لا يجرؤ المرفهون على الاستهتار بحياة مليارات من البشر بسبب أنانية من يزعمون لأنفسهم امتيازاً أبدياً وتفوقاً فطرياً يبيح حتى إبادة أمم بأسرها للاستيلاء على أرضها وثرواتها، واسترقاق أمم أخرى وتسخيرها لخدمة قلة مهيمنة.
***
ليست الطبيعة مجرد موئل لحياة البشر.. وإنما هي ضرورة ثقافية وتربوية لهم سابقة على كل ثقافة وحضارة ومجتمع ودولة، فلنتعلّم من الطبيعة لأنها المرجعية الكونية الدائمة المطلقة، وهذا هو شأن قوانينها وحقوقها وظواهرها أيضاً.
هوامش:
(1) د. خير الدين عبد الرحمن، الإنسان أولاّ، الرافد، الشارقة، آب 1997، ص28- 37.
(2) The Future of the Past، دار نشر لاربيكا، 2002.
(3) نعوم تشومسكي، التحدي هو البقاء على قيد الحياة، الاتحاد، أبوظبي30/6/2008، ص28.
(4) جيفري دي ساش، صحيفة اليوم السعودية، 27/4/2009.
(5) د. سليمان صالح، الشرق، الدوحة، 18/3/2009.
المصدر : العدد 40 تشرين الأول 2010